المكان والآخر في كتاب “على دُروب الأندلس”/ بقلم: طارق قديـس 

على خُطى أدباء الرحلات مَشى الدكتورُ سميح مسعود في رحلته الأندلُسِيَّةِ التي أَفْرَدَ تَفاصيلَها على مدى 400 صفحة، هي عَدَدُ صَفَحاتِ كِتاب ” على دروب الأندلس” الصادر حديثًا عن دار “الآن، ناشرون وموزعون”، حيثُ استَطاعَ أنْ يُشَكِّلَّ بِقَلَمِهِ المُحْتَرِف، وحِسِّهِ المُرهَف، وذاكِرَتِهِ المُتَيَقِّظِة، ألبومًا من صُوَرِ اللَحَظاتِ الجَميلَةِ لأَماكِنَ قد وَطأَتْها قَدَماه، لا أحسبُ أحدًا من أبناء العرب الزائرين للمدن الإسبانية قد وصفها مثله من قبل. فَقَدْ أماطَ اللِّثامَ عن مُؤَسَّساتٍ لَفَّها المَجْهولُ عَنَّا، وما كُنّا لِنَعْرِفَ عنها شيئًا لولا زيارة المؤلف لها. منها: “بيتُ العرب”، وهي مُؤَسَّسَةٌ إسبانِيَّةٌ عامَّةٌ تُعْنى بِتَعْزيزِ العَلاقاتِ الإسْبانِيَّةِ العَرَبِيَّةِ ودَعْمٍ لِلُغَةِ التَّفاعُلِ والحِوارِ بين الدُّوَلِ المَعْنِيَّة.
الكتابُ ليسَ مُجَرَّدَ كِتابٍ في أدبِ الرِّحْلات، وإنما هو غَوْصٌ في حَفْريّاتِ الحضارة الأندلسية بحثًا عن مآثرها وأعلامها في التاريخِ القَديمِ، وَوُجودِ العَرَبِ هُناك، ذلك التاريخُ الذي يَفْتَخِرُ الإسْبانُ أنفسُهُمْ بأنَّهُ تاريخُهُم، وأنهم جُزْءٌ منهُ، والذي يَحْوي مُفاجَآتٍ من نوعٍ خاص.
لقد تمكن كاتب السطورُ من الاشتباك مع عَدَدٍ من النِقاطِ المُهِمَّةِ في رِحْلَتِهِ الخاصَّةِ إلى المدن الإسبانية، تَرَكَّزَتْ في ثَلاثَةِ مَحاورَ رئيسية: اهتمامُ الإسبانِ بالإرثِ الحَضاريِّ العَرَبِيِّ في الأَنْدَلُس، مَكانَةِ القضية الفلسطينية في ذِهْنِيَّةِ الإسبانيين، دَوْرِ الجالية الفلسطينية في صناعة التاريخ الإسباني قديمًا وحديثًا. ففيما يبدأ الدكتور سميح مسعود رِحلتَهُ من مونتريالَ في الأراضي الكندية تبدأ تفاعلاتُ الشَخْصِيّاتِ بالتكاثُف حول أهمية التاريخ العربي في الأندلس، مما يعزز رغبة الكاتب بزيارة إسبانيا للسير على دورب الأندلس،
ومن هنا تبرزُ أهَمِّيَّةُ المَكانَ في كتاب “على دُروبِ الأندلس”، فللمَكانِ عَبَقٌ خاص، خاصةً وأنَّ الرِّحْلَةَ مَرَّتْ بِعَواصِمَ ومُدُنٍ كَثيرةٍ منها: مونتريال، القاهرة، مراكش، العرائش، طنجة، طريفة، ملقا، مدريد، طليطة ، إشبيلية. ولرندة، ومدن أخر غيرها،ورَغْمَ زَحْمَةِ المدن وتَعَدُّدِ الشَّخْصِّياتِ كانت التَفاصيلُ حاضِرَةً بِقُوَّة، تَفاصيلُ الشَّوارع والمَتاحِفِ والمؤسساتِ والمَنازِل، وتَمَّ العَمَلُ على رَبْطِ الأماكِنِ بِتاريخِها، وأَهَمّ الشخصيات التي مَرَّتْ بها قَديمًا وحديثًا بِشَكْلٍ احْتِرافيٍّ ومُذْهِل، ففي الزِّيارَةِ إلى مَدينةِ العَرائش المغربِيَّةِ التي تَقَعُ على بُعْدِ ساعَةٍ بالسَّيارَةِ من طنجةَ تَمَّت الإشارَةُ إلى دَفْنِ الكاتِبِ الإسْباني خوان غويتسيلو  في المدينة، باعتبارِهِ أَحَدِ الكُتّابِ المُهْتَمِّينَ بالدِّفاعِ عن المظلومينَ في الأرض، وذلك كما صَرَّحَت المُسْتَعْرِبَةُ إيزابيلا باروس. وفي مَلَقا كان لِسَرْدِ تَفاصيل الذهاب إلى بيت الرسام بابلو بيكاسو الذي عاشَ فيه سَنَواتِهِ العَشْر الأولى والذي تَحَوَّلَ فيما بَعْدُ إلى مُتْحَفٍ بنَكْهَةٌ خاصة، حيث تَمَّ وَصْفُ المَكان وَصْفًا فوتغرافيًا مُتْقَنًا من جهة تَكَوُّنِ المنزلِ من ثَلاثَةِ طَوابق، وسِعَةِ الغُرَفِ، ودَلالاتِ اللَّوْحاتِ المُعَلَّقَةِ على مُخْتَلَفِ الجُدْران.
وإنه لَمِمّا يُلْفِتُ النَّظرَ في السَّرْدِياتِ الشَّيِّقَةِ للشَّخصياتِ الإسبانِيَّةِ على طولِ الكِتابِ وعَرْضِهِ، هو  بُروزُ حالَةٍ من الحَنينِ إلى الماضي الأندلسي لدى الإسبانِ عامة، والنُّخَبِ الثَّقافية خاصة، فَهُمْ قادِرونَ على نسيان الوَصْفِ التاريخِيِّ للعَرَبِ هناك كمُحْتَلّين، والتَرْكيزِ على الإيجابياتِ الحضارية لذلك الوُجودِ المُمْتَدِّ لِما يقارِبُ ثَمانيةِ قُرون. ولَعَلَّ من المُفارَقَةَ ما وَرَدَ في الكتابِ بأنَّ المُسْتَعْرِبينَ الإسبان لَهُم الفَضْلُ في تَعْريف العَرَبِ على التُّراثِ الأندلسي، ففي الوَقْتِ الذي تَخلَّى فيهِ العرب عن إرْثِهِم الحَضاري في الأندلس عملَ أبناءُ إسبانيا على إبرازِهِ كَجُزْءٍ من الهَوِيِّةِ المَحَلِّيَّة. فإذا أَخَذْنا الأدبَ مثالًا يُمْكِنُ القولُ أنه لولا الاستعراب الإسباني لما عرفَ العربُ الكَثيرَ عن الأدبِ الأندلسي نثرًا وشِعْرًا، فالمُسْتَعْرِبون دائمو الاهتمامِ بالحِفاظِ على التراث الأندلسي، على اعتبارِ الحَضارةِ الأندلسية هي حَصيلةُ انصِهارٍ بين العربِ والإسبان في جَوٍّ  يَسودُهُ الانفتاحُ والتسامح.  وليسَ أدلُّ على ذلك مما تم الإشارة إليهِ في الكِتابِ من أنَّ الإسبانَ قد تَقَلَّدوا بعضَ الوَظائِف الرسمية في زمنِ الخِلافةِ الأُموية في قرطبة، ويَذْكُرُ ابن حَيَّان واحدًا منهم اسْمُهُ “قومس ابن أنتيان” توَلَّى ديوانَ الإنشاءِ للأمير عبدالرحمن الثاني، وقد طلب من الأميرِ أن تكون إجازتُهُ الأسبوعية يومَ الأحَدِ بَدَلَ الجُمْعة، له وللعاملينَ معه من المسيحيينَ،فاستجابَ لَهُ وتقرَّر أن يكونَ يومُ الأحَدِ إجازةً لِكُلِّ العاملين في ديوانِ الإنشاء مهما كانت عقيدَتُهُمْ.
ومن الأمورِ المُثيرِةِ للاهتمامِ التي تَمَّ تَسْليطُ الضوءِ عليها في الكِتابِ هي إيلاءُ الكثيرِ من الإسبان أهَمِّيَّةً كَبيرةً للقضيةِ الفِلَسطينية، أَهَميةً لا يَكادُ يَعْرِفُها إلا القِلَّةُ من العربِ حَوْلَ العالَمِ، حيثُ أَفْرَدَ الدكتورُ سَميح مسعود العَديدَ من صَفَحاتِ كِتابِهِ لأراءِ شخصياتٍ إسبانية مُثَقَّفَةٍ تَتَعاطى مع القضيةِ الفِلسطينية كَقَضِيَّةٍ مِحْوَرِيَّةٍ أَساسُها حَقُّ الشَّعْبِ الفلسطيني في تَقْريرِ مَصيرِهِ والدِّفاعِ عن أرضِهِ. إذ تَبْرُزُ شخصية ساندرا كَمُصَوِّرَةٍ ناشِطَةٍ في الشَأْنِ الفلسطيني، وقد تَحَدَّثَتْ عن زِيارَتِها للضفة وغزة عِدَّةَ مَرّات، ومُشارَكَتِها في قافِلَةِ كَسْرِ الحِصار النسائية البحرية بقاربٍ انطلقَ من ميناء بَرْشَلونَةَ في شهر أيلول من عامِ 2016 لدَعْمِ غَزَّةَ ونُصْرَتِها. كما قام بتعريفِ القارِئِ على جَمْعِيّاتٍ ومُؤَسَّساتٍ ما كانَ من المُمْكِنِ أنْ نَعْرِفَ عنها لولا زِيارَتِهِ لها وتَعْريجِهِ على ذِكْرِ إنجازاتِها وأعْمالِها. وعلى رأس هذه الجهات “جمعية القدس للتضامن مع الشعوب في العالم العربي” في مَلَقا، والتي تَرْأَسُها  “كريستينا رويث كورتينا”، تلكَ الجَمْعِيَّةُ التي ثَبَّتَ الكاتب زِيارتَهُ لها وأنه خِلال وُجودِهِ في إحدى قاعاتِها لَفَتَ انتباهَهُ مُلصَقٌ كبيرٌ كُتِبَ عليه بخَطٍّ عريضٍ كلمة “نَكَبَة”، وفي أعلى المُلْصَقِ صورَةُ مِفتاحٍ كبيرٍ كرمزٍ لحقِّ الشعبِ الفلسطينيِّ في العودةِ إلى أرْضِهِ. هذا بالإضافة إلى صُوَرٍ أخرى للصحفي الإيطالي فيكتور أريجوني، والناشِطَةِ الأمريكية راشيل كوري، والمناضِلَة عهد التميمي، والطِفْلِ الفلسطيني حنظلة. وهو ما يثبت أهمية القضية الفلسطينية لعددٍ كبير من أبناء الشَّعْبِ الإسباني وأنهم على دِراية تامةٍ بخبايا الأحْداثِ والمجريات على أرض الواقع.
وهو ما يَقودُ بالضَّرورَةِ للحَديثِ عن النقطةِ الأهمِّ في الكتاب وهي مُشارَكَة الجاليةِ الفلسطينية في الحَياةِ الإسبانية، إذ تَأْخُذُنا الصَفَحات والسطورِ برفقةِ عددٍ من الأسماء القديمة والحديثة من أبناء فلسطين استقروا في إسبانيا، وكان لهم دورٌ في صناعة التاريخ، وتَضعنا القصصُ والحوارات الثنائية في جَوٍّ من الحنين والدَهشة. فإهداء الكتاب كان رسالة صريحةً عن الاهتمام بهذه النقطة، حيث تم إهداؤه إلى المناضليين الفلسطينيين ، نجاتي صدقي وعلى عبدالخالق، اللذين حاربا ضِدَّ الفاشيَّة في زمن الحَرْبِ الأهليَّة الإسبانية. هذا بالإضافة إلى شخصياتٍ أخرى تم التوقف عندها كشخصية محمود صبح الأكاديمي والشاعر، والحائز على جائزة الملك كارلوس في الشعر الإسباني. والإعلامي عدنان الأيوبي، وهو  المترجم الخاص للقصر الملكي لفترة طويلة تزيد عن العقدين.

إنَّ كتابَ ” على دروب الأندلس ” لَهُوَ عَمَلٌ يمتاز بالنُّضْجِ التصويري للمكان ودَلالَتِه، والالتصاقِ به – أي المكان – إلى حَدِّ الاتحاد. إنه عَمَلٌ يَسْتَحِقُّ الإشادة، وذلكَ لما أولاهُ المؤَلِّفُ من مَجْهودٍ كَبير للرَّبْطِ بين الأندلس وفلسطين، والقُدْرَةِ على إثْراءِ الصَفَحاتِ بالكثيرِ من أسماءِ الشخصياتِ، والأماكن، والشوارع، والمقاهي، وأطباقِ الطَّعام مع رَبْطِها بالمكان. فليس أدَقُّ من وَصْفِ هذا الكتاب المُزْدَحِمِ بالتَّفاصيلِ والقصص بأنه صورَةٌ بانورامِيَّةٌ لواقعٍ لم نَكنْ نَعْلَمُ أنه موجودٌ، وأنه في مُتَناوَلِ أيدينا.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!