الفصل الأخير من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

تغدقين علينا من حنانك وعطفك.. ارتوينا حبًّا وسعادة.. اختارني الله لك ابناً واختاركِ لي أمًّا رؤوماً.. سهرتِ علينا ولمْ نسهر عليكِ.. بكيتِ لألمنا ولمْ نبكِ لألمك.. أعطيتِ ولمْ تأخذي.. كرمتِ ولمْ تبخلي.. لا ولن أفيكِ حقَّكِ مهما فعلت.. ولكنني سأحاول مجازاتكِ وإنصافك يا نبع الحنان.. سامحيني إن قصَّرت.. ليغفر الله لي خطيئتي.. سأريحَكِ وأوصلكِ لحياةٍ تحبّينها.. سأهديكِ هدية لمْ يقدّمها ولد لأمه من قبل.. أعدك يا أمي بأنك سترتاحين.. أعدك بأنْ نبقى معاً يا نبع الحنان.. وأسأل الله أنْ ألتقيكِ بالجنان.

 

  تحوَّل إلى أبيه وقبله.. انكبَّ على يديه وقدميه يقبّلها.. وضع رأسه على صدره.. يسمع صوتاً من داخله، وكأنّه شجارٌ في صدره، بعد أنْ عاودته نوبة السّعال التي تلازمه، وبدأ يخاطبه: أبي الحبيب لقد اتّخذَنا الناس سِخرياً “أبي يا تاجاً على رأسي”.. يا من شرّفتني بأمي الغالية.. فلقد أحسنت الاختيار.. لكن الله حرَّم اختيارك.. وأبدلك زوجاً بأختٍ.. هي منك وأنت منها.. لقد أفنيت ما مضى من عمرك وأنت تسهر على راحتنا.. كنت مؤدبنا ومعلمنا وراعينا بعد الله.. ما أصابنا هو قدرنا ليس إلّا.. لقد أهاننا الناس وظلمونا.. ما كنت لتتزوج أختك.. لكن شتاتنا هو ما أوصلكم إلى ما أنتم فيه.. الناس لم يتقبلونا، بل أصبحوا يرفضوننا، حتى أنهم سمّونا بدار “أبو الأخوال”، حاولت بأدبي الخلاص من  هذا الاسم.. فلم أستطع.. حاولت بمالي.. وأيضاً لم أستطع.. لم أنس يا حبيب روحي حين دعوتهم يوماً لعشاءٍ فاخرٍ، وأجزلت لهم العطايا والهبات.. طلبت منهم بصراحة أن ينادوننا باسمنا، ويتركوا هذا اللقب المشين.. بدت السّعادة على وجوههم.. عند خروجهم.. انهالت علينا كلمات الشكر والثناء، فقالوا: (دام عزّك يا أبو الأخوال)! تدهورَت أوضاعنا.. وها أنت تجلس في البيت كجثّة هامدة.. تغيب عن الدنيا.. تدمن المخدّرات لتنسى.. أعلم بأنّ الألم يعتصرُك.. أعلم بأنّ ما حصل يكاد يُفقدك عقلك.. أعلم أنْ لا حول لنا ولا قوّة.. وها هي أمي فقدت عقلها ولم تستطع احتمال ما أصابها.. جاءتها الحقيقة وهي واهنة.. والآن تراها سجينة بالأصفاد.. لقد قمنا بسجنها بأيدينا.. لم نودُّ ذلك.. لكنْ.. لم يكنْ لنا خيار في هذا! أمّا إخوتي، فأنت ترى أنّ أحدهما يتّبع “المستشيِخين” المتغطّين بغطاء الدين.. وهم بالحقيقة  “فاسدين” وعن طريق الحق بعيدين.. ها هو يوماً تراه بين المستشيخين وآخر تراه بين المشردين.. حاولت اصلاحه.. ولكنّ عقله لا يلين.. أمّا أخي الآخر.. فهو من أكبر المهربين.. تاجر كبير  للهروين.. لا يترك أحداً من أذاه وشره.. هو رئيس لعصابة يقودها منْ مقرّه.. كنّوه “أبو الأخوال” رغم جبروته وقوته.. يعيش ذليلاً مكسوراً.. لا يقوى على رفع الظلم عنّا وعنه.. ها هو يتخبّط.. وفي الفساد تورّط.. حياته ليس فيها ليل أو نهار.. أمّا أنا فعجزت وتعبت.. حاولت وحاولت.. لكنني فشلت.. وعن إصلاح الوضع عجزت.. حاولت بحلول كثيرة.. حتى أنني أصبحت عديم الحيلة.. أمّا الفتاة التي أحببتها.. وأردت الارتباط بها.. ذهبتُ لوالدها.. وللزواج طلبتها.. وافقت هي وأهلها.. عندما سمعوا بأننا دار “أبو الأخوال.. بشدة رفضوني.. ومن لقائهم منعوني.. وبالعار نعتوني.. ومن حبيبتي حرموني.. وبعدم زيارتهم أمروني.. وبالوعيد والعقاب إن عدت هددوني.. وها أنا على صدرك يا والدي أنتحب.. أعدك أن يتغير هذا الوضع غداً.. وسأقلب كلّ التوقعات.. وأصلح ما أفسده الزمن.. يا والدي.. كنت كلما طلبت رفعةً.. نحو الهاوية.. ازددت هبوطاً.. ولقعر البئر وصلت.. ثقُلَ الحمل حتّى كَسَر ظهري.. حاولت أن أكون كالبحر لا يهمّه كِبَرَ السفينة وزيادة وزنها.. يحملها وتبقى طافية غير آبه بها.. إلاّ أنّ حِمْلي زاد عن ثِقَل الجبال .. فأصابني الوهَنُ والعجز…

 

  حاولتُ أن أصنع مستقبلا لي ولكم.. تعلمت ولم أجرؤ على أن أتقدم لوظيفة.. خوفا من كلام الناس وظلمهم.. قمت بعمل ورشة نجارة كبيرة.. أفنيت فيها كلّ ما ملكنا منْ مال.. فأصبحنا لا نملك قوت يومنا.. أمّا مال إخوتي فهو حرام في حرام.. ولنْ أطعمكم منه وأنتم مَنْ ربيتمونا على الحلال.

 

  أطلق صَرخة وضحك عالياً.. هل كانت ضحكات وصرخات  سعادة لأنّه وصل إلى حلٍ جذريٍ؟ أم أنها صرخات وضَحِكات جنون أصابه؟ أم أنها هيستيريا اليأس؟ ربّما تكون السّعادة الحقيقيّة في الجنون.. وعايد بدا كمجنون سعيد.

 

  في اليوم التالي.. ذهب عايد إلى أحد المطاعم.. طلب منهم إحضار غداء لمنزله.. أحضر عامل المطعم الغداء بموعده.. كان خاروفاً محشيّاً.. أدخله إلى المطبخ.. أغلق الباب على نفسه لدقائق قليلة.. ذهب وفكّ قيود أمه.. ألبسها أجمل ثيابها.. قام بتسريح شعرها.. ألبسها التاج الذي لبسته يوم زواجها فوق رأسها.. عمل لها ثلاثُ جدائل.. حاول أن يكحّلَ لها عينيها.. قام بطلاء أظافرها.. زيّن رسغيها ونحرها بقطع من “الإكسسوارات”.. رشّ عليها من عطرها الذي كان يعشقه والده.. أمسك بيدها ومشى بجانبها.. رافعا رأسه شامخا متباهيا وكأنه يمسك بيد ملكة تخرج إلى رعيّتها.. أجلسها إلى طاولة الطعام.. وقال لها: لن تتناولين أطيب غداء وأنتِ مقيّدة! الآن أنتِ حرّة.. وستبقين حرّة يا أمي.. أنت مليكتي وسيدتي.. يا من صحبتك في الدنيا معروفا.. وأحسب أنني كنتُ لك ابنا بارّاً ومطيعا.. وولدا محباً وحبيبا.. رأيت الدنيا من خلالك فأحببتها.. ولأجلك عشقتها.. فكانت في نظري عروساً جميلة.. ورأيت نفسي كلّ يوم عريسها وحبيبها.. أما وقد أصابك منها ما أصابك.. فإنّي مللتها وكرهتها.. وزهدت فيها وأصبحت لا أطيقها.. باتت بنظري لا تعدل جناح بعوضة.. وهي عند الله أدنى من متاع الغرور.

أمي …

 

  رأيتُ وعرفت الكثير من النساء.. الجمال كان سمة للكثيرات.. ولكنّني لمْ أرَ بجمالك إلاّ ثلاثُ نساء.. أنت.. وصورتك.. وظلّك. هنيئاً لي بأنّك أمّي.. وأنّني منك خرجت.. وإليك انتسبت.. ومن صدرك رضعت.. حتّى شبعت وارتويت.. وبحضنك نمت وأمِنْتْ.. وعلى يديك تربيت.. وتحت عينيك ترعرعت وكبرت.. حتى أنني رجلاً أصبحت.. فأعطيتني ما لم يعطنيه إنسان.. وكرّمتني بأنّك أمّي.. وفضّلت عليّ بأن اخترت لي أباً اعتززت وافتخرت به من يومي.. فكنتُ وما زلتُ أكبر حين أناديه بأبي.. وأناديك بأمّي.

  بعدما ناجى أمّه وأبيه.. بدأ يسألهما: من أنتما؟ هل أنتِ أمّي، أم عمّتي.. هل أنتَ أبي أم خالي.. هل النّاس على حقّ بمناداتنا دار “أبو الأخوال”..؟ لنْ أنتظر الإجابة ولا الحقيقة.. ما أعرفه أنّكما أمّي وأبي وكفى..

 

  جلس الجميع للغداء.. تذكّر بأنّه سيكون موعد ياسمين بعد صلاة العصر.. ذهب وفتح الباب الخارجي.. تركه موارباً قليلاً.. جلسوا جميعاً لتناول طعام الغداء تملؤ نفوسهم الغبطة والسرور.

 

  حضرتْ ياسمين.. دقّت على الباب عدّة مرّات.. لكنْ.. لمْ يُجِب أحد.. لاحظت أنّ البابَ كان مفتوحاً.. دفعته ببطءٍ شديد.. توقفت.. أدارت ظهرها تنوي الرجوع.. همست: أشمّ رائحة الموت تقترب مني.. عادت ثانية.. دخلت وابتسامة مصطنعة ترتسم على وجنتيها .. صعقت من كلّ ما رأت.. الجميع ملقى على الأرض.. كلّهم أموات.. صرخت بأعلى صوتها.. خرجت من البيت مهرولة.. وكأنّ أفعى ضخمة تلاحقها لتفترسها.. وقع خطواتها.. كصوت حافر حصان يجري.. تجمّع الجيران.. طلبوا الشرطة.. وصلوا مسرعين.. تحرّزوا على المائدة.. وأيضا على زجاجة صغيرة بجانبها سكين عليها آثار لحم وأرز.. موضوعة على طاولة في المطبخ.. وتحت طاولة الطعام.. وجدت حقيبة سوداء مقفلة .. فتحها رجال الشرطة ليجدوها مملوءة أكفاناً وحنّاء وزجاجة عطر وصابون وليَفُ حمّام.. وجدوا آلة تسجيل بها شريط.. يعلن فيه عايد مسؤوليّته عن كلّ ما حصل.. وتسجيل لكل ما دار بينهم قبل الحادثة.. تحت آلة التّسجيل.. وجدوا ورقة عليها توقيع  عايد.. يوصي فيها بأن يعود كلّ ما يملكونه لصالح مجهولي النّسب.. وعلى ما يبدو أنّه كان قد عمل حساب وترتيب كلّ شيء.. فقامت الشرطة بإرسال كلّ ذلك للفحص.

تيقّنت ياسمين بأنّ عايد كان قد اتّخذ قراره بأنْ دعا أهله جميعاً دعوة قرّر فيها إنهاء معاناتهم.. فكانت هذه دعوته “للغداء الأخير”.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. د. تيسير السعيدين

    رواية مملوءة بالأحداث ابتداء من التفرق الي ابتدأ بأحداث النكبة والتي أفضت إلى النكسة ، والرعب والتدمير الذي مورس على فلسطين ، والذي أفضى إلى الشتات الذي تقاسمه الشعب العربي الفلسطيني ، وانتهاء بما قام به الابن عايد من انهاء حياة الأسرة كاملة بالطريقة التي أرادها ، وما بين هين الحدثين الكبيرين الكثير الكثير من الأحداث التاريخية والعاطفية والإنسانية التي حفلت بها الرواية ، لترسم لنا كثيرا من المشاهد التي وجد فيها المتلقي غصة كبيرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!