قراءة في كتاب ( من فيض الوجدان ) للكاتبة كفاية عوجان

بقلم : الناقد والشاعر الأردني محمد سلام جميعان

الحق أقول لكم، كما قال المسيح ابن مريم عليه السلام، أنَّني وقعت في حيرة مما يمكن أنْ أقوله بعد أن قلتُ في تقديمي للكتاب رؤيتي وشهادتي المسؤولة أمام ضمير الفن والأدب. فما عسى الملَّاح أنْ يصطاد بعد أن أحاطت الشِّباك بأسماك البحر؟ لكن حوريَّة البحر ذكَّرتني بجملةٍ رشَحَ بها قلمي، لعلَّكم حين يصير الكتاب بين أيديكم تقرأونها. وأزيدكم من الشِّعر بيتاً حول فحوى هذه العبارة التي قلتُ فيها: ” تجربة كفاية في هذا الكتاب تحمل مناخها الخاص وأسلوبها الَّذي لا تُشايع فيه الأنماط السائدة في الكتابة الأنثوية “. وأزيد هنا أنَّ كفاية في كتابتها تتجافى عن العبارة الغامضة التي لا يدري القارىء والسامع كيف يفكُّ طلاسمها حتى ولو استعان بمغربيٍّ وعالَجها بالبخور القاطع والمرّار الهندي.

وكذلك لا تكتب كفاية الواضحَ المكشوفَ الذي يُغري كثيراً من الأديبات اللواتي يطيب لهن الاتكاء على أرائك زليخة ويقطِّعن أصابعهنَّ على ما يمكن أن يَخطر ببالكم. فحين تقرأ للأديبة كفاية تلقى أدب العبارة والكلمة وطهارتها، فوجدانها ينبض في محرابٍ مُضاءٍ بخشوع الحرف السّامي، والمناجاة المتبتِّلة في ملكوتٍ أبيضَ كملكوت مريمَ حين انتبذَتْ مكاناً شرقيّا. وهنا أُزجي لها تحيةَ إعزازٍ وتقدير على وضاءةِ حرفِها، وتحيةَ فخر كبير بأُسرتها وذويها على دعمهم لها في رحلتها الإبداعية المشرقة.

مثلما نجد في الحدائق الفلَّ والقَرنفل والياسمين وشتّى الأزاهر والنَّباتات، نجد في الأدب مذاهبَ، وتياراتٍ، فللكتابة أشكالٌ وألوانٌ في التعبير. وفي نصوص كتاب ” من فيض الوجدان ” صورٌ وألوانُ وأفكارٌ راقصة كالفراشات الحائمة حول الزهر، وفيه بحرٌ يتجاذبه المدُّ والجَزْر، لكنَّ مراكب معاني الكاتبة وأشرعتها لا ُتخطئ شاطئها، فترسو نهاياتُ النصوص وخواتيمُها على موجةٍ هادئة رائقة هي موجة الموسيقى.

ففي نصوص كفاية موسيقى داخلية تسكن اللفظة والمُفردة، وفيها موسيقى خارجية يحيط رنينها بمعصم الجمل والعبارات، فيبدو النصُّ أشجاراً توشوشُ، أو جدولاً يترنَّم، أو نهراً يعزفُ جريانُ مياهِه أجراسَ الإيقاع. ولا تلبث هذه الموسيقى حتى تجرَّ أذيالها سابحةً مع وقار الفكرة التي تحلّق على جناح الوجود والحياة. فالنَّفس المرهفة حين تَتشمَّسُ تحت سماء الشعور تدخل في مناجاة عالم الأحلام والخيال، وهي تَعمُر المعنى بالنّوتة التي تُلائم إطارَ فكرتها، فتحذف نغمةً وتضيف أخرى…نغمةٌ تجذب نغمةً وقرارٌ يجذب قراراً، فما بين النَّغم الرّاقص في رِعشة الوتر، والأنين المجروح في شكوى النّاي تتتابع موسيقى الحرف والكلمة والعبارة لدى كفاية.

أما إذا سألتم عن الصورة، فستجدونها حيةً نابضة ملونة بألوان الشعور. وشعور الكاتبة في هذه النصوص، شعورٌ أسيانٌ حزين، يجاوره شعور فرِح جَذِل، فالصورة الباسمة المشرقة توازيها صورة الدَّمعة الحارة الخرساء… وهل وجدان الإنسان المرهف إلّا فرحٌ وألم؟

تجدون هذين النقيضين في نصوص كفاية، وهنا أرجوكم ألّا تسألوا الطائرَ متى يغرِّد ولا النسمة متى تهبّ ولا النّار متى تستعر. فجنازة العطر وميلاد الزهرة في نصوص كفاية متواكبان.

لا أكتمكم سراً إذا قلت لكم إنَّني قمت بعمليةِ إحصاءٍ لبعض ألفاظ الكتاب، تماماً كما تقومُ الدُّول والحكوماتُ بإحصاء نفوس مواطنيها ورعاياها، فوجدت الفرح مذكوراً ١١ مرّة، والحلم ١٧ ، والروح ١٥ والعمر ١٥ والحياة ٣٥ والموت ٢٨ والربيع ٧ والخريف ٥ والغياب ٧ والحضور ٢. ليس عبثاً ما فعلتُ ولا تسليةً مجانيّة، وإنما لألفت انتباهكم اليَقِظِ دوماً إلى أنَّ هذه الألفاظ وتكراراتها هي بمثابة خوارزميّات لغوية تُحرّك شعورَ الكتابة لدى كفاية.

لا محلَّ لليأس ما دام حبرٌ يسيل على الورق، فكثيرون هُم الكتَّاب الَّذين لم تُصادفْ تآليفُهم نجاحاً، وأعادها لهم الناشرون مع الشُّكر. وكم من مسرحيّين استقبل المشاهدون تمثيلياتهم بالصَّفير، لكنَّهم ثبتوا بعنادٍ وإصرارٍ حتى بلغوا ما يشتهون. فالحياة ميدانُ كفاحٍ وحقلُ تجارب، وربّما يعمل الإنسانُ في ساعةٍ أو يوم أو شهرٍ ما غفل أو عجز عن فِعْله فيما مضى من العمر، فمن قَلْب الغيوم السّوداء تنبثق كهرباءُ البرق السّاطعة.

يروي برنارد شو في مذكراته الحكاية التالية، فيقول: انتهيتُ من كتابي الأوَّل قبل ستةٍ وسبعينَ عاماً، وتقدَّمتُ به إلى كلِّ مَن خطرَ اسمُه على بالي من الناشرين في البلاد الناطقة بالإنجليزية، فلم يجدْ قَبولاً من أحد، ولم يجد طريقه إلى الطَّبع إلا بعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ، حين صار الناشرون يُرحِّبون بكلِّ شيء أضع اسمي عليه. والعبرة واضحة من ذِكْر الحكاية هنا، فلا يأسَ ولا استسلامَ للخذلانِ، فالدُّرَّةُ تحتفظُ بنفاستها وإنْ غفلَ عنها الغافلون.

أهنىء الكاتبة الأديبة كفاية عوجان بإصدارها الثاني هذا: “من فيض الوجدان”، آملاً لها تحقيق طموحِها بحياةٍ أدبيةٍ مديدةٍ في عمرٍ ضاحكٍ بأمواجِ الكتابة، وتهنئتي لأُسرتها وذويها وهم يشهدون ثمرة قلمها المبدع، وعسى أنْ تَتحنَّن الأيامُ عليها وعلينا وعليكم بفرحٍ إبداعيٍّ جديد.

محمد سلام جميعان.

مركز الملك عبد الله الثقافي- الزَّرقاء

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!