سيزيف / بقلم : حنان بدران ( فلسطين )

طيفك العصي على التدجين أراه يهرول أمامي وهو يرتدي عباءة ذاكرتي يعريني حينا ثم يعاود ارتدائي كعباءة خشنة مطرزة بالأشواك…ما زلت استحضرك كل ليلة أتذكر حين كنا بالحب نتحدى بعضنا البعض بين الحين والآخر ، لا أنكر أنك كنت تنتصر وأنت ترتدي كامل أناقتك وتهزم الحب أمامك.
حتى وصلتني منك رسالة من طين وغمام، وأنا أتلوها على أبواب الحنين فأستيقظ جيدا فزعة من نومي .
من خلف نافذة السماء المثقوبة تهطل على رأسي على حين غرة كل الذكريات ، ويهاجمني طيفك متسللا إليّ كعصفور مذعور ، تمد إليَّ جنحك المكسور ، كنت أداويه وهو يتحرك كثيرا ويتأهب ليطير هاربا من بين يدي … لم يكن يفزعه أن يتركني في عراء الأنواء وحيدة مع ضجيج ذكرى مختالة بكبرياء طاووس أمامي ، تستنزفني وهي تسير في بهو السماء محلقة بعيدا إلى غابة الغيم الحبلى بالسرور والفرح ، وإشارات التعجب والاستفهام ؟!!
تتركني تحت مقصلة السؤال: كيف لحبك أن يتنزه مترنحا كثمل أرعن يسير بلا قدمين فوق أشلاء نومي؟
منذ افترقنا وكل منا يسير بدروب مختلفة.. أنا أركب طائرات تحتويني ، تصافحني قاعات استقبال ووداع، أصعد قطارات مسرعة، محطات تضمني إلى صدرها الرحب ، ومحطات تودعني بضمة الغربة والتعب ، أحمل في أزقة الأماكن وطرقاتها حقيبة جسدي، وهواؤها الغربي يداعب خصلات الروح التائهة بالمكان ، الوجوه ترمقني بنظرة عابرة ولا تبالي بي.. وبصمت تصفعني وكانت صفعتها تشبه دويّ انفجار القلب بداخلي ؟!!
حتى جاء شروق امتدت فيه عشائر الضباب المزدحمة عند أفق السماء ، وكان وجه الغيمات مكفهرا ، وأنا أسير على أسفلت نيويورك ، يلتحف صقيعُ المدينة ثوبَ الضباب فأسقط أرضا، ويتدفق الدم من فمي ، أتأمل كل العابرين وأنا ملقاة على الأرض بعينين جاحظتين بريق ينسل إليهم.. يتوسلهم.. بالكاد أستطيع أن أرى من يرمقني بنظرة حائرة ويتعداني مسرعا ، حتى رآني فنان مهووس بالبورتريهات والألوان مستغربا من لون بشرتي ، ونوع دمي ، أخذ يفرش على الجدار لوحته وبدأ برسمي وأنا أنزف أمامه وحين انتهي ابتسم للوحة ضمها إليه ثم تركني ملقاة على الرصيف ومضى ، مرَّ بعدها طبيب استقبلني بابتسامة حزن مستذئبة ثم أسرع يمد مشرطه إلى أعضاء جسدي يأخذ منها كل ما يستطيع زراعته في أحشاء أخرى ، يسرقني ليبيعها ، وأنا أرمقهم بلا حراك ، من فوقي تمضي الأقدام والسيقان قوافل وزرافات ، سياح، عشاق، باعة متجولين ، موسيقيين متسكعين ، رجال شرطة… كلهم يلقون نظرة غير مكترثة ولم يلحظ فيهم أحد سكوني أو أنين صوتي ، حتى أخذ الليل يرخى جدائل شعره على أطراف المدينة… الكل بدأ يمضي مسرعا ليصعد قطار موت يتثاءب ضجرا من حياتنا اليومية ، حتى اكتسح الظلام أخمص قدمها وأنا لم أزل ملقاة كحمامة سلام تنزف محتضرة على الأسفلت البارد الغريب.
ومع هذا لم يبارحني طيفك يوماً !!
فهو ما زال يتسلل من بين الجموع ويتسرب كالضوء من مسام جلدي ، ويتغلغل في شعري ، ولا يخجل أن يرتدي قميص ذاكرتي بعد أن أتعرى منها ، كنت كعاشقة صعبة المراس أريد أن أستقبل نوما يجافيني ويتمترس لي خلف حواجز رملية ، ويرفض أن يستقبلني..؟.!!!!
ألملم شتاتَ رملي المبعثر فيك ، أجمعه جمعا على وسادتي حتى أنجو منك ، هاربة كلصة صغيرة إلى النوم ، لأكتشف أنك حصان عنيد في براري الحلم تمد إليَّ يديك من بعيد على عشب الأيام التي جمعتنا …
فزاعات (كشاشات) الأوهام العذبة تتراءى أمامي ، ألف الكلمات كالشال حول كتفي.. حينها تطالعني البروق من أوراق قلبي ، وأنا أقلب صفحات الدروب بأصابع الصواعق ، أسير بهدوء إليك.. وأتابع بصمت احتضاري السيزيفي فيك ، وفي كل مرة كنت أحمل صخرة السؤال صاعدة إلى قمتك أيها الشقي : أين المفر منك إذا كان بحر عينيك يلتهم لحم لججي العاثرة أمامي، ومحيط الذاكرة يركض لاهثا من ورائي… كيف أسقط ميتة في دروبك وطيفي ما زال معلقا بحقول البرتقال تحت ظلال البحر على جدار الحلم يتابع موته فيك ؟

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!