ماسة / بقلم : رؤى جوني

عاشت ماسة كتلة الثلج الناصعة، على سفح جبل جليدي ضخم جداً في القطب الشمالي، حيث تغطي الثلوج بكثافة أقصى شمال الكرة الأرضية.
مع مرور السنين كبرت ماسة – التي سميت بهذا الاسم – بسبب بياضها الناصع وصفائها وبريقها الذي كان يلمع من بعيد.
أحبت ماسة موطنها طوال عمرها، فهو المكان الذي يقويها بوجود نسماته الباردة جداً، وثلوجه المتهاطلة بكثافة ، فكانت بتلك العوامل تنمو وتكبر يوما بعد يوم.
خلال مراحل نموها، عشقت كل ما حولها ، الثلوج الممتدة على مد البصر ، البحار المتجمدة حول أبيها ( جبل الجليد شامخ)، الحيوانات التي تعبر فوقها وقربها من دبب قطبية ذات الفراء الأبيض الجميل هي وأطفالها من الدببة الصغيرة الباحثة عن الطعام والأسماك .
ولطالما ضحكت بسبب الروح المرحة للبطاريق بريشها الأبيض والأسود ومشيتها المترنحة وهي تراها تقع باستمرار ثم تنهض، أو تراقب فراخها من البطاريق الصغيرة وهي تنحشر داخل ريش أمها طلباً للدفء والطعام والأمان.
كانت ماسة بحكم وجودها في سفح الجبل شامخ ، قريبة من المحيط المتجمد ، لذلك كانت تستشعر حركة الأسماك في الأسفل وهي تداعب الجبل المنغرس داخل مياهه، وتشاهد رؤوس الفقمات وهي تظهر كل فترة من الفتحات الموجودة بين الجليد بعد السباحة لفترة من الزمن داخل المحيط بحثاً عن وجبة من السمك، لتخرج بعدها وتتمدد قرب ماسة باسترخاء.
كل شيء حول ماسة كان يسعدها، حتى الهدوء والصمت الذي كان يلّف المكان في أغلب الأحيان وصوت صفير الريح وهي تهب فوق الأرض المغطاة بالثلج فتسبب بهبوبها تطاير ندفه فتنعكس أشعة الشمس الضاربة للمغيب عليه فتبدو كذرات الذهب المتطايرة.
لطالما كانت سعيدة بموطنها، تتبادل الأحاديث مع أبيها الجليل (شامخ) لأنها كانت جزءاً منه ، لدرجة أنها كانت تستطيع سماع نبضات دواخله، واستشعار حزنه وقلقه، وهذا ما شعرت به منذ فترة غير قليلة دون أن تدري السبب ، رغم إلحاحها عليه بالسؤال لكنه كان دوما يجيب إما بالصمت أو الهمهمة، رغم عدم كلامه المباشر معها ، لكنها شعرت بأن قلقه هذا أخذ يزداد يوما بعد يوم منذ أن بدأ كل من يسكن في القطب يرى دخانا كثيفا من بعيد ، وأشخاصا وسفنا تعبر باستمرار أمام الجبل الجليدي ، الى أن جاء اليوم الذي تأكدت فيه من إحساسها بأبيها الجبل حيث انهارت كتلة كبيرة جدا منه ، وقبل أن تغوص في البحر وتتجه للذوبان ضربت أثناء تحرجها مجموعة من البطارق التي كانت تمرح تحت الجبل مسببة لهم أذى كبيرا. بعد هذا الحادث الأليم تتالت حوادث مشابهة جعلت الدببة الجميلة والبطاريق المرحة تهرب لاماكن أخرى ، وكذلك الفقمات لم تعد تجد مكاناً متسعاً لها كي تتمدد بعد سباحتها وتناول وجبتها من أسماك المحيط.
عم السكون أرجاء المنطقة بعد هرب الحيوانات وبدأت ماسة تستشعر الخطر خصوصا أنها لم تعد تستطيع النمو وهي من كان لها الأمل الكبير بان تصبح كتلة جليدية كبيرة تحيا فيها الكائنات الحية براحة ، فشكت همها لأبيها الجبل الجليدي ، الذي أجابها بحزن :
لقد آن الآوان يا ابنتي بان ترحلي أنت أيضا مثل البقية ، فلا زلت صغيرة وتستطيعين السباحة أما إنا فكبر حجمي رغم ذوبان وانقسام جزء كبير مني ، يجعلني غير قادر على الحركة ، اسبحي إلى أن تجدي مكانا مناسبا تشبثي به وستكبرين وتصبحين كما تمنيت .
بكت ماسه ونزلت دموعها كاللؤلؤ في أعماق البحر لأنها ستضطر لمغادرة موطنها ، لكنها لم تجد بديلا لذلك الأمر ، فانشقت عن أبيها الجبل بعد أن ودعته ، وسبحت بعيد باحثة عن موطن جديد آمن .

سوريا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!