لصحيفة آفاق حرة:
_______________

الدين والتدين في قصة زكريا تامر


(صورة الكاتب زكريا تامر)

بقلم – محمد زعل السلوم

مقدمة :
تميز حدّاد القصة القصيرة في العالم العربي (زكريا تامر)، بطرقه على سندان السلطة الغاشمة التي أفرزت “الإنسان المدجن” الخاضع المهزوم الفاقد الإرادة، فأدى ذلك لتشوهات اجتماعية عكستها قصص زكريا تامر منذ بداياته، فعبر عن “الدين المدجن” أو “دين السلطة” و”التعليم المدجن” و”الرجل المدجن” والمرأة المدجنة”، واستهزأ “بالمجتمع المدجن” الخانع المقهور.
يعيب العلماء والسياسيين الغربيين على الإسلام، ويتهموه بأنه مصدر التخلف والرجعية والجهل في العالم العربي، لكنهم يغضون الطرف بالمقابل عن العيوب الاجتماعية والسياسية التي تحكم الشعوب العربية، وقد أكد (صمويل هنتنغتون) مراراً وتكراراً في كتابه (صراع الحضارات) على أن الدول الإسلامية ليست بالأرض المثمرة للتقدم الديمقراطي، ويعارضه بذلك (مارك تيسلر) في كتاباته عن دور الإسلام في تشكيل الثقافة السياسية، فهو يؤكد أنه لا يمكن للإسلام أن يكون مسؤولا عن أدوار الطغاة، التي تمارسها الشخصيات البطريركية سواء على مستوى الحكم والسلطة أم على مستوى الفرد والمجتمع، فهم يسيئون بالضرورة لاستخدام السلطة الممنوحة لهم من الإسلام، ويحاول زكريا تامر وخاصة في مجموعته (الحصرم)، وبقية مجموعاته القصصية بالإجمال، إبراز نقاط ضعف ذلك المجتمع، ومع ذلك، فإن طبيعة عمله القصصي لا تسمح بتقديم شرح توضيحي للأمراض الاجتماعية وحيثياتها، ولا للمفاهيم الدينية الخاطئة، المقبولة عموماً كحقيقة مشتركة. ولا حتى دورها الفاعل في تشكيل الوضع الراهن، لذلك وجدت أنه من الضروري توضيح تلك الحيثيات التي على أساسها يبني (زكريا تامر) شخصياته.
ظاهرة التأله على مستوى السلطة والمجتمع :
لم ينسَ الحدّاد الإرث التاريخي الديني، في معظم كتاباته، بل كان له الحضور الدائم والمعبر عن التشوه الكامن في المعتقدات الدينية، وسوء استخدامها بما يتوافق مع روح الاستبداد القائمة، التي عبثت بمكونات العقل العربي والمجتمع الإسلامي، بل وفضح إساءة استخدام الآيات القرآنية بما يخدم الأنظمة العربية الحاكمة، فتم تحريفها عن حقيقتها، فالقرآن الكريم الذي كان واضحاً في لعناته التي ترددت عشرات المرات في صفحاته، هازئاً بالظلم والفرعنة، بل ولاعناً آل فرعون وغيرهم من الظالمين الطغاة المستبدين، وبإلحاح ووضوح (ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون) . ومع ذلك قامت الأنظمة الشمولية باستثمار آيات الطاعة مثل (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، فقهرت بها الرجل والمرأة في المجتمع، لتضفي القداسة على سلطة أبوية قاهرة، لا تهتم للإنسان بقدر اهتمامها بمن يحكمه وبحياته وحريته. ليضطر المجتمع لاحقاً دفع ثمن خنوعه وخضوعه، وينفجر في نهاية الأمر، كما توقع أحد أهم عرابي الثورات العربية منذ بدايات ثرثرات يراعه عام 1959، والتي نشرتها مجلة الآداب. فالدين المدجن لدى زكريا تامر يجسد الدين المستصلح بالنسبة للسلطة، ويصنع مواطنها “الصالح”، فالمواطن الصالح لدى الاستبداد هو الصم البكم العُمي الذين لا يفقه “صم بكم عمي فهم لا يعقلون” البقرة 171. وكأن السلطة الإلهية التي يجسدها النظام كما يعتقد، تستحيل بلاوعي الضحية أمام الجلاد، فيعتقد أنه بات إلهاً يشبهها.
“وصرخ صديقي : لا تقتله … ربما كان إنساناً وحيداً..
وارتعد جسدي حينما سمعت صوت انسحاق الصرصار تحت حذائي .. أوه كُنتُ إلهاً قاسياً كذُباب مدينتي الذي أكل عينين زرقاوين”
“ويتعالى من مئذنة مسجد عتيق صوتٌ عّذب : الله أكبر .. الله أكبر
فيقول الشاب النحيل لزميله :
-هلمّ نصلي ..
-لماذا نصلّي ؟ قد يكون الله نفسه يكرهنا.”
“وهتف الرجل السابع بضراعة بائسة : آه يا آلهتي .. وهمست الفتاة بارتعاش : أوه أوه” ، فالآلهة هنا “مغتصبة”، يتناوب عليها سبعة رجال، ربما هم الأنظمة العربية السبعة التي حاربت عام 1948، وفشلت في التحرير. وقد طبعت هذه القصص ضمن مجموعة (صهيل الجواد الأبيض) عام 1960.
في قصته (محو الفقراء)، يسخر زكريا تامر من استخدام الدين للأغراض السياسية، ويُبرز مدى تغلغل السلطة التي تحل محل الخالق في لاوعي المواطن الخاضع : (جاع المواطن سليمان القاسم، فأكل جرائد زاخرة بالمقالات، تمتدح نظام الحكم، وتعدد محاسنه المتجلية بمحو الفقر. ولما شبع، شكر الله رازق العباد، وآمن إيماناً عميقاً بما قالته الجرائد) .
الشخصية الدينية الجاذبة الاعتبارية المروجة للسلطة :
يعد رجل الدين شخصية اعتبارية في المجتمعات العربية والإسلامية، فوجدت فيه السلطة الملاذ الآمن للسيطرة عليه وإخضاعه، واستخدامه كأداة لتبرير هزائمها، وتمرير فسادها، والتلاعب بالعقول وبرمجتها بما يتناسب مع توجهاتها الشمولية، وسطوتها على المجتمع، واغتصابها لحقوق الشعوب في الحرية والكرامة والعيش.
فاستغلت السلطة رجال الدين، وتحولوا شيئاً فشيئاً لناطقين بلسانها، ففي قصة (الخطبة) من مجموعة (النمور في اليوم العاشر) القصصية التي صدرت عام 1978، بعد 11 عاماً على هزيمة عام 1967، وبعد خمسة أعوام على هزيمة عام 1973 العسكرية، يقول الشيخ : “… والله ما كان سكوتنا عن الأعداء عن ضعف إنما كان إباءاً وشمماً وترفُّعاً وثقة بالنفس. قالوا : نريد بترولكم، قلنا خذوا بترولنا، فنحن أحفاد حاتم الطائي. قالوا : أعلنا حرباً شعواء على الأفكار المستوردة. فقلنا : نحن أهل الكر والفر، ونصبنا المشانق وشيدنا السجون. أرادوا الاستيلاء على المدينة. فأعطيناهم مدناً ومدنا، كي نبرهن أننا لا نبالي بهم. فإذا كانوا يملكون الطائرات والقنابل، فنحن نملك الخلق القويم والمبادئ السماوية، وشتان بين ما يملكون وما نملك، فنحن الأقوياء لأننا مسلحون بالروح والحق لا بالمادة الزائلة والباطل الزهوق …”. فهذا الشيخ “الرفيق” وبالأحرى المدجن أو شيخ “السلطة” يتبنى إحدى تنظيرات حزب البعث وشعاراته المثيرة للسخرية “بأننا نملك الحق الساطع والشعب الواسع”. وهو ما يسخر منه زكريا تامر هنا كسخريته المريرة من الهزائم العربية أمام الكيان الصهيوني.
وفي قصته (الجنة) : (كان الرجال الموشكون على أداء الصلاة، متحلقين بلهفة حول شيخ المسجد، وقد سأل أحد الرجال الشيخ بصوت متهدج : “أتوجد يا شيخنا طائرات في الجنة؟” فقال الشيخ : “لا وجود للطائرات في الجنة” فتنهد الرجل بارتياح وقالوا بفرح : “الحمد لله”) ، وهنا يسخر تامر من شيخ الدين المروج لتبرير هزائم الأنظمة العربية عامي 1967 و 1973، ويوحي بذات الوقت إلى أنهم يعيشون الجنة الدنيوية تحت حكم هذه السلطة “البريئة الوادعة العادلة”، ليكتشف هؤلاء النمور أو الشعوب التي يصعب ترويضها، أنها ستثور فيما بعد، وستقوم طائرات الأنظمة المدعية الطهارة ذاتها، بسحق تلك الشعوب في سورية وليبيا واليمن بعد عام 2011.
استحضار الشخصيات التاريخية والدينية من العصور الإسلامية المختلفة وإسقاطها على عصرنا الحالي :
يستحضر زكريا تامر مجموعة من الشخصيات التاريخية الإسلامية أو التي أثرت في التاريخ العربي والإسلامي، فهو يفترض لو كان هؤلاء العظماء في عصر الدول القومية والسلطوية تلك، فسيتم تهميشهم أو محاكمتهم أو تغيير سلوكهم وهو بذلك يستحضر الآية الكريمة (وأضل فرعون قومه وما هدى) ، فالناس على دين ملوكهم، وقوله تعالى (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) . فهو يستعين بالموروث التاريخي الديني ليدين السلطة القائمة ويسخر منها ويبين طبائعها.
يحول تامر (خالد بن الوليد) في قصته (البطل) لمجرد بطل إعلان ملح، فلو كان حياً وبزمن هذه السلطة لتحول حتى الأبطال التاريخيين في الفتوحات الإسلامية، لمجرد مطبلين للترويج لسلع الأنظمة التافهة في هذا العصر الغريب. (مذيعة تلفزيونية : “هل تسمح يا أستاذ خالد بن الوليد بأن تشرح للأخوة المشاهدين كيف صرت بطلاً شهيراً؟”. خالد بن الوليد : “لقد صرت بطلاً بفضل ملح اندروس الفوار، ففي كل صباح كنت أشرب كوب ماء بعد أن أذيب فيه ملعقتين من ملح أندروس.. فملح أندروس كما يعلم القاصي والداني ينشط الكبد وينظف الأمعاء ويقوي الجسم وينعش القلب” .
وفي قصة (التراب لنا وللطيور السماء) ، يؤكد عالم جليل للحاكم أنه اخترع طائرة وضعها فوق منزله وستنقذ الشعب، لكن شيخ الدين المتملق للسلطة، يعتبر تلك الطائرة نوع من الكفر، وربما تهدد قصر الحاكم نفسه، فيقف الشعب إلى جانب حاكمه ويصبح العالم المخترع للطائرة “عدو الشعب”، فيقرر الحاكم إحراق منزل العالم والطائرة التي تقبع فوقه والعالِم الذي صنعها.
وفي قصة (الاعدام) ، يختتم زكريا تامر القصة حول إعدام المجاهد البطل عمر المختار الذي يبقى وحيداً على مشنقته : “وهاهو عمر المختار ينبذ حبل مشنقته ويعدو نحو المقبرة بينما شموس الأرض تتوارى وتنطفئ شمسا تلو شمس”.
وفي (الاستغاثة) تتم محاكمة (يوسف العظمة) لأنه قرر الدفاع عن وطنه وعدم الانسحاب والهرب، وإنما مواجهة الموت، على عكس وزير دفاع سورية عام 1967 (حافظ الأسد) الذي أمر القوات بالانسحاب الكيفي من مرتفعات الجولان، وأعلن سقوط القنيطرة قبل أيام من سقوطها الفعلي. ليتعرض يوسف العظمة بالمقابل للسجن. فانقلب مفهوم الجهاد في الإسلام للذود عن حياض الأمة، إلى الفرار والهرب للحفاظ على الكرسي والوظيفة حسب دين السلطة الجديد.
بينما الشنفرى تحول إلى قط، بعد أن كان شاعر الصعاليك المتمرد، وتحول أبي حيان التوحيدي إلى مواطن عادي مهزوم ومقهور، وحوكم طارق بن زياد بالسجن لحرقه السفن خلال فتح الأندلس بتهمة إهدار المال العام، وتم زج عمر الخيام بالسجن أيضاً لشعره في الحب والخمور بحجة الدعاية للسلع الأجنبية المستوردة مما يؤدي لتهديد السلع الوطنية.
استخدام السلطة للدين في تربية النشء :
يسخر (زكريا تامر) من استخدام الدين وتبسيطه لمجرد كلام وهراء، فالسلطة تقوم بتسخيف هذا الكلام، لتتغطى به وتفرض سطوتها الإجرامية، ولتقوم بذلك، تعمل على ترسيخه في عقول الأطفال، كما في قصة (لماذا؟) : (سأل التلميذ معلمه : “ما الفرق بين الحيوان والإنسان؟”. فقال المعلم للتلميذ : “الحيوان لا يتكلم والإنسان يتكلم”. لم يكذب المعلم، ونحن العاملين في الإذاعة والتلفزيون والصحف خير من تكلم. فإلى خالق السموات والأرض الذي منحنا ألسنة، نقدم الشكر والامتنان، ففوائد الكلام لا تحصى. ويوم حاربنا الأعداء قام كلامنا بدور مشرف، فجابه الأعداء بشجاعة، وأسقط طائراتهم ودمّر دباباتهم وأباد جنودهم. فلماذا حدث ما حدث وحلّت بنا الهزيمة مع أنّ كلامنا جاهد جهاد الأبطال؟) .
وفي قصة (الأبناء) يستذكر زكريا تامر بطريقة غير مباشرة الآية القرآنية : (ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين) ، وهي الآية التي تدعو الإنسان للتفكير بما يرى ويعبر عنه، في الوعي الجمعي للإنسان العربي، لكن ذلك يتغير في ظل تلك الأنظمة : (سأل طفل صغير أمه : “ما الفائدة من العينين؟”. فتجهّم وجه الأم، وقالت وهي تنظر لطفلها بريبة وحذر : “العينان خلقتا لتنظرا باحترام وحب إلى صور زعماء البلاد”. وقال الطفل : “والأذنان؟”. قالت الأم وقد تزايد خوفها : “الأذنان تسمعان الأوامر الرسمية والخطب السياسية”. قال الطفل : “واللسان؟”. قالت الأم : “اللسان لا فائدة له سوى المساعدة على ابتلاع الطعام بعد أن تمضغه الأضراص والأسنان”. فابتسم الطفل ابتسامة غامضة بينما كانت الأم ترتعد لرعب قاس.) .
وفي قصة (الأغصان) بمجموعة الحصرم الصادرة عام 2000، يتمرد النلاميذ على معلمهم الذي يحاول إجبارهم على طاعته، وترديد النشيد الوطني، لكنهم يغنون أغنية حب، فيحاول ممارسة سلطاته عليهم وقمعهم لكنهم يتمردوا عليه ويقتلوه، فيتحرروا منه، وينشدون نشيدهم الوطني بسعادة. فالموت للديكتاتور بالنهاية. فليسوا مجبرين على طاعة أولي الأمر. وبالتالي فهذا النشء مهما حاولت أي ديكتاتورية قمعهم بالسلطة الدينية وغيرها، لابد من ثورتهم بالنهاية كما يؤكد زكريا تامر ذلك من خلال قصته.
استخدام السلطة عبر الإرث الديني لترسيخ مفهوم الطاعة لدى الشعب :
أما في قصته (أولوا الأمر) مذكراً بالآية الكريمة : (يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم) : (اتكأ الشرطي بمرفقيه على سور النهر، وصاح بصوت خشن صارم : “أيها النهر”. –”من يناديني؟”. –”أنا الذي أناديك”. –”من أنت؟”. –”أنا شرطي”. فارتجفت مياه النهر. وأضاف الشرطي قائلاً : “إذا أردت ألّا تطرد وتحيا بقية عمرك في منفى، فعليك أن تتعهد خطياً بعدم التدخل في الشؤون السياسية”. –”ولكن الوطن وطني”. قال الشرطي بلهجة جافة : “هل تريد أن تسجن؟”. فبادر النهر إلى تنفيذ رغبة الشرطي، معلناً الولاء والطاعة لأولي الأمر.) .
تجدر الإشارة هنا إلى أن تعاليم الإسلام قد تطورت ببساطة مع مرور الوقت، نتيجة عوامل ثقافية وعرقية محلية، أو كنتيجة لممارسات في بعض المجتمعات الإسلامية، وتفاعلت جزئياً مع الثقافات الأجنبية سواء بسبب الاستعمار أو بسبب التأثيرات العقائدية الخارجية كظهور اليسار العربي والنهضة القومية والإمبريالية والرأسمالية والتحولات الكبرى في المجتمعات الإنسانية. لعبت التفسيرات الخاطئة أو التي تعرضت للإهمال المتعمد، في العديد من المناسبات، دوراً في تقديم ما يخدم أهداف الأقلية على حساب الأغلبية، فطاعة الحاكم هي واجب المسلم، وعلى عكس الخطاب السائد، بحيث يجب تعيين الحاكم حسب القاعدة الهرمية التقليدية للنظام الإسلامي الحاكم، أي بتوافق الأمة، بحيث يكون قادراً على تحمل مسؤوليات الدور المنوط به، قبل أن يعتبر خليفة الله وحامل رسالته لتحقيق إرادته الإلهية. ومع ذلك غالباً ما يتم تجاهل الجزء الخاص “بإجماع الأمة” في المناهج التعليمية للأنظمة العربية والإسلامية ما بعد الاستقلال، وبالتالي يتم تمرير هذا المفهوم الخاطئ من جيل لآخر. وتنسحب هذه المجموعة الهرمية لتشمل جوانب أخرى من الحياة، حيث يتم منح الرجال بناءاً على المسؤوليات والأدوارالمنوطة بهم، مكانة أعلى من النساء. رغم أن الكاتب لا يشرح أدوار الجنسين ومسؤولياتهم، إلا أن المواطن العادي في قصص زكريا تامر يثير وعي القارئ أو المتلقي بضرورة التغيير. ففي كل قصة يكتبها تبرز مشكلة تؤثر على الحياة العربية، كما يسلط زكريا تامر الضوء على النسيج الاجتماعي السياسي، والمفاهيم المعقدة الضمنية في الهياكل الاجتماعية والدينية العربية. ففي مجموعته (الحصرم) يثير وعي القارئ بالانقياد للنفاق من كلا الجنسين، من خلال التمكن من الإيقاع السردي الأنيق، والذكاء اللماح، فيشخص الكاتب الضغوط اللاإنسانية على المجتمع، فهو لا يكشف محنة المرأة فحسب، بل يُظهر أيضاً محنة الرجل العربي الذي لم يتمكن من تقرير مصيره حتى اليوم، فهو ذو دور ثانوي ولابد بالنهاية من ثورة حتمية تعيد للرجل دوره الأساسي في قيادة الاقتصاد والمجتمع وتحمل مسؤولياته المسلوبة، وإعادة وضعه على رأس الهرم المعيشي والسياسي في المجتمع، فالرجال المهزومين في قصص تامر هم ضعفاء، وغير قادرين على نيل كرامتهم واحترامهم حتى داخل أسرهم، فيقارنهم تامر بالنساء الأضعف بدنياً من الرجال، في ظل مجتمع مسخ تشوهت مكوناته.
تظهر الشخصيات الذكورية في أعمال زكريا تامر بمظهر الشخصيات المستسلمة والبائسة في خياراتها السلطوية، مثل قصة (التصغير الأول) ، والتي تتحدث عن شخصية عبد النبي الصبان، والذي عليه الطاعة لأولي الأمر، فكان رجلاً ذو حجم كبير ويتنفس برئتين كبيرتين أكثر من اللازم، وبالتالي تقوم السلطة بإخضاعه لعملية جراحية لتصغير رئتيه فيتنفس بعدها أقل من المطلوب، ويتحول لرجل قصير. فالطاعة هنا تتطلب تقزيم الرجل العربي، فالدكتاتوريات تستخدم مفهوم الطاعة كحجة لتقنين استهلاك الأكسجين بين الناس كدلالة واضحة على مستوى القمع، وفي قصة (الأجنحة السوداء) يبتسم ياسر عمر عندما يموت فقط، فعندما كان طفلاً صغيراً، كانت الابتسامة لا تفارق محياه، لكنه عندما أصبح رجلاً راشداً لم يعد بإمكانه الضحك، ليستلقي على السرير في النهاية، ويدرك أنه أصبح رجلاً عجوزاً، ليخرج عليه من الخزانة شرطي ذو أجنحة سوداء، وهنا يشير الكاتب لملاك الموت، لكنه هنا مندوب للسلطة. ليأمر ياسر بأن عليه أن يعود للعمل وطاعة أولي الأمر، فغير مسموح له ألا يستيقظ وأن يتأخر عن العمل، رغم محاولات زوجته إيقاظه، لكن ياسر يرفض ذلك، فهو لم يستفد من عمله طوال خمسين عاماً، وبالتالي لم يعد هناك جدوى أو فائدة من ذلك، وهو أمر يتنافى مع الدين السلطوي والتعاليم الدينية التي رسختها السلطة وفق مصالحها، فحسب مفهوم السلطة ياسر لم يعد خائفاً وفقد الإيمان، وهو ليس متمرد وإنما يهدد وحدة المجتمع ويدعو الآخرين ليحذو حذوه، مما يهدد الإنتاج. فيهدد الشرطي ذو الأجنحة السوداء المواطن ياسر بأن عقابه إن لم يعد للعمل للحفاظ على الإنتاج فسيتضور جوعاً، وقد كان شعار لينين الذي عدله صدام حسين “من لا ينتج لا يأكل” عبر لسان الشرطي : “إذا لم تعمل تجوع”، ثم يتطور التهديد بالموت، فالصالح العام هو الذريعة التي تستخدمها السلطة لإبقاء الناس تحت السيطرة، وبالتالي فالمطلوب من “إيمان” ياسر والآخرين طاعة أوامر السلطة والمسؤولين، لكن ياسر يتخذ قراره النهائي ليقول : “مجنون وأحمق وابن كلب كل من يتشبث بهذه الحياة المقرفة”. فياسر هو أحد الغرباء الذين يبتعدون عن ثقافة القطيع، وبالتالي فهو يستحق الموت. ولكنه يرحب بالموت ويلقاه بابتسامة. وبالمقابل يتحول موت ياسر بالنسبة للسلطة رادع لكل من يفكر أو تسول له نفسه مواجهة الطغيان، ليحث الأغلبية الصامتة على الثورة عليه. وهنا يتوقع زكريا تامر أن الثورة أمر واقع لا مفر منه بالنهاية.
مفهوم الرعية والمسؤولية عنها في ممارسة السلطة الأبوية القمعية :
تشوه مفهوم الحديث النبوي الصحيح : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ، عبر الزمن ومع تغير السلطات الحاكمة من استعمار وديكتاتوريات متعاقبة، كما لعب التسلسل الهرمي في الأسرة والمجتمع دوراً كبيراً في ترسيخ هذا المفهوم، إذ لعب دور العمر والثروة والإرث الديني والتاريخي في تحديد مدى الهيمنة، وخلل المجتمع الحاصل، الذي تستثمره السلطة لمصلحتها واستمرار بقائها، ليمتد الهيكل الأبوي القمعي على مختلف المستويات، فيشير تامر لمسؤولية الحكومة عن الحالة الهامشية التي تعيشها حارة (قويق) في مجموعة (الحصرم)، فهذه الفوضى القائمة فيها نتيجة إهمالها وتهميشها مستندة بذلك على تعاليمها الدينية السلطوية ومستثمرة فيها. فهو يصف التسلسل الهرمي بوضوح في مسؤولية النساء عن ابنائهن، والرجال عن نسائهم، والمعلمين عن تلاميذهم، كنوع من الممتلكات وقطع الأثاث المنزلية، وهي دلالة عاكسة وساخرة من الفهم الخاطئ لمعنى الرعية في الدين. ففي قصة (رجال) ، تصل زوجة عبد الحليم لدرجة الزنا وانجاب ابن من غير زوجها، وبعد عدة انتهاكات خلال حياتها الزوجية مع عبد الحليم، يقرر الزوج تطليقها فقط لمجرد أنها لم تضع له الملح بالطعام، وهنا يمارس حق تطليق زوجته، رغم وجود مبررات أكبر وسابقة لهذا السبب السخيف والمثير للسخرية، لكنه يمارس مسؤوليته كسلطة دينية تمنحه ذاك الحق في قرار الطلاق، لتكون أشبه “بالقشة التي قسمت ظهر البعير”. وهنا تبدو المرأة هي السلطة التي انتهكت كافة الأعراف والتقاليد المتبعة في المجتمع. وفي قصة (رجل لامرأة واحدة) تعتقد سامية ديوب، التي تبحث عن رجل مسؤول يتزوجها وراعي لحياتها، لتقع في حب طارق الذي يأخذها فوراً للفراش، وهو العاطل عن العمل من حارة قويق المهمشة، وتتوق لبناء أسرتها السعيدة، لتنخدع بقانون الرعاية السلطوي ذاك.
الدين كرمز للتبعية والغلو والتعصب أم رمز للتحرر :
في قصته (الزلزال) ، يتناول زكريا تامر شخصية (حميد الحفيان) الرجل الفقير الذي تحدث للحارة عن اصدقائه الجان وقوتهم وقدراتهم، فسخر منه رجال الحارة وهددهم بأن أصدقاءه الجان سيحولون الحارة لجحيم لا تطاق أهوالها، لتنقلب أحوال الحارة : ” الشيخ جبر الأحمدي خرج من بيته، فتعثر، وكسرت ساقه اليمنى.
نزيه الفاضل يدخل عيادته المريض مصاباً بالزكام، فيخرج منها مصاباً بالسرطان.
نهاد المتزمل المحامي يخسر القضايا تلو القضايا حتّى بات الناس يتشاءمون منه.
عباس المعطي كلّما عقد صفقة تجارية لم يجن منها سوى الخسائر الفادحة.
سليمان العبود المشـهور بحيائه قال لزوجته بصوت عال أمام أهـــل الحــارة : لماذا البخل؟ إستأجري حماراً بدلاً مني.
واجتاحت البغضاء حارتنا، فالأزواج يتشاجرون مع زوجاتهم شجاراً ينتهي في مخافر الشرطة والمستشفيات والمحاكم الشرعية، والعشاق يتبارون في إذاعة الأسرار المخجلة، والأصدقاء تناسوا ما بينهم من صلات عميقة وتحوّلوا أعداء ألداء، والنساء يمشين في الشوارع بثياب تري ما كان لا يرى، ويشتغلن كالرجال، والأبناء يبصقون على آبائهم وأمهاتهم، ورجال الشرطة يخشون المرور السريع في الطرقات، ورجال الحارة كفّوا عن التردد إلى المسجد.” فاضطر رجال الحارة لإرضاء حميد الحفيان وتنفيذ ما يطلب : ” عادت الحارة بعد أيام إلى ما كانت عليه، وعادت النساء إلى ارتداء الملاءات السود ولا يخرجن من بيوتهن إلاّ برفقة أمهاتهن أو أمهات أزواجهن وتحمر وجوههنّ خجلاً حين يلمحن رجلاً، وعاد الأبناء إلى تقبيل أيدي أبائهم وأقدام أمهاتهم، وعاد مخفر الشرطة مهاباً، وتعانق الأصدقاء باكين، واكتظّ المسجد بالمصلين، ولكنّ الشيخ جبر الأحمدي وحده ظلّ لا يستطيع السير إلا بمعاونة عصا غليظة.”
قد يكون حميد رمز للنبي سليمان وهو يدعو للتغيير والثورة وأن الملوك إن دخلوا قرية أفسدوها مستذكراً زكريا تامر في ذلك الآية الكريمة (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة كذلك يفعلون) ، و هو ما يعني إنهاء التبعية للسلطة الدينية والقمعية التي يستخدمها الحاكم، أو قد تكون إدانة للإيمان بالتقاليد البالية، فهذا الزلزال الذي أصابهم نتيجة نومهم الطويل وعدم صحوتهم في ظل حكم جائر اعتادوا عليه، وربما تكون السلطة هي من جلبت جانها لتستعيد سطوتها، وليعيش الناس على النعم التي كانت بين أيديهم، وهو ما يذكر بعبارة شبيحة النظام السوري الشهيرة : “كنا عايشين”. أو عدم قابلية المجتمع القائم على التدين والذي يرفض التطور والدخول إلى العالم الجديد بمفاهيم جديدة، فيما عدا الشيخ الذي يعود بعصا غليظة بمعنى أكثر تشدداً عن ذي قبل. فهذه الإدانة المزدوجة لزكريا تامر تطال المجتمع ورجال الدين مستذكراً أجواءاً خلفيتها تعود للإرث الديني، كما تطال السلطة التي طالما روجت لقلب المجتمع في حال التعرض لها.
في قصة (الخراف) يُظهر زكريا تامر مسألة التعصب الديني والغلو، فبينما تدخل عائشة الجامعة وقد تخلت عن الملاءة التي كانت ترتديها في الحارة، غضب الرجال من هذا المظهر فلجأوا لشيخهم، وحاولوا اقناع أخي عائشة وأبيها بالعودة لارتداء الملاءة السوداء، لكنهم رفضوا فأخلاقها لن تتغير، وقد دافع أخيها عنها حين قال : “هل كل من ارتدت ملاءة تمتلك الأخلاق؟”، فيتبرم رجال الحارة من ذلك فيأمرهم شيخهم بالتصرف بما أنزل الله وطرد عائلة عائشة من الحارة، وباليوم التالي يتحرش ثلاثة شبان بها خلال عودتها من الجامعة، ويضايقوها فتعود للمنزل غاضبة، فيخرج عليهم أخيها فيقتلوه، ليختتم زكريا تامر القصة : “ولما غابت الشمس وأقبل الظلام، اصطف رجال حارة السعدي وراء الشيخ محمد، وأدوا صلاة العشاء بخشوع بينما كانت عائلة الحلبي ترتدي ثياب الحداد”.
الخاتمة
يشير زكريا تامر إلى الصعوبات التي تواجه الإنسان العربي، مؤكداً أنها ليست صنيعة اليوم فحسب، بل هي نتيجة تراكمات أجيال وثقافات ومعتقدات مختلفة وأعراق متشابكة دخلت الوطن العربي على مر قرون. حتى العادات الغريبة والوثنية، فهو يرسم صورة قاتمة للعالم العربي لكنه لا يفقد الأمل، وإنما يسلط الضوء على حتمية التغيير، ويوضح تامر التشابه بين خضوع الإنسان العربي للمستعمر كما في قصة (المطربش) الذي يواجه غورو ويرفض خلع طربوشه، وبين خضوعه للأنظمة المستبدة التي تقلل استهلاكه للأوكسجين. مما يجبر الفرد العربي على العمل ضد إرادته، ورغم أن تامر لا يوضح الأسباب إلا أنه يبرز بمهارة التأثير. فهو يجبر القارئ العربي على الدوام التوقف والتفكير بوضعه الشاذ الذي يعيشه والسعي لتغييره، ويثير الرغبة في تطبيق التعاليم الدينية الحقيقية وتجاهل كل ما هو وثني وأجنبي. فتقدم قصصه رسائل مقلقة حول الوضع العربي وضرورة وضع أولويات عربية من أجل تحقيق شروط أفضل لحياة الأجيال القادمة. فهو يدين التعصب الأعمى للدين السلطوي، ويطالب بالبحث عن التعاليم الفعلية، وقد تنبأ بعودة الاستعمار للمنطقة، وأنه إن لم يتم القضاء على الدكتاتوريات واضطهادها الطويل والمستمر فلن يكون هناك وجود مشرف للعرب في هذا العالم المتغير باستمرار. وضرورة تجنب التفسير الأحادي للدين والتدين من قبل الأنظمة، والابتعاد عن الغلو والتعصب، فهو يقدم رسالة نوعية لإعادة تقييم العرب لحياتهم وتقرير مصيرهم وتصوراتهم للمستقبل المقبل.
فالإرث التقليدي التاريخي مثل قصة الخنجر وعنترة أو قصة يوسف العظمة، بأن السيف يعبر عن حرية الرجل العربي ومحبته للهواء الطلق في البادية واحترام المرأة. رغم تشوه تلك الحكايات الدينية والتاريخية ومغزاها، فمطرقة زكريا تامر لا تتوقف عن كشف المجهول للقارئ العربي وتدعوه للتفكير المتواصل، فهو يدين تحول رجال الدين لمجرد “دمى” تتملق الحكم دون أدنى وازع في تأنيب الضمير، وتحول بعضهم في قصصه لمجرد زبانية في بلاد تحولت لسجون ومعتقلات وقتل وتعذيب. ففي قصة (أحلام الأموات الأحياء) التي نشرها زكريا تامر على حسابه على الفيسبوك : ” كان ليل السجن طويلاً بطيئاً، وكان السجناء أحياء أمواتاً، فطلبوا من صديقهم الحكاء ابن بطوطة المسجون في زنزانتهم أن يروي لهم أغرب ما رآه في رحلاته في أرجاء الأرض، فحنى ابن بطوطة رأسه مفكراً لحظات ثم قال لهم : أغرب ما رأيته هو بلاد هرب منها سكانها تاركين حاكمها الطاغية يعيش وحده، وما إن علم بزيارتي حتى أرسل إلي من يرحب بي مقترحاً علي أن أعيش في تلك البلاد بوصفي شعباً، ولكني رفضت، ولذت بالفرار راكضاً ركضَ غزالٍ تطارده مجموعة من الوحوش الجائعة.
وسكت ابن بطوطة، فأغمض السجناء عيونهم، وتخيلوا أنهم يوم خروجهم من السجن سيبادرون إلى الهرب من البلاد التي ولدوا فيها، ويتركوها لرئيسها يحكم القطط والكلاب التي ستندم لأنها لم تهرب منه مثلما هربوا.”
_______
دمشق

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!