مصنع غزة/ بقلم: مصطفى محمد علاء بركات

ما أن تقع عيناك عليه ، حتى تتملك الهيبة  قلبك رغماً عنك و لا تشعر إلا  بضرورة إحترام هذا الصرح الذى صمد شامخاً لأكثر من مائة عام ، يتوارثه جيل بعد جيل من أبناء مؤسسيه القدامى ، مبنى حجرى قديم على مساحة كبيرة تغطى  عينيك  بوابة قديمة له ضخمة تتسع لعربة نقل من الحجم الكبير و بعرض هذه البوابة من الأعلى لوحة رخامية عريضة منقوش عليه بالأسود العريض ( مصنع غزة)  و هو قائم على أسلوب متوارث فى صناعة الملابس لا ينافسه فيه غيره ، فهم يعتمدون على تصاميم محددة و موارد معينة لا تتغير على مدى الأزمان و لا تفقد رونقها و لا جودتها النادرة و لا يستطيع أحد الصناعة مثلهم ، كما أن النشأة العائلية القديمة لهذا المصنع و تشابك العلاقات و تزاوج بعضهم من أهالى بعض صنع منهم  وحدة متشابكة مترابطة ، فلم يكن مصنعا بل كان لهم وطناً..

و لكن فى أخر عشرة سنوات حدث تغير غير مسبوق ، عامل نظافة  إسمه ” أمين الشحات” كان بلا مبالغة أحط عامل  فى مصنع غزة يحمل ما يشمئز منه الأخرين و يمسح دورات المياه ، سمعته سيئة ما بين سرقة و كذب و إقتراض بلا رد ، و إضاعة أمواله في أمور غير أخلاقية ، يأكل الخبز اليابس و ينام و يقوم  أمام دورات المياه ، أنجب إبنه أمين و لا يعرف تحديداً من هى أمه ، كان يشاهد أبيه يتعرض للإهانة و الذل يومياً ، لإهماله فى عمله أو كثرة طلبه للإقتراض لإضاعته أمواله فى أمور دنيئة ، كان يتحاشى رؤية أبيه يتعرض لهذا العنف فيهرب بعيدا ينظف بقايا العمال، ينقل القمامة من مواضع متفرقة ، و لا ينتظر من أحد مال يمارس أي عمل بشكل ألى و سريع و لا ينظر فى وجه أحد و ينتقل سريعا من موضع لأخر بالمصنع حتى لا يشعر بجسده الصغير و يعود للغرفة الضيقة الرطبة المقابلة لدورات المياه  و قد نام أبيه أو لم يعد من الخارج ممارسا إهتماماته الغريبة… ليسقط وحيدا  نائماً فيها بلا أى مقاومة ، شاهد إحتقار الكل لأبيه و ظلمهم له و قسوتهم عليه ، كبر ” بيومى أمين”  و كان يفعل كل شىء و أى شىء و لا يهتم بالنقود بقدر تركيزه على المناصب و قوة المركز الوظيفى  ،  لم يهتم كثيراً بالمال قدر عطشه المحموم ليرتفع بمكانته بين الناس الذين داسوا على أبيه بالأحذية …. نقل أسرار العاملين ، تجسس عليهم ، إشترى للمشرفين بالمصنع الخمور و المخدرات بل و أحضر لهم نساء سيئات السمعة للمتعة المحرمة ، شاع صيته القذر بين القائمين على المصنع ، و أخذ المقابل عمل كموظف و ليس عامل نظافة و جعل كل حياته و تفكيره لوظيفته فى مصنع غزة ، بذل كل صحته و جهده و تفكيره فى الوصول لأعلى المناصب حتى لو أحضر للمسئولين شياطين الجن و الإنس شخصياً ، و بالفعل وصل لمنصب الرجل الثانى فى المصنع ، و فى ظروف غامضة إختفى الجميع و أصبح  ” بيومى أمين”

المسيطر على مصنع غزة ،  كان الكل يعمل كيف وصل ” بيومى أمين” لهذا المنصب و ما هو أصله و أصل أبيه و لكن أضحى الكلام عن هذا الأمر خطيئة محرمة لا يتجرأ أحد فى التفكير فيها بينه و بين نفسه ، نعم لم تكن له صفة رسمية واضحة بسبب نشأته و فقر مؤهلاته ، لكنه كان من يوجه القرارات و يكفى أن تبحث عن كل من عارضوه أو خالفوه … ببساطة لن تجدهم ، لا يدرى أحد كيف كان دائما فى مكتب مدير المصنع ، كيف كان من يستمعون لكلامه أو يحترمونه يجدون نفسهم مقبولين و مرحب بهم من الإدارة ، و يحصلون على ترقيات و مكافأت بلا حدود ، مثل ” زياد الجسمى”

كان أبيه و عمه وجده  من رواد هذا المصنع توفى أبيه مبكراً أثناء تأدية عمله ، و كان النظام السائد أن  يتم توظيف إبنه ، كان ذكيا مثقفا يهتم بلياقته البدنية و يرتدى أحدث الصيحات و أغلى الساعات ، لم يسمع عنه أي خلاف مع احد أو إعتراض على موقف ما ، لم يكن يحب التمسك  بالمبادئ القديمة لإدارة المصنع لأنها تؤدى لخسائر مالية  ؛ فلم يكن يشجع المشاركة فى تكريم كبار العاملين و عدم إحالتهم إجباريا للمعاش ، كان يقترح التوقف عن شراء تلك المواد الخام الغالية القليلة التى تجعل المنتج يعيش لأكثر من عشرين عام فربما مات العميل و هى محتفظة ببريقها …. فهو يرى أن هذا يمنعهم من الشراء مرة أخرى و يفقدهم فرص بيعية ، شاهد كيف مات عمه من الحسرة بسبب قضية إختلاس متكاملة الأركان ، هل شفع له تاريخه أو تمسكه بمبادىء ( مصنع غزة) ، هل وقف بجواره أحد القدامى ، هل توقف ” بيومى أمين” ….

إذن فما دام لن يحدث أي  تغيير ، فلماذا أدخل فى صراعات و أخسر رجل له علاقات و يفعل أى شىء و كل شىء لماذا أعاديه كباقى أقاربى … ما النفع من هذا  أو إثارة غضب أي أحد ، كان” بيومى أمين ” يستعين به دائما فى حل أى نزاع خصوصا مع كبار المشرفين القدامى بالمصنع الذين كانوا يعاملوه بإحترام شديد لمكانة أبيه المتوفى ،  و فى فترة سريعة أصبح  “زياد الجسمى” من أعضاء مجلس الإدارة و لا يكلف إلا بأعمال قليلة جداً

حتى جاء ذلك اليوم و أخبر احد الموظفين القدامى السيد ” بيومى أمين” أن مفتش هيئة الرقابة سيصل غدا لأعمال الرقابة الدورية ، و أنه لحسن الطالع ليس غريباً على المصنع

بيومى : من “ماهر عبد الله ” ؟

ماهر عبد الله …. !؟

هل تقصد ماهر الذى كان والده أول عضو مجلس إدارة بعد ضم المصنع للقطاع الحكومى !!

لست أتذكره…

و إرتعشت ساقيه عندما تذكر  برودة البلاط و نظرته الجائعة للحاج عبد الله ، كان الجميع  يحترمونه و ينصتون لتعليماته ، يكفى ذكر إسمه ليتوقف أي شجار أو صراع داخلى ، لا يعرف ماذا كان يعمل بالضبط كان فقط يرى ولده “ماهر ” يحاول أن يختبىء فى جسد أبيه لتفادى رغبة كل العمال فى إحتضانه أو تقبيله أو حتى مصافحته ، أما هذا العملاق قليل الكلام واثق النظرات فقد كان يسير بخطوات قوية واثقة متفقدا المصنع الذى عمل فيه لأكثر خمسة عشر عام … نعم عرف بعد هذا أنه لم قدم إستقالته بعد شهور من تعيينه عضو منتدب بعد ضم المصنع للحكومة ….

حتى توفى من سنوات و حضر جنازته بعض الشخصيات الحكومية البارزة فى مجال الصناعة و أعلن المصنع الحداد لثلاثة أيام ، و توقف تماما ( بيومى أمين) عن الحديث أو التفكير

ما أن وصل ” ماهر عبد الله ”

حتى وجد قدامي العمال يقبلونه و يحتضنونه عنوة و حتى من ضعف حركتهم لكبر أعمارهم ، دب فيهم نشاط غريب و كادوا يقزون من أماكنهم مرحبين بماهر إبن الحاج عبد الله ، تعجب ماهر كثيراً

عندما عرف أن معظم القرارات أصبحت بيد ” بيومى أمين” لا يتذكر سوى سمعة والده السيئة و كيف كان دائما ما يراه يتوسل لأبيه و يبكى بصوت مرتفع أن يسامحه و يعفو عنه و يتركه بالمصنع فليس له بيت و لا عائلة ،

كان يحضر و هو صغير مع أبيه للمصنع و شاهد بعينيه كيف كان ” بيومى”  ينظف مع أبيه دورات المياه ثم ينامون أمامها على البلاط ، أصبح المسيطر على المصنع ،

كيف وصل !! كيف؟؟

و عندما أخبروه سراً بسمعته المشبوهة إتطمئن على صحة شكوكه و أنه كان فى قرارة نفسه على صواب ، لم يكن هذا ما أثار تعجبه بقدر ما أنه كلما سأل عن أحد من ذوى الخبرة  فكان الرد أنهم قدموا إستقالتهم أو توقفوا عن العمل بشكل مفاجىء ،  بل إن أحد الأغنياء منهم قد تم إتهامه فى قضية إختلاس مكتملة الأركان ، و من تبقى منهم يعملون فى صمت لا يتكلمون كثيراً و دائما تسمع أصواتهم غاضبة حانقة … حاول ماهر التركيز فى مهمته الرقابية بموضوعية و بلا أى تحيز ، و لكن رغم هذا لم يفارقه فقط شعوره بالإستنكار للوضع الإدارى و مسار الترقيات فخلاصة القول :

فكل أصحاب المناصب العليا بلا كفاءة حقيقية ، و كل ذوى الخبرة و الكفائة بلا أي سلطة رسمية …

واصل عمله بدقة و تركيز و سرعة حتى ينتهى منها سريعا ، و لكنه شعر بحمل ثقيل عندما أخبرته مديرته بضرورة مراعاة الدقة الشديدة في عرض نتائج مهمته  و الإنتهاء منها  سريعا قبل الموعد المرتقب للإعلان بشكل رسمى عن رئيس مجلس الإدارة الجديد

” بيومى أمين ” بعد التوصيات النهائية لهذا التقرير .

كان بيومى أمين يتنبه جيدا لمصادر الخطر المحتملة عليه و بعد أن أجرى عدة إتصالات و قام ببعض الزيارات ، إتصل بالشخص الوحيد الذى ظن أنه قادر على حل مشكلته  ”  زياد الجسمى ” فقد كان أجداده هو و “ماهر عبدالله ” أصدقاء مقربين لسنوات ثم تتطور الأمر لعلاقة نسب فأصبح (ماهر) و (زياد ) بمثابة أبناء عم …

طلب منه ”  الذهاب لماهر عبد الله و التأكد من أن تقريره سيصب فى مصلحته بأى ثمن

حضر ” ماهر عبد الله ” مبكراً عن موعده الذى إتفق عليه مع “زياد ” دخل بثقة و حماس مبتسما

كيف حالك يا أستاذ زياد  ؟

إبتسم “زياد ” نصف إبتسامة باهتة الحمد لله … هل مازالت مصر على موقفك الذى سبق و أبلغتنى إياه فى مكالمتنا الأخيرة ؟!

– رد عليه سريعاً أنا لا أصدق  … كيف تدعمه ، أنت تعلم سمعة والده السيئة ، و تعلم كيف وصل لما هو فيه

– و ما الضرر فى ذلك

– تخيل يا ” خلف”  أنه يوجد طبيب ماهر جدا و لكنه أشتهر بالدموية و تجارة الأعضاء و البلطجة و الوحشية .. هل ستعالج زوجتك عنده ؟

– نظر ( زياد الجسمى) للأعلى ناحية اليمين و خبط بأصابعه على المكتب … و لم يرد

– ماذا تنتظر من شخص مثله ، العدالة ، الإخلاص فى العمل

– أغمض ( زياد)  عينيه ثم قال أنت تعلم أن كافة الأوراق و الإجراءات سليمة

– من يتحمل ذنب هؤلاء العاملين ، و أسرهم عندما يتحكم فيهم مثل هذا ؟

– قام (زياد) من مكانه و مشى ناحية النافذة و أدار ظهره لماهر و قال : أرباح المصنع زادت

تم إنشاء ناد إجتماعي للعاملين

– و هل تم حل مشكلات العاملين من شكاوى و ترقيات؟

هل زادت مرتباتهم ، هل زادت خدماتهم التأمينية الطبية

– خبط” خلف ” الحائط بقوة بقبضة يده إحمرت منها أصابعه

و قال و هو يصرخ

انت واهم أنت تحلم …

هل عرفت ما حدث لعمى ذو الخمسين عام ، جد أولادى …

تم إتهامه بالإختلاس ، تم إيقافه عن العمل … تم تدميره بالكامل

هل تعرف عم محمود ..

هل تعرف الحاج سيد أين ذهبوا

إعترضوا و هاجموا و إرتفعت أصواتهم … ثم ماذا ؟

هل أصاب بيومى أى سوء ؟

هل تعرض لأى عتاب

دمروا حياتهم بالحرب و المبادىء

و تبقى هو فوق مستوى الشبهات

– قام ماهر من مكانه و قال

إذن فأنت مقر بكل شىء عن التاريخ الملوث لبيومى و كم الجرائم التى إرتبكها.. مهما كانت مبرارته !!

– كل الناس يعلمون هذا

– نعم يا( زياد)  ، كلهم يعلمون و لكنهم ينسوا أو يتناسوا

– و أنت تذكرنا بهذا الماضى ، و تصنع المشاكل و التوتر  لماذا تفعل هذا

-( زياد) هل تعرف لماذا إستعان بك ” بيومى أمين”

هل تعرف لماذا تمسك بك ؟

لأنك من التاريخ ،  نعم والدك رحمه الله و عمك الشريف و جدك هم من صنعوا منك رجلاً ، هم من جعلوك محترم

و هو لا يملك هذا و لن يملكه أبدا

لا أحد يخلق تاريخ مزيف ، لا يمكن فالتاريخ يمر بكل قطرة دم ، بكل نفس بكل أب بكل أم بكل ذكرى بكل حلم

هو لن يستطيع إخفاء كل هذه الأدلة عبر الأزمنة و العصور

لكن يستطيع فقط أن يأتى بأحد مثلك ، بقوة تاريخه و أصوله يضفى عليه الشرعية و الإحترام التى لو أنفق ملايين الأرض لن يحصل على تاريخ محترم

هل تتذكر رواية البؤساء ، بالرغم من توبته و صلاحه و لكن … لم يتركه ماضيه

فما بالك بمن أصبح الغش و الإجرام جزء منه ينمو فى قلبه و فكره

– إسمع يا (زياد)  إن بيومى نبتة مخدرات فاسدة و طالما هى فى تربتها المعروفة بالفساد فالضرر محدود

– و لكن أن يحملها طبيب محترم أو مدرس شريف و يزرعها فى حديقة عامة ، فقد تحمل ذنب هذه الأجيال و من يأتى بعدهم قد لا يعلم شيئا فالتاريخ لو لم يروى يموت  ….

و المجرم مادام مجرما فالضرر فردى و لكن أن تقف بجانبه و تمنحه الثقة فقد ضللت الجميع و خلطت السم بالعسل .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!