ليل أرهقه الدهر / بقلم : نريمان نزار محمود

 

لم يغمض له جفن ، وأرقه ذلك الوجه وتلك الملامح ، بدا الليل أطول من أي ليل عاشه ، مرت الساعات بتثاقل ، كامرأة عجوز أرهقها الدهر ، وامتص آخر قطرة قوة من جسدها الهزيل ، أخذ يحملق في سقف غرفته الباهت حينا ، وفي ساعة علقت على الجدار حينا آخر ، مستجديا عقاربها أن تدور بسرعة أكبر، فيبزغ الفجر مؤذنا بولادة أمل وعمر جديد ، بقي على هذه الحال من الانتظار المقيت ، أفكاره بين مد وجزر  ترى هل سيراها مرة أخرى! ؟ أيمكن أن تقبل محادثته ؟ ماذا سيخبرها عن نفسه ؟ وماذا ستخبره عن نفسها ؟

وفي صباح هادئ جميل ، تصبغه الفراشات بألوانها الزاهية ، وتشدو فيه الطيور أعذب الألحان ، وأكثرها قربا من شغاف القلب ، بدأ بطل قصتنا يستعد لمغادرة المنزل وفي نفسه توتر وقلق وتردد ، انتظر في مكان يبعد بضع أمتار عن المدرسة ، وأخذ يترقب بعيني نسر ، علها تأتي ، لكن للأسف تحطمت آماله وأحلامه على حافة الهاوية ، فلم تحضر ، واستمر في انتظارها يوميا في نفس المكان لعل وعسى أن يسمح له القدر بلقائها مرة أخرى.

كم كانت فرحته غامرة يوم شاهدها وهي تتهادى من بعيد ، بدت وكأنها مثقلة الكاهل بأعباء تسد الأفق ، وهموم تحني هامات الجبابرة ، تسمر في مكانه من هول ما وعى ، صمت برهة كي يلملم شتات نفسه ، ويحكم قبضته على زمام جموحها ، تقدم بخطوات ثابتة نحوها ، ألقى عليها التحية فردت ببرود من يهيمون في عالم غير عالم الأحياء.

التقى بها صدفة عند باب مدرسة أخته الصغرى ، عندما كان يوصلها في أحد أيام الشتاء الماطر، بدت جميلة وهي ترتدي معطف أزرق اللون ، وقد وضعت فوق رأسها قبعة نسجتها والدتها من خيوط بيضاء ، تتغلغل بين مساماتها خيوط سوداء ، كأن النقيضين يتواءمان ويعقدان معاهدة صلح تشيع السلام والهدوء.

لفتت انتباهه بعيونها الملونة عندما نظرت إليه نظرة أخفت داخلها حزنا وألما لا يمكن لبشر تحملهما ولا حتى تخيلهما. منحه الله موهبة قراءة لغة العيون ، تلك اللغة التي يعجز الكثير عن تلمس دقائقها والوقوف على أسرارها، منذ تلك اللحظة سلبته قلبه ، غمرته رغبة عارمة في معرفة حكاية هذه الفتاة ، لم تغادر صورتها مخيلته ، قطرات المطر وهي تداعب خصلات شعرها المتهدلة ، كأنها طبعت بحبر أصلي لا يزول بسهولة.

أراد أن يكون جدارها الذي يسندها ، كي تواجه هموم الحياة ومتاعبها.

تعثرت الكلمات فوق لسانه ، وسقطت متهالكة ، سألها : ما اسمك ؟ ما حكايتك ؟ لم يظهر هذا الكم الهائل من الحزن على محياك ؟  اصدقيني القول فأنا مهتم لأمرك  ..

صمتت قليلا ، أخذت تفكر في هذا الشاب الذي لا تعرفه ، ولا تذكر أنها رأته سابقا ، ماذا يريد؟ هل هو فعلا مهتم بها ؟ كما يقول.

أيمكن أن يكون حبل النجاة من بئر الظلمة التي تغوص في عمقها شيئا فشيئا ، لدرجة لا تستطيع معها الحراك والمقاومة… أيمكن أن تثق به ؟! أيمكن أن يكون مرسى سفينتها الامن. ربما

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!