الجمل المفتاحية في رواية (مقصلة الحالم – جلال برجس) بقلم محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة
ــــــــــــــــــــــــــــ

الجمل المفتاحيّة
في رواية (مقصلة الحالم) للروائي جلال برجس
بقلم الروائي محمد فتحي المقداد

توقّفت في الصّفحات الأولى استغراقًا لم أستطع تجاوزها إلى ما بعد؛ للسحر الذي أخذني تأمّلًا إليه الروائي (جلال برجس) في روايته الأولى (مقصلة الحالم)، مجموعة من الجمل والعبارات الدلاليّة على عمق رؤية الكاتب، بفلسفة تجربة حياتيّة، وهي لا تتأتّى إلّا لمن اكتملت لديه أداوته في إعادة تشكيل خبرته في قالب إبهاريّ جديد، جدير بي أن أشاركم مُتعتي، علّ فيها فائدة لمن يقرأ.
هذه الجمل المفتاحيّة، تُسلّم القارئ مفاتيح عديدة؛ لفتح أبواب مغلقة، أراد الكاتب من خلالها، فتح الأعين عن جماليّات الكون المُحيط من حولنا، وربّما استوحي موقفًا بسيطًا، لصنع شيء عظيم. وسأتوقّف في مقالتي هذه عند طائفة منها، على سبيل المقال لا الحصر.

*سريالية الرؤية:
فقد خلق الله الكون، وجعل الطبيعة كأنّها يدُ رسّام، تبثّ الجمال، والبهاء ببساطته السّاحرة. ونلمس ذلك بقول الكاتب: (الطبيعة يد رسام أولى تمارس هوايتها بلا خوف أو تردد/ص11).
ومشهد آخر مستعار من فصل الشّتاء، والإيحاء بالبرد الشديد سِمةُ الفصل عمومًا، ووسائل التدفئة، ومنها المواقد والمدافئ الصاعدة لأعلى البيوت وسُقُفها، ترتفع كأنّها أيادٍ ضارعة إلى الله، تشبيه تصويري يأخذ القارئ في رحلة تخييليّة داخل صفحات الرواية، رحلة الحياة بدورتها ما بين الفصول: (أدخنة المدافئ كأنها أياد تضرع إلى الله/ص12).
حركة الكون لن تتوقّف أبدًا، مهمّة الكاتب (جلال برجس) لفت الانتباه لآية عظمى هي الرّياح، أمّا صوتها هو المقصود بتعبيره، وزمهريرها حينما تهيج في مواسم خلال العام؛ فمن ريح الخريف السّموم، إلى الرّياح الماطرة الحاملة للخير على متنها، واستمرارها، يشبّهها بالنّادبات اللّاتي لا يهدأ حُزنهنّ على عزيز على قلوبهن، وأنهنّ اسمترأن النّواح رغم النهي عنه: (الرياح تحوم حوله كنادبات اسمترأن النواح/ص12)..
مشهد آخر مُستعار من الطبيعة المُحيطة بنا، الذئب المعروف ببحثه الدّائم عن فرائسه، وتشبيه عُوائه بنواحٍ آخر، ومشهد الموت والنائحات السّابق، ورسم مشهديّة الطفولة ودفء الحكايات، خاصّة حكايات قبل النّوم لإغراق ذهن الطّفل في متاهاتها على ووقع اهتزاز السّرير، ويد الأمّ الحانية تُطبطبُ على صدر ابنها، لخلق حالة من الهدوء والاطمئنان، ليخلد إلى النّوم العميق: (نواح ذئب كحكايات الأمهات قبيل النوم/ص13). والذّئب رغم أنّه حيوان شرس، لكنّ الأدب العربيّ مليء بالأشعار منذ عهد امرئ القيس مرورًا بالفرزدق، إلى شعراء النبطيّ، وإلى قصص مُتداولة كثيرة لا تُعدّ ولا تًحصى، وما انتشار حكاية ليلى والذئب، وانتقالها إلى أدبنا العربيّ، إلّا للتمازج الثقافيّ مع آداب الأمم الأخرى.
فنيّة الكاتب الفارهة تُصوّر لنا منظر السّراب، رغم أنّه لم يذكره بالاسم، ولكنّه بمهارة استخدام المشاهد الخفيّة، من خلال دلالة كلمات (المسافات، تركض، تلتحم بالأفق)، صوّر لنا حركة السّراب بفنيّة عالية، أخذني بعيدًا في حُلُم تعالى وتباعد حدّ الصّحراء، في يوم قائظ، وأعادني إلى الآية الكريمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، (وهنا تحدّ بأن بطل حكايته استغرق في منظر لم يكد يصل فيه إلى نتيجة، وهراءٍ بِهُراء: (اغرورق البصر ببدن المسافات، وهي تركض للبعيد ثم تلتحم بالأفق/ص13).
الصفاء والهدوء في الصحراء رغم أنّ السّجن في الرواية كان صحراويًّا، وما فيه من ذكريات الألم والحرمان وحجز الحريّة، مع ذلك هناك جماليّة ربّما تمتّع بها السّجين السّابق، خاصّة إذا كان مُتصالحًا مع نفسه، والاستمتاع ببساطة العيش هناك رغم الضّنك، محاولة من الكاتب (جلال برجس) للفت الانتباه لجماليّات الطبيعة، مقابل الضجيج واضطراب الحياة والعواطف في المدن مزدحمة، بقوله: (الصحراء تمنحك المساحة الهادئة في صباحاتها ولياليها الصيفية، تمنحك غضبًا دونما مُقدّمات/ص13). ازدواجيّة طبيعة الصّحراء، الهدوء والصّفاء والأفق الواسع المريح للنظر، مقابل الغضب المفاجئ من مخاطر غير منظورة ومفاجئة، ربّما تستدعي الحذر؛ فالحياة والموت يتواجهان في الصّحراء على حدٍّ سواء على مدار السّاعة.

*انسجام الرؤية السرديّة:
المُعتَقَل المكان وذكرياته تُلحّ على السّجين سابقًا، لا تدعه وهي تستحوذ على تفكيره على مدار أيّامه الأولى بعد خروجه، رتابة الحياة هناك، وتوقّف الزمان، والرّطوبة والحرّ، والظلام والجدران الصلبة الوسخة، وتسلّط السّجان، والعقاب والحساب والإذلال على مدار السّاعة، بعكس الحياة خارج السّجن بثلاثمئة وستّين درجة تمامًا، وكأنّها ذئب جائع في ليلة شتائيّة باردة لا ينقطع عن العواء: (ذئب المعتقل يجيء متقاطعًا في مقطوعة صارت خلفية لمشاهد تطلّ من عتمة الذاكرة/ص13).
وفي سؤال للخفير الحارس على المعتقَل السّابق، أخبره: بأن السّجن تحوّل إلى مخفر، وتتبدّى في دلالة العبارة على طبيعة الصّحراء التي تخلو من المتخاصمين، ليس دائمًا لا خصوم فيها؛ فالتاريخ يحكي غير ذلك من سيرة القبائل العربيّة وغيرها من المجتمعات الصّحراويّة، وهذا ما تجلّى، وما نراه حديثًا من الصحراء الغربيّة المُتنازع عليها بين المغرب والجزائر، ورحى القتال الدّائر على مدار سنوات طويلة، أزهقت الأرواح، وأهلكت الحرث والنّسل، بينما خصوصيّة وجود مخفر للشرطة في الصّحراء يحتمل ما ذهبت إليه هذه العبارة: (تحوّل هذا المُعتقل إلى مخفر في هذه الصحراء التي تخلو حتّى من المتخاصمين/ص13).
عاد الزّائر للمكان، وهو المُعتقَلُ السّابق يقود سيّارته، وعينه لم تتحوّل عن المرآة، يبتعد ويبتعد وتتلاشى صورة المُعتقَل في جنون عاصفة الصّحراء القاحلة: (من مرآة السيّارة كان المعتقل يتلاشى في جنون العاصفة/ص15). يتقدّم بسيّارته، والرّمال تصفع جسم سيّارته من كلّ جوانبها؛ فتتولّد الوحشة لديه لأنّه ما زال يعيش فيه ذلك المكان الموحش: (الرّمال تصفع كلّ شيء؛ فتخلق شعورًا مليئًا بالوحشة/ص15).
كثيرًا ما يُعشعش الألم في حنايا النّفس لا يظهر إلّا مع الذكريات الأليمة، ومهما تباعد الزّمان عنها، لا يمكن أن تخبو نارها المتجدّدة كلّما عَنّ لصاحبها خاطر؛ ليتجدّد كأنّه حصل للتوّ، ويزداد أُوارها إيقادّا كلّما حاول التفكّر فيما حدث له، وهو الإنسان البريء الذي لم يدر لماذا دخل السّنوات في سجن لا ذنب له أبدًا: (أغتسل لأتخلص من ذلك الألم الخاطف، الذي كان يزداد صحوًا بي كلّما توغّلت فيما حدث/ص16).
كلّ وجه يحمل مفاتيحه الموحية للنّاظر إليه، ولما جلس قُبالة جدّته، راحت تتفرّسه باحثة عن شيء خفِيَ عنها في مُحاولة استخلاص إجابة من خلال استنطاق ملامحه: (كانت تسهو بي، وكأنّها تُفتّش في وجهي عن إجابة ما/ص16). بينما هو يتلمّظُ على قطعة حلوى، وما أروعه من فمٍ يتتبّع إيقاع السّكّر بحلاوته المُحبّبة إلى النّفوس: (تتلاشى قطعة الشّوكلاته في فم يتتّبع إيقاع السّكّر/ص18).
الدفء والبرودة قطبان متنافران كالسالب والموجب لا يمكن أن يلتقيان، إذا حلّ أحدهما رحل الآخر؛ فطبيعة الكهوف الرطوبة والبرودة، فإذا طرأ الدّفء على كهف، كأنّما هو احتفاء بحالة نادرة الحدوث فيها: (حتّى الدفء يمكن للكهوف الباردة أيضًا أن تحفل به/19).
وفي النّهاية تتأكّد رؤية الكاتب العميقة في قضية إنسانيّة كبيرة، فلا حياة بلا حبّ، والحبّ بمعانيه الأشمل والأعمّ بعيدًا عن المشاعر والأحاسيس الخاصّة بكلّ إنسان منّا؛ فالخيبة في قضيّة عاطفيّة خاصة ، كأنّما هي خيبة وطن. فالحبيبة بهذا المعنى وطن وسَكَنٌ لحبيبها تضمّه في قلبها، كما يضمّه الوطن ويضمّ الوطن في قلبه: (لا تختلف الخيبة في الحبّ عن الخيبة في الوطن؛ فكلاهما وطن وطن/ص19).
بالتوقّف امام هذه الطّائفة من العبارات، تتجلّى موهبة الكاتب جلال برجس العميقة برؤاه الفلسفيّة المُتمادية ما بين السرياليّة والواقع، بمُزاوجة لا تترك القارئ مثلي نهبًا للتأويلات والظّنون، العشرون صفحة الأولى جاءت من الخاتمة على محمل الذّاكرة لذلك البطل الذي كان سجينًا سابقًا.

عمّان – الأردن
ــــــــــــا 17\ 10\ 2020

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!