إضاءة على رواية (فوق الأرض – للروائي محمد فتحي المقداد)

بقلم – محمد موسى العويسات
(القدس الشّريف)

خاص بموقع آفاق حرة

نظرة في رواية (فوق الأرض) للأديب الرّوائيّ محمد فتحي المقداد، الطّبعة الأولى، الصّادرة في الأردن لعام 2019. وتقع الرّواية في 256 صفحة من القطع المتوسط، وهذه الرّواية هي الثّالثة للرّوائيّ بعد رواية (دوامة الأوغاد) الصّادرة في عمّان عام 2016، ورواية (الطّريق إلى الزّعتريّ) الصّادرة عام 2018.
قبل أن أبدأ بالحديث عن الرّواية أحببت أن أنقل هذه العبارة التي جاء بها الكاتب في أواخر روايته، والتي وقفت عندها مليّا فراقتني، وعبّرت عن موقف الكاتب الفكريّ ونظرته الثّاقبة، والتي تكشف حقيقة دامغة، اختلفنا عليها على بعدنا من الأحداث، يقول: “لو علم حامل البارودة التي كان يرتجى منها نصر الثّورة أنّها هي التي أصابت الثّورة بمقتلها، حينما جاءته هديّة من عوالم الغيب لتبرير بطش النّظام الثّابت على روايته: (العصابات الإرهابيّة والتكفيريّة)، فماذا يفعل أمام ضميره إذا استيقظ يوما، إذا ما وقف أمام نفسه؟”
(فوق الأرض) العنوان الذي بحث عنه الكاتب عاما ولمّا وجده فرح به وأخذ يصرخ: ” يوريكا يوريكا، وجدتها”. مقلّدا في ذلك العالم أرخميدس عندما وجد نظريته، وخرج ينادي بأعلى صوته زوجته يوريكا. والعنوان يستوقفك بهاتين الكلمتين الموحيتين، ففوق أنّ العبارة كانت لازمة لفظيّة تكرّرت في مواقف كثيرة جدّا في الرّواية، تجدها تحمل أو تشي ومن خلال الأحداث بأنّ هناك شيئا محذوفا، قد يجتهد فيه القارئ فيقدّر استفهاما تعجّبيّا: أكلّ هذا فوق الأرض؟!، أو يقدّر: هذا ما يحدث فوق الأرض، أو: مخيف ما هو فوق الأرض، وهكذا يحمل العنوان إيحاءات التّعجّب أو الاستنكار أو العتب على من يسمع بالأحداث أو يراها ولا يناصر الشّعب المظلوم. والأرض هنا لا يقصد منها أرضا بعينها وقعت فيها الأحداث المؤلمة بل تعمّ لفظة الأرض المعمورة كلّها، شعوبا ودولا ومؤسسات دوليّة وجمعيات حقوقيّة وغيرها، يقول: ” لكنّ المأساة ما زالت تتفاقم والعالم يتفرّج بأعصاب باردة، فقد كفرت بكلّ المدينة الزائفة المتشدّقة بمبادئ حقوق الإنسان” ، ولا يفوت الكاتب في ثنايا روايته أن يلتفت إلى ما تحت الأرض، التي يخشى أن تكون كما فوق الأرض، فنصّار أحد شخصيّات الرّواية المركزيّة يخشى إن مات أن يكون جاره في القبر مخبرا، يحصي عليه أنفاسه وينقل أخباره إلى أسياده الذين ما زالوا فوق الأرض. إذن قد يطال الظّلم والتجبّر من هم تحت الأرض، وهذا ما عبّر عنه بتقصّد النّظام محو القبور بالغارات الجويّة لمحو الذّاكرة.
ما الذي كان فوق الأرض؟ أي ما أحداث فوق الأرض التي سجّلتها الرّواية؟ في الواقع الحاضر من الرّواية أو بالاسترجاع واستدعاء الذّاكرة كان ما فوق الأرض قصّة شعب وقع عليه الظّلم العظيم، حكم بوليسيّ رهيب لا يسلم فيه أحد من مطاردة أجهزة الأمن، بطش ودكتاتوريّة ونهب للثّروة، وهدر دماء أبناء سوريا في قضايا لا طائل من ورائها كما في تدخّله في لبنان ضدّ حكومة ميشيل عون، والتي انتهت بأن أصبح عون حليف النّظام. والفساد طال كلّ مناحي الحياة، حتى المنافقين الّذين يحاولون التقرّب من النّظام أمثال الرّحالة ( فائق) لم يسلموا من الاعتقال والسّجن لمجرد الشّكّ في نواياهم، فثار الشّعب ثورة سلميّة طلباً للتّغيير والحريّة، قمعها النّظام من أول يوم بقسوة وإجرام، طال القمع أول ما طال الأطفال، فكانت اعتقالاتهم والبطش بهم محرّكا لأهل درعا إلى الثّورة، ثمّ كانت المؤامرة على الثّورة السّلميّة، بأن دخل فيها عنصر السّلاح الذي كان في بداياته للتخريب والنّهب والاعتداء، ثمّ تحوّلت به إلى ثورة مسلّحة أعطت النّظام مسوّغا للبطش بالنّاس، فتحوّل بعض رجال هذه الرّواية إلى ما يسمّى الجيش الحرّ، وقُتل الكثيرون، ومنهم القيادات الواعية على ما تريد، خلّفت الثّورة عددا هائلا من المعوّقين، شرّد النّاس وهجّروا من أرضهم إلى مخيمات تتولّاها مؤسسات الإغاثة التي تتبع الأمم المتّحدة رعاية ملؤها الذّل والهوان، هناك من هاجر إلى الغرب، اختفت المعارضة السّورية التي كانت قبل الثّورة، آلت الثّورة إلى مفاوضات هدرت الدّماء وكلّ ما بذل في سبيل الانعتاق من الظّلم. ففي هذه المحاور تدور الرّواية.
في ثنايا الروايّة يأتي الرّاوي بالحديث عن كيفيّة بناء هذه الرّواية، إذ يتحدّث في بدايتها عن الجوّ الذي كتب فيه الرّواية والعزلة التي فرضها على نفسه ليتمّ العمل، يصف معاناة الكتابة، ومعاناة زوجته معه وصبرها عليه في هذه الأثناء ومعاونته على اعتزال الناس، يتحدّث عن لحظة فرحه بالعثور على العنوان، يطلق على نفسه اسم فطين، ويوحي بأنّ هناك عددا من الأشخاص شاركوه في هذه الرّواية هم أبطال الرّواية، يقول: ” من المهمّ لي احترام المواقف بإفساح المجال لأبطال الرّواية الآخرين، سأتأخر خطوتين للخلف بكلّ تواضع، لأستمع جيدا، حتّى آخر كلمة يقولونها، ولن أتدخّل في مسار أحاديثهم، بل أنا مؤتمن منهم على تدوين ما قالوا بكلّ صدق وشفافيّة… والقارئ هو الحكم الوحيد…” وبهذا الكلام يريد الكاتب أن يضع بين أيدينا أحداثا واقعيّة يرويها أشخاص غير متخيّلين كما في معظم الأعمال الرّوائيّة، وإن كان هو من قرّر أسماءهم، إلا (معن العودات) الذي أشار إليه الرّاوي بأنّ اسمه حقيقيّ، إذن هو غير مصطنع للأحداث. ومن خلال نقله لرأي أحد أبطال الرّواية وهو فاضل السّلمان يبين الكاتب أهمّيّة التّوثيق الكتابيّ للأحداث، فبدا أنّ هذه الرواية نفسها توثيقيّة، يقول فاضل السّلمان: ” الظروف تملي عليّ حكمها بكتابتها، وعدم تركها تفلت إلى غير رجعة وتضيع مع ما ضاع من حوادث وحكايات ربّما يتوجّب عليّ كتابة الكثير بالتّفاصيل المملّة”. ويشير الكاتب إلى أنّه هو من كتب خاتمة الرواية وذلك في سؤال هاني للكاتب فطين: ” أنّك فسحت المجال لأصدقائك أبطال روايتك كتابة ما يشاؤون وعلى طريقتهم … السّؤال الذي يطرح نفسه: ما الأمر الذي جعلك تعود كروائيّ أن تكتب خاتمة الرّواية؟” وهكذا نجد أنفسنا أمام أسلوب روائيّ آخر جذّابا وإن لم يكن جديدا.
بدأ الكاتب روايته بالحديث عن ثكل أمّه بابنها محمّد، ودموعها فهي تبكي وحدها فلا بواكي معها ولا من يهيّج البواكي، ورفضها أن يذهب دمه هدرا، وأن يستغلّ في التّفاوض، وقد جعل من أمّه وموقفة أنموذجا لكلّ الأمّهات السّوريات. يقول على لسانها: ” دموعي غير قابلة للدّخول في مزادات المتسلّقين على الواجهات الإعلاميّة حتى صنع منهم نجوما ملمّعة على أن يكونوا واجهة للثّورة وبديلا عنها وقيادة للمعارضة في وجه النّظام، وأرفض التفاوض عليها وستبقى لعنة للتّاريخ. دم محمد ما زال نديّا في قلبي، والتّراب الذي ارتوى منه أعشب، لو كان لي ألف محمد، ولو كنت في مثل حالة أمّهات فلسطين لجعلتهم جميعا فداء للحريّة، فهنّ مَثَلي الأعلى هنا وهناك”… وتقول أمّه رافضة المفاوضات: ” هل سنتفاوض مع من سفك دم محمد؟ فإذا حصل ما قلت وقتها لن أتردد في قبول زواجي ممّن قتل أخاك، ومن تزوّج أمّك فهو عمّك”.
اعتنى الكاتب بانتقاء الشّخصيّات والأحداث التي سجّلها لتمثّل الواقع السّوريّ أصدق تمثيل، فشخصيّة أمّه التي ثُكلت بابنها وماتت كمدا تمثّل الأمّهات السّوريّات الثّكالى، في حزنهنّ على ما فقدن، واستعدادهنّ للتّضحية بالمزيد، ورفضهنّ لأن تؤول الثّورة إلى مفاوضات وتنازلات تهدر هذه الدّماء. أمّا نصّار فالموظف الذي يضطر إلى ترك عمله كموظّف ويتطوّع حفّارا لقبور الشّهداء، ثمّ يلتحق بالثّورة بعد مقتل أخيه نادر في أثناء ذهابه للعمل في دائرة كهرباء درعا، ثمّ يلتقي بأصدقائه سعيد وفاضل ومعن ليمثّلوا قيادة الثّورة السّلميّة، ولمّا بلغت به الحاجة المعيشيّة حدّا لا يطاق التحق بالجيش الحرّ ليكون أحد قياداتها ويتخلّى عن فكرة الثّورة السّلميّة. معن كان يمثّل القيادة الواعيّة التي تخطّط لكلّ شعار يرفع بدّقة ولكنّه يقتل برصاص النّظام، سعيد يمثّل الذّاكرة الحيّة لما قبل الثّورة فيروي السّرّ في سقوط اللّيرة السّوريّة ويكشف حقيقة سرقة النّفط وأنّه لا يدخل في موازنة الدّولة، ويروي قصّة فائق الذي نذر أن يزور قبر حافظ الأسد مشيا على الأقدام وما حلّ به نتيجة فعلته الغبيّة ونفاقه الآثم، وقصّة فائق هذه ومن خلال تصوير تناقضه النّفسيّ، تمثّل حالة نفسيّة كان يعيشها معظم الشّعب السّوريّ تمثّل انفصاما في الشخصيّة سببه القمع والرّهبة. وإن كان سعيد يعبّر عمّا خلّفه الصّراع من مصابين وجرحى ومشوّهين، إلا إنّه يحمل دلالة على أنّ قطاعا كبيرا من الشّعب السّوريّ أصبح مشلولا لا يستطيع التّأثير في الأحداث، وأنّ البلاد التي استقبلتهم لم تستطع مداواة جراحاتهم، فقدّمت لهم كراسيّ المقعدين. أمّا فاضل السّلمان فهو الذي يمثّل الجانب الإعلاميّ العاجز أمام الحرب الإعلاميّة التي يشنّها النّظام، والذي اضطر إلى الهجرة إلى روما. أمّا هالة نجم الدّين الفنّانة التي تعيش في إيطاليا وتنشغل بمعارضها الفنيّة، وتكتوي بنار ما حلّ بأخيها وحزن أمّها، فكانت تمثّل المعارضة السّوريّة في الخارج، والتي اختفت في أوروبا وحلّ محلّها المهجّرون. وأمّا حمدة ابنة عمّة نصار التي تعيش مع زوجها في السّعوديّة، والتي أحبّها نصّار وما زال متعلّقا بها ويتغزّل بها، ويرى هالة نجم الدين تشبهها وتحمل لون عينيها بل هي نفسها، فهي تمثّل قطاعا من السّوريين الذين يعيشون في بلاد العرب والخليج العربيّ بخاصّة، وهؤلاء ارتباطهم بالثّورة ارتباط عاطفيّ فقط.
بدا الكاتب حريصا على التّحليل النّفسيّ للشّخصيات من خلال الحوارات الدّاخليّة والخارجيّة، ومن خلال إطلاقه العنان لها في سرد الأحداث، ومن خلال ربطها النّفسيّ بالفضاءات المكانيّة للأحداث.
استطاع الكاتب أن يوظف ثقافته الواسعة باقتباس أقوال أو أشعار أو أحداث أعطت بعدا تاريخيّا إنسانيّا للأحداث. وكانت محطّات استراحة وجذب وإقناع للقارئ. من مثل أبيات من الشّعر لمحمد إبراهيم الحريريّ، أو شعر لأمل دنقل، أو أقوال لتوفيق الحكيم، أو أغنية فيروز (أجراس العودة) أو قصّة صاحب جرّة العسل في كليلة ودمنة وغيرها.
أمّا لغة الكاتب فقد بدت سلسة، فقد جعل بعض الشّخصيات تعبّر عن نفسها باللّغة المحكيّة، من مثل عبارة رجل الأمن الذي اعتقل الطّفل سمير في الرّدّ على استفسار والده، والتي ربّما لا تعطيها الفصيحة بعدها النفسيّ والتعسّفيّ الهمجيّ لو نقلت إليها. وقد كان الكاتب بعيدا كلّ البعد عن الرّمزيّة، حتّى إنّه لمّا أخذ في الحديث عن الجدار الذي يظلّل البحيرة االمحجوب قاعها عن النّور والأكسجين بلغة تصويريّة، أشار بعد أسطر أنّ الجدار يرمز للنّظام. وهذا يُعلّل بحرص الكاتب على واقعيّة الأحداث. ورغم هذا كانت اللّغة التّصويريّة حاضرة حضورا بيّنا فقد كثرة الاستعارات الموفّقة والتّشبيهات الجميلة.
وهكذا نكون أمام رواية توثيقيّة تاريخيّة على قدر كبير من الأهمّيّة. فهي توثيق لا بدّ منه، وكنت فيها من الصّنف الأول الذي ذكره الكاتب بقوله: “والقارئ هو الحكم الوحيد الذي بإمكانه الدّفاع عمّا قرأ إذا اقتنع بالفكرة وناصرها، أو عاداها وفضح زيف كذبها على رؤوس الأشهاد وفي كلّ المنابر المتاحة له”.

فلسطين 31 آذار 2020

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!