الشخصيات  والجانب السياسي في رواية (الشيطان يخرج من أزمير ) للروائي مصطفى القرنة

 آفاق حرة  للثقافة

 

بقلم الناقد/ محمد رمضان الجبور

ما يُحسب للروائي مصطفى القرنة هو هذا التنوع في طرح الموضوعات التي تحمل قضايا مختلفة ، فالمتتبع لأعمال القرنة يجد أن الموضوعات التي يطرحها تمس الحياة العامة للناس ويجد هذا التنوع ، فلكل عمل من أعماله الروائية له طابعه الخاص به ، والراوية التي بين أيدينا (الشيطان يخرج من أزمير) هي رواية تتحدث عن حقبة زمنية معينة ، أراد الكاتب أن يلفت نظر المتلقي إليها في أكثر من موقع في الرواية ، ففي بداية الرواية يقول” سقطت غرناطة نحن في 2 يناير من عام 1492 . دخل الإسبان مظفرين واستلموا مفاتيح القصور ، ومضى أبو عبد الله الصغير  إلى جبال البشارات” [1]

وفي مكان آخر من الرواية نرى أن الكاتب أراد أن ينتقل بنا إلى مكان وزمان أخر ، ” ضرب مسعود ولده وهو يطلب منه أن يكمل قصة الأندلس ، ولما يأس منه قرر أن يستخدم إحدى أدواته الصوفية ألا وهي الكشف ليعود إلى أزمير في العام 1626″ [2]

وفي مكان متأخر من الرواية ينقلنا الكاتب |إلى عام 1961

” العام 1961 تستفيق البلاد من صدمة انقلاب يطيح برئيس الوزراء عدنان مندريس  ، وإعدامه ” [3]

 

وفي نهاية الرواية وفي الفصل الأخير ينقلنا الروائي القرنة إلى زمان آخر :

“العام 1985 كنعان ايفرين يقمع الحريات  ، وسبولاني يشعر بالسأم من هذا الوضع “[4]

فمن العناصر التي  لا غنى عنها في أي عمل روائي  ما يسمى بالفضاء الروائي ، وذلك لأهمية  بنية الزمن في العمل الروائي ، فالكاتب يريد أن يضع المتلقي في الزمان والمكان ؛ لزيادة وضوح الصورة في ذهن المتلقي وبث الحياة في العمل الأدبي ، فتحديد الزمان يُعد بنية أساسية في العمل الروائي كما أنه يُجلّي للمتلقي المشهد الذي أراده الكاتب .

ورغم ترابط أجزاء الرواية ، إلا أنني سوف أتناولها من جانبين ، الجانب الأول  هو صورة اليهودي وكيف ظهرت في هذه الرواية ، أما الجانب الآخر فهو الجانب السياسي وما يتعلق بالحقبة الخاصة من تاريخ الدولة العثمانية .

صورة اليهودي في الرواية :

في هذه الدراسة سوف نحاول رصد  صورة اليهودي والتي قام الروائي القرنة بتوظيفها في هذا العمل الروائي ، ومن خلال الشخصيات التي رسمها القرنة في روايته ، سوف يتاح لنا المجال بالتعرف على أفكار هذه الشخصية ونفسيتها وتصرفاتها ، سنرى صورة اليهودي المشرد بلا وطن وبلا أرض تقبله ، صورة اليهودي قبل احتلاله لفلسطين وادعاءاته الكاذبة .

تطرح هذه الرواية العديد من التساؤلات وذلك من خلال الأحداث والشخصيات التي رسمها الروائي القرنة ، فقد أسبغ على هذه الشخصيات  من خلال الأحداث وحركة الشخصيات العديد من الصفات :

-الغدر والخيانة .

– الكذب والنفاق.

– اغتنام الفرص .

– الدجل والادعاء .

-التشرد والتشرذم .

-التدخل في سياسة الدول .

تحفل الرواية بنماذج يهودية عديدة وقد يكون أبرزها شخصية سبولاني  ، الشخصية الرئيسية المحورية في الرواية ، ولكن قبل أن نقف عند هذه الشخصية ، لا بد أن نقف قليلاً عند بعض الصور التي رسمها الروائي لهذا اليهودي :

اليهودي الانتهازي :

صورة من صور اليهود ، تتكرر في كل زمان ومكان ، وكأنها طبع لا يمكن الانعتاق منه ، فهم يتربصون ويتحينون الفرص للانقضاض على الآخرين :

“قال شلومو:

ولكنهم لا يستطيعون إظهار ذلك في الدولة العثمانية ، هل يعقدون المحاكمات وكأنه لا وجود للدولة سيتم إعدامهم إن علم السلطان بذلك .

قال أحد المؤيدين :

أي سلطان إن السلطان إبراهيم مريض ومجنون  وحالة الدولة تُنذر الأسوأ.” [5]

فهم يراقبون ، فقد علموا بمرض السلطان إبراهيم ، وما يتداوله الناس ، لذا سوف ينتهزون الفرصة ليحققوا مآربهم ، وينفذوا مشاريعهم .

 صورة اليهودي الكاذب المدّعي :

من الصور التي تتكر في هذه الرواية ، صورة اليهودي الكاذب المدعي ، فهم يظنون أنهم أفضل خلق الله (شعب الله المختار) ، لذلك ينتهجون كل الطرق حتى لو كان الكذب المبالغ فيه فهذا سبتاي يريد أن يجعل له مكانة في عيون الآخرين حتى لو كان ذلك عن طريق الكذب  والادعاء ، ولكن الرجل المسن يضحك من كلامه ويطرده في النهاية .

” سبتاي: لدي طرقي الخاصة ، لقد أتاني الله العلم والكشف .

– معقول !!

– نعم قبل أيام مرّ سرب قبرات من أثينا وكنت مع أحد الحاخامات وقلت له لدي رغبة بقبرة ، فأنا أحب لحم الطيور .

– وماذا حدث ، هل اشترى لك قبرة ؟

ثم ضحك بشدة

فقال سبتاي :

لا لقد نزلت القبرة مشوية من السماء .

ضحك المسن وقال :

– رائع .”[6]

الكذب والدجل جعل منهم من يفكر بادعاء النبوة ، فهذا سبتاي يسافر إلى اليونان وفي أثينا يلتقي بأحد الكهنة  وبقول له :

” – إني قد بُعثت نبياً .

ضحك الكاهن قائلاً:

– ومن هو  الذي بعثك ؟

– الرب

– هل تعرف الرب شخصياً ؟

– أرى أنك تسخر مني . ” [7]

 اليهودي صاحب الإشاعة دائماً:

يخبرني التاريخ بأن اليهود دائما أصحاب إشاعة ، يبنون سعادتهم وأحلامهم على الإشاعة، بل هم أكثر الناس خبرة في بث الإشاعات الكاذبة ، يقتنصون الفرص في بث سمومهم ، يدمرون دول وممالك ، فهذا سبتاي في غام 1648  يصبح حاخاماً فيقرر أن يصدر إشاعة باقتراب خروج المسيح المنقذ ” سبتاي أصبح حاخاماً ، قرر أن يصدر الإشاعة التالية :لقد اقترب خروج المسيح المخلص اليهود حسب قراءاته وحساباته الكثيرة . وقرر في الوقت نفسه أن يكون هو المخلص والنبي الجديد . ” [8]

فهم يخترعون الإشاعة وتدور بينهم حنى يأتي عليهم وقت يصدق هذه  الإشاعة من اخترعها وقام بتأليفها ، هذا طبع اليهود ، قتلة الأنبياء.

اليهودي الجشع :

جشع وطمع اليهود وحبهم للمال صفة ملازمة لهم ، بل هي سمة لا تفارقهم ، فاليهودي مفطور دائماً على بيع أي شيء في سبيل الحصول على المال ، حتى لو كان هذا الشيء ابنته التي لم تبلغ الثالثة عشرة من عمرها ، فالروائي القرنة لم يغفل عن هذه الصفة التي تلازم اليهود في كل زمانٍ ومكان ، فهو  يطرحها من خلال حوار يدور بين شلومو وعشيقته رومي ، التي طلبت من شلومو الابتعاد عنها ، لأن والدها سوف يزوجها من رجل ثري جداً رغم كبر سنه .

” – هل ما زلت تُحبني؟

– نعم أحبك ولا أسمح لأحد أن يقترب منك .

– ولكن والدي سيزوجني لأحد الأثرياء اليهود .

– لا تقبلي بذلك .

– الأمر ليس بيدي ، إنه ثري ، ووالدي يقول أنني كبرت .

– من قال أنك كبرت أنت في الثالثة عشرة ، كيف كبرت ؟

– هذا ما يقوله أبي . [9]

 اليهودي الماكر المخادع :

صورة من صور اليهود ، تأصلت بهم منذ خلق الله الأرض ومن عليها ، المكر والخداع ، فليس غريباً على من خدع ومكر بالأنبياء أن يستمر  بهذا الطبع اللئيم ، فهذا سبتاي يقف أمام المحكمة بتهمة بث الفتنة والفساد وإفساد الديانة اليهودية وادعاء النبوة ، ويحكم عليه بالإعدام ، وفي اللحظة الأخيرة يستطيع المترجم إنقاذه عندما يقول له باللغة الإسبانية : عليك أن تسلم ، ويسلم سبتاي ويصبح اسمه محمد عزيز أفندي ، وينقذ نفسه من حبل المشنقة بالمكر والخداع .

” استطاع المترجم إنقاذه عندما قال له باللغة الإسبانية :

– عليك أن تسلم بسرعة .

قال سبتاي :

– وكيف

– عليك أن تقول أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لتنقذ نفسك من الموت .هيا ” [10]

هذه بعض صور اليهودي التي أراد الكاتب رسمها في روايته التي عنونها ( الشيطان يخرج من أزمير ) فقد وصفهم الروائي القرنة بالشياطين ، رغم أن الشياطين تتأذى من أفعالهم ومكرهم وخداعهم وكذبهم .

الشخصيات اليهودية في الرواية :

الشخصية في الأعمال الأدبية تعتبر هي المحرك الرئيسي في أحداث الرواية ، بل هي الأساس في العمل الأدبي ، فبناء الشخصية يتطلب من الروائي جهداً غير يسير في رسمها ، ودمجها مع باقي أحداث الرواية .” توصف الشخصيات بأنها رئيسية عندما تؤدي وظائف مهمة في تطوير الحدث، ومن ثم يطرأ على مزاجيتها تغيير وكذلك على شخصيتها، أما الشخصيات الثانوية فهي التي لا يطرأ عليها تغيير أو تتغير في إطار الظروف المحيطة، إن الشخصيات الرئيسية هي شخصيات مسيطرة، وتظهر بصورة الأفراد المهيمنين رغم أن سلوكها قد لا يتسم بالسلوك البطولي، وأياً كانت الأحداث والتصرفات الصادرة عنها فإن الباعث ينير معالم الشخصية سواء كانت إيجابية أو سلبية” [11]

تعددت الشخصيات في الرواية وحتى نستطيع الوقوف عليها وسبر أغوارها لا بد أن نعلم أن الروائي بطريقة غير مباشرة قد ذهب إلى تقسيم الشخصيات إلى فئتين ، الشخصيات اليهودية والشخصيات العثمانية ، وما يهمنا الأن هي الشخصيات اليهودية وكيف تم توظيفها لخدمة هذا العمل الأدبي المميز ، لذا سوف نقف عند أبرز الشخصيات اليهودية في هذا العمل الأدبي.

سباتي زيفي :

شخصية حقيقية ، ولد في أزمير عام 1626 ، ادعى النبوة ، وأنه المسيح المخلص لليهود ، راقبته الدولة العثمانية ، وسجن ، ثم حُكم عليه بالإعدام ، وأسلم كي ينجو من الإعدام ، ثم نفي إلى  جزيرة ايدوس .

شخصية  صورها الروائي القرنة وهي تمارس الكذب والدجل ، وتحاول إقناع من حولها بنبوتها المزيفة والمدعية ، كثيرا ما كان يحذره والده من هذا الغباء وأنه قد يجلب الويلات لعائلته إن علم به العثمانيون .

وظف الروائي هذه الشخصية ليبين حقيقة اليهود وما يتمتعون به من مكر وكذب وادعاء ،وكان  يسرد علينا بعض الكرامات الكاذبة التي كان يدعيها سبتاي ، والتي قد تثير السخرية والضحك من هذا الغبي ، فهو يضع يده على رأسه فيخرج التين شهياً ندياً ، يتمنى قبرة فتنزل القبرة عليه من السماء مشوية ، وغيرها من الكرامات الكاذبة .

سبولاني:

من الشخصيات الرئيسية في الرواية ، وقد صوره الروائي القرنة  بأنه قد حلت فيه  روح سبتاي زيفي ، فاليهود يؤمنون بقصة الحلول ، ورغم صغر سنه كان يجيد التمثيل ،  وراح يتردد على الزاوية  الصناجيرية حتى أعجب به الشيخ الصناجيري وراح يتابعه في كل صغيرة وكبيرة :

” وعليكم السلام كيف حالك سبولاني ؟؟

– الحمد لله ما دمت بخير يا مولانا نحن بخير .

– أنت ولد ذكي ماذا قرأت في الأيام الماضية ؟؟

– قرأت عن سيدنا الخضر ، ولكني أريد أن أسالك شيخنا ، هل يجوز أن نعمل الحرام ونكون نقصد الحلال للخلاص من بعض الأمور .

– نعم يحدث هذا ، لقد صح حدسي أنك ولد داهية تعرف ما تريد “[12]

 مسعود : والد الطفل سبولاني ، كان معجب بأبنه ، رغم خوفه عليه من العثمانيين لطول لسانه .

الحاخام إسحاق داليا : كان له مجلس في الكنيس اليهودي ، يدرس فيه الطلاب ومن بينهم سبتاي زيفي  .

شلومو ورومي : عاشقان ، يعيشان قصة حب ، إلا أن والد رومي ، اليهودي الجشع المحب للمال ، سوف يزوج ابنته ليهودي كبير في السن من أجل المال .

الجانب السياسي في الرواية:

قبل البدء ، علينا أن نتساءل ، ما مدى وجود الجانب السياسي في رواية ( الشيطان يخرج من أزمير ) ، ولو نظرنا إلى العناصر الأساسية التي بني عليها هذا العمل الأدبي ، من شخصيات ، ومكان وزمان ، وحبكة ، وأحداث ، لوجدنا أن جميع هذه العناصر تمس الجانب الساسي بل تغرق فيه ، بجميع ما فيها ، وسوف نتناول هذه العناصر ونحاول الاقتراب منها وتحليلها ، لنتعرف على الجانب السياسي في هذا العمل الأدبي .

وقبل التوقف عند هذه العناصر ، لا بد أن نمر على بعض الذين عرفوا الرواية السياسية  فإيرفنج هاو  يعرف الرواية السياسية بأنها تلك: “الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي، بيد أن توضيح كيفية التحكم تبدو ضرورية؛ لأن كلمة تحكمي تحتاج إلى تحديد، وربما كان من الأفضل القول بأنها الرواية التي نتحدث عنها لنظهر غلبة أفكار سياسية أو وسط سياسي. إنها رواية تظهر هذا الافتراض دون صعوبة أو تحريف.” .

ومن بين النقاد العرب الذين تعرضوا لتعريف الرواية السياسية، د. سعيد علوش، الذي رأى أنها “نزعة روائية تقوم على أطروحة الدعوة إلى أفكار سياسية معينة، وتفنيد غيرها، مما يفسح المجال أكثر لحوارات تتخذ شكل مجادلات سياسية على حساب التقليل من أهمية العناصر السردية الأخرى .. وهي رواية تنزع نحو نوع من الواقعية، ولا تتميز عن غيرها من الروايات سوى بتأكيدها على الحدث السياسي.”

أما  د. طه وادي  يرى أنها “هي الرواية التي تمثل القضايا والموضوعات السياسية فيها الدور الغالب، بشكل صريح أو رمزي. وكاتب الرواية السياسية ليس منتمياً ـ بالضرورة ـ إلى حزب من الأحزاب السياسية، لكنه صاحب أيديولوجيا، يريد أن يقنع بها قارئه، بشكل صريح أو ضمني … وهو يستطيع أن يطرح رؤيته للعالم من خلال سرد أحداث معاصرة أو من خلال تصوير إطار تاريخي خادع، لكي يطرح أيديولوجيته بطريقة غير مباشرة …”

الشخصيات السياسية العثمانية :

ظهرت في الرواية مجموعة من الشخصيات العثمانية التي كان لها الدور الأكبر في الرواية وفي بناء المتن الروائي ، بل من خلال تلك الشخصيات نستطيع الكشف عن الأبعاد الأيديولوجية لتلك الشخصيات ودورها السياسي ، وكيف استطاع الروائي توظيف هذه الشخصيات لا براز  الشكل الجمالي للنص  ، الكشف عن نمو الشخصية السياسية  واثر ذلك على المتن الروائي ، ومن الشخصيات التي وردت في بداية الرواية للفت انتباه المتلقي لهجرة اليهود من إسبانيا إلى تركيا  شخصية أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة ” سقطت غرناطة نحن في 2 يناير من عام 1492 . دخل الإسبان مظفرين واستلموا مفاتيح القصور ، ومضى أبو عبد الله الصغير إلى جبال البشارات ليذهب إلى أفريقيا  ويموت فيها ذليلاً ، أنه ملك غبي ساقط ” [13]

كمال ريس :  قائد أسطول الإمبراطورية العثمانية الذي حمل اليهود الذين رغبوا بالهرب من غرناطة إلى مدينة أزمير ، وفي ذلك دلالة على ضعف اليهود في تلك الفترة وأنهم أقلية لا تُذكر .

الانكشارية : يحاول الروائي القرنة وصف الوضع السياسي القائم في الإمبراطورية العثمانية ، فيصف  ما قامت به الانكشارية ، فقد تحولت هذه الفرقة إلى مركز قوة نغص حياة الدولة العثمانية، وعرضها لكثير من الفتن والقلاقل، وبدلاً من أن ينصرف زعماء الانكشارية إلى حياة الجندية التي جبلوا عليها –راحوا يتدخلون في شؤون الدولة، ويزجون بأنفسهم في السياسة العليا للدولة وفيما لا يعنيهم من أمور الحكم والسلطان؛ فكانوا يطالبون بخلع السلطان القائم بحكمه ويولون غيره، ويأخذون العطايا عند تولي كل سلطان جديد، وصار هذا حقًا مكتسبًا لا يمكن لأي سلطان مهما أوتي من قوة أن يتجاهله، وإلا تعرض للمهانة على أيديهم.

” لماذا يتمرد هؤلاء الانكشارية يا أبي ؟؟

– لا أعرف إنهم يسيطرون الآن ولكن السلطان سيعيدهم إلى صوابهم لأن البلاد تصبح فوضى إذا تحكموا بها ” [14]

مراد الرابع ،  من الشخصيات العثمانية التي كان لها دور في الرواية ، فالاحتفاظ بكرسي العرش كان من أهم ما يفكر به هذا السلطان ، فعمد إلى قتل ولي عهده وأخيه بايزيد وهو في الثالثة والعشرين من عمره ، وقتل أخاه سليمان ثم قتل أخاه الثالث قاسم ونجا من القتل أخوه إبراهيم الذي كان قد أودعه السجن ليقتله ، ولكن شاء القدر أن يموت السلطان مراد الرابع بمرض ما ، وتدخل كوسم سلطان على ابنها في السجن وتخرجه ليتولى الحكم بعد موت أخيه :” –  أخرج لقد مات أخوك .

نظر اليها بشك ثم أضافت

– انظر إليه

كان الخدم يحملونه جثة هامدة وهنا قام ابراهيم مقتنعاً .

قالت له السلطانة كوسم :

– عليك من الآن فصاعدا أن تقوم بسلطنتك لأن الوضع لا يحتمل ” [15]

يصف لنا الروائي القرنة الوضع السائد في الإمبراطورية العثمانية في عهد مراد الرابع ، فمن أجل الكرسي يقوم السلطان بقتل أخوته الواحد تلو الآخر وأمه لا تحرك ساكناً ، فقط تمنعه من قتل إبراهيم، جبروت امرأة .

كوسم سلطان[16] : من أبرز الشخصيات العثمانية الواردة في الرواية ، السلطانة كوسم سلطان ، فقد لعبت الدور الأكبر في الجانب السياسي  ، فكانت تأمر وتنهى ، وتعزل وتولي ، فهي صاحبة الكلمة ، فقد مارست الحكم في الظل ، وأرادت أن تظل هي المسيطرة على شؤون الدولة ، وعندما أراد ابنها السلطان العثماني إبراهيم الأول  من منعها في التدخل بأمور الحكم ؛ كان مصيره الموت على يدي أمه ، فهي في سبيل تحقيق أهدافها تقتل كل من يقف في طريقها حنى لو كان ابنها ، فهي سيدة القصر ، وقد وثق الروائي القرنة هذه المعلومة في روايته مبيناً الجو السياسي العام في الدولة :

” أدرك السلطان العثماني إبراهيم الأول أن أمه تتدخل في الحكم فقال لها :

– يجب أن تتوقفي عن التدخل في الحكم يا أمي ، هل تفهمين ما أقول ؟

غضبت كوسم وقالت :

– ماذا تقول يا بني ؟

– أقول ما سمعت ِ.

– أنا سيدة القصر وتقول لي لا تتدخلي في شؤون الدولة ، لمن سأتركها لك هل تستطيع إدارتها ؟

– نعم لقد اضطربت أمور الدولة .

– سأعيدها لما كانت عليه .

– لن تعود بهذه الطريقة .

– لقد قلتُ لك ألا تتدخلي إنه الإنذار الأخير وإلا سأنفيك إلى قبرص .

– كما تريد . ” [17]

وبعد أيام قلائل قامت الأم واتصلت مع زعماء الانكشارية وأطاحت بالسلطان ثم ما لبثت بعد عشرة أيام أن قامت بقتله ودفنه .

ففرقة الانكشارية كان لها نفوذها على الدولة ، وهي من أسباب ضعف الدولة الثمانية لكثرة تدخلهم  في أمور الحكم ، وقد وثق الروائي ذلك في روايته ، وتستمر كوسم سلطان في سياستها ، وبعد أن عيّنت السلطان محمد الرابع الذي لم يتجاوز السابعة من عمره ندمت وقررت الخلاص منه ، ولكن أمه خديجة تارخان  تنبهت لذلك وقررت قتل السلطانة كوسم قبل أن تقوم بقتل ولدها ، ورتبت الأمر مع الخدم الذين كانوا يكرهون كوسم سلطان ، فقاموا بخنقها بحبال الستارة لتنتهي حياة امرأة  كان لها الكثير الكثير من التاريخ السياسي في الإمبراطورية العثمانية  .

” قامت خديجة تارخان تسير في ردهات القصر تنتظر الخبر . بعد قليل جاءها رئيس الأغوات مبشراً وقال:

– لقد تم الأمر يا مولاتي .

– كيف ؟؟

– لقد خنقناها بحبل الستارة ، ولفظت أنافسها الأخيرة .

– الحمد لله وهل حدث ما يعكر صفو الأمور .

– لا مشت الأمور كما خططنا لها . ” [18]

هكذا انتهت حياة امرأة كان لها الدور الأكبر في جزء من الحياة السياسية في الإمبراطورية العثمانية . جبروت هذه المرأة جعل منها سفاحة رغم ما كانت تغدق على الفقراء من أعطيات وأعمال الخير الكثيرة .

 

الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980 :[19]

ينقلنا الروائي القرنة قبل نهاية روايته(الشيطان يخرج من أزمير )  بقليل ليذكرنا بالانقلاب العسكري الذي قام به كنعان أيفرين  عام 1980  ، ويبدي الروائي رأيه بالتعليق على الحادثة بأسلوبه الروائي مسجلاً دور المخابرات الأجنبية في نجاح الانقلاب :

” – في مساء يوم 12 سبتمبر 1980 تلقى أحد الرؤساء الأجانب رسالة من ممثل أحدى المخابرات الأجنبية في أنقرة  رسالة تقول :

أولادنا فعلوها وفي رواية أخرى أحد غلماننا نجح بالانقلاب .

– يا رجل كلنا نعرف ذلك ونعرف الأصابع الأجنبية في كل تلك الأمور . ” [20]

فالروائي يوضح لنا بعض الأمور التي تتعلق بالجانب السياسي السائد في تلك الفترة ، فيذكر ما كان من انقلابات عسكرية لقمع الحريات وفرض الأمن على البلاد .

الخلاصة :

يلاحظ القارئ أو المتلقي أن الكاتب القرنة قد قسم روايته إلى قسمين ، قسم خاص بصورة اليهودي وتاريخه وصفاته وقسم خاص بجزء من تاريخ الدولة العثمانية السياسي ، إلا أننا نستطيع القول أن كلا من القسمين يلتقيان في الجانب السياسي ويسجل للروائي طريقة دمجه للجانبين بأسلوب شدّ القارئ للمتابعة ومعرفة ما ستؤول  إليه  الأحداث ، فالطابع السياسي التاريخي قد غلب على أجزاء الرواية وجعل منها عملا أدبيا يؤرخ ويوثق فترة تاريخية مهمة من الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية الحديثة .

[1] الرواية ص 10

[2] الرواية ص20

[3] الرواية ص 155

[4] الرواية ص 211

[5] الرواية ص 134

[6] الرواية ص 148

[7] الرواية ص 145

[8] الرواية ص 133

[9] الرواية ص 118

[10] الرواية ص 218

[11] القصة القصيرة (النظرية والتقنية ) أنريكي اندرسون ت: علي إبراهيم علي ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2000: 239-240

[12] الرواية ص 71

[13] الرواية ص 10

[14] الرواية ص 61

[15] الرواية ص 110

[16] كوسم سلطان: من أقوى النساء في التاريخ العثماني وأكثرهن نفوذًا،وحاصلة على لقب “السلطانة الأم تزوجت  السلطان العثماني الرابع عشر أحمد الأول  اكتسبت السلطانة كوسم سلطتها في الدولة العثمانية عن طريق زوجها، ثم من خلال ابنهما مراد الرابع (حكم من 1623م – 1640م) وإبراهيم الأول (حكم من 1640م – 1648م)، وأخيرًا من خلال حفيدها القاصر محمد الرابع (حكم من 1648م – 1687م). تقلدت منصب السلطانة الأم  أثناء حكم ابنيها مراد وإبراهيم.”.

[17] الرواية ص 141

[18] الرواية ص 180

[19] منصف ليلة 11 أيلول/سبتمبر 1980 خرجت الدبابات تجوب شوارع المدن الرئيسة وتم السيطرة على مبنى الإذاعة والتليفزيون وأُغلقت جميع المطارات المدنية والعسكرية وتم الاتصال برؤساء الأحزاب لحزم حقائبهم تجهيزاً لاعتقالهم، كما انتقل الجنود إلى منزل بولنت أجاويد وسليمان ديميريل فاعتقلوهما ونقلوهما مع زوجتيهما إلى فندق في شبة جزيرة جاليبولي بمواجهة مضيق الدردنيل، أما نجم الدين أربكان و ألب أرسلان توركش فقد نقلا إلى مكان آخر في ضواحي إزمير، وفي ظهر اليوم التالي كان الانقلاب قد تم.

[20] الرواية ص 212

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!