الحزن عند الشاعر جمال ال مخيف

آفاق حرة

الناقد عبدالباري المالكي

ليس من الغريب أن نجد شاعراَ يعيش أيامه حزيناَ , اما لحب انقضى , او لوطن ضاع , او جاهِ سُلب ,لكننا حين نمعن النظر في شخصية شاعرنا جمال ال مخيف فان الصورة تتغير رغم وجود الاسباب نفسها .

فشاعرنا عاش حباَ قد انقضى , ورأى وطناَ يتهاوى بين أيدي الظالمين والفاسدين , وهو رغم هذا وذاك فانه مازال يعيش التفاؤل ويتجلبب الوشاح  الاخضر لأمل قادم لا يحس به الا هو .

أن صرخات شاعرنا آل مخيف المدوية لن تكون هباءً في أطواء الزمن , ولن تنعدم في أجوائه الصاخبة بحقيبة اللاشيء , تلك الاجواء التي يجد كل حرّ صداها الثورية لواقعٍ مزرٍ وفسادٍ شائع لأنها رسالة تهدد النائمين والخارجين على الأخلاق , فتدعوهم الى الالتجاء الى كفكفة عبرات تلك الزهور التي ذبحوها باستبدادهم وفسادهم وقد حاولوا أن يشوبوا كدر الصباح بظلمة الليل التي تغاير طبع الشاعر حاملاً تلك الاستعارة لتوطئةٍ هي الاسمى , وهي أصله الذي لم ولن يتخلى عنه وهو أنه عراقي , وهو بذلك قد استنّ سنّة لنفسه أفاضت به وطنيةً بصبح عراقي سطعت عنده اشعة الشمس باطيافها السبعة وألوانها الزاهية بما يتناسق مع ازدحام الصور التي تعشعش في مخيلة شاعرنا باسلوب ممتع حتى ليجد القارىء في تلك الصور نبضاً لشريان حياة في تلك التعابير ذات الوثبات السريعة الانتقال من صورة متلاحمة الاجزاء الى اخرى محكمة الأواصر , منسجمة الألفاظ دون الخروج من الموضوع ذاته .

ان امنيات شاعرنا تجاوزت الحدود العليا لتثمر يسر منال في عسر ,

حتى أثرت في وجدانه انفعالات متجاوبة تخطت الرؤية الدنيا للشعور نحو وطن رحب يقطف من أغصانه ثمراً لا حدّ له ويلوح له من وراء مشارفه أرض بطولاته الكبيرة .

ان شاعرنا يفيض بالشعور العارم الذي توقدت منه جنته الخضراء بما لا شك فيه أنه يمثل طينته التي تمثل الحرية الناصعة المتوهجة في خيط الفجر حتى اختصر بذاك المضمون الذي قد لا يؤدي غرضه الا بمقالات عديدة , لولا خبرة شاعرنا في رصف الكلمات في صور جزيلة المعنى رائعة التركيب .

ويهيم شاعرنا بوطنيته حتى لا يجد اللذة الا في دم مسيح جديد قد تعلق في مداه دون أن تهزمه المنية , وهو بهذا الوصف الذي لم يجد شاعرنا بدّاً من التوجه اليه قد بعث شهيده مرة أخرى من أرض الجليل الى أرض الطف مبشراً بزوال الجبروت الذي بات على شفا جرف هارٍ موقناً أن الحرية لا تأتي الا أن يعرج هو الى السماء وتأتلق عيونه , حتى اذا ظننا أن نجمة على وشك الأفول نجده يستصغر ذلك الظن ويبدي أنه قد سار في قربانه نحو شمس لا تأفل لما في وجدانه من ايمان عليائي متفرد حتى يولد بصرٌ في النفوس وحرارة في القلوب ونور يفضح الشر وشهامة يندهش منها الصديق قبل العدو .

اذ يركب المنية دون أن تتقوض دعائم شجاعته أو تتداعى فروسيته في ميدان , حتى كأن المسيح قد بُعث بمشنقة هي المشنقة نفسها سابقاً , فالحبل هو الحبل نفسه , والصليب هو الصليب نفسه , والدماء التي تتسرب تحت الرماد هي نفس الدماء , والروح المتجولة في أروقة الردى هي ذات الروح التي أزهقها الظلاميون من قبل في أرض الجليل ، رجل تعلق كالمسيح الى المدى  هزم المنية مفرداً هزم العدا

رجل كأن الطف في معراجهِ _قصد الحسين بروحه وبه اقتدى

في العنق أثمن ربطة لشهادة _ أن المشانق أطرقت لمــــــا بدا

ان الحب مخاضٌ يبعث على الألم ،والعفة فيه تدفع الى الشكوى ، فمااكثر العاشقين الذين امتلات حياتهم بالالم والشكوى .

وشاعرنا الشيخ جمال ال مخيف واحد من اولئك العاشقين الذين راوا الدنيا بمنظار أحال القلق الى ابتسامة ، وصاغ من العفة هياماً .

اذ لم يشك يوماً انه بمنجاة منها .. فهو يقف بعيداً عنها الى أقصى حد يستطيعه , ولكن شأنه هذا لم يكن ليطول عندما بانت بنت بغداد عن أسِّ ونسرين في ثغرها , وعن بحة الصوت والراء المثقلة في نطقها حتى ليخيل لشاعرنا أنها كفيروز في قاعة الأوبرا الكبيرة , فتغير الهين الى معضل , وتحول غض البصر الى نظرات نحوها من عينيه الرماديتين العاريتين كعيني النسر.

وكيفما يكون الامر فأن أشواق شاعرنا قد أصبحت كشعلة براقة لامعة وطأ عطرَ ونعاسَ أجفانها وخالاتِ خديها بما يجعل شاعرنا بين الرياحين سكرانَ بالرياحين .

فالحب عنده هو المفتاح النفسي والامل الكبير الذي لايتبخر بمجرد تعرضه لأشعة الشمس المتوهجة كقطرة ماء ، محاطاً بالوان الطيف والغزل العفيف في قلبه وروحه وجسده ، وهو ليس مانعنيه ابداً بالكبت الطويل ،والعنيف ، والجدب العاطفي الذي يوصل الى لغة مستهجنة تكوّن مركب النقص الخطر عنده ، لما له من اثر بليغ في توجيه المشاعر والغرائز ، فقد خلت قصائده من الجسد الانثوي ، وراح يرسم خطوطه بصور تعبيرية رصدت مشاعره وحددت اتجاهات غرامه تحديدا عفيفا لا انحراف فيه ، فلم يتلهف لصياغة المفردة التي ترسم الأنثى بحدودها الجسدية ولم يكن لديه تلك الرومانسية ذات الابعاد الثلاثية ليطفئ أوار وجدانه بمفردة تروي ظمأه المشبوب .

ولا يعرف شاعرنا سبيلاً للنجاة من قلبه الا العراف وقد استنجد به مراراً عن أسرار مستقبله المغلّف بالمجهول والمستتر خلف الأبواق التي لم تكن كافية لان يدخل العراف أعماق قلبه ولم يعرف الرغبة المجنونة عنده , والأمل الحلو في استلفات ذلك الجنون وهو ينفض التراب عن أثواب عزلته ليتعلق بخيط دخان غير متحير بمواضع قدميه خشية السقوط , لانه لا يسقط قبل الاوراق فلا تودي تلك الأتربة التي ينفضها بين الحين والآخر الا بلمعان أشواقه التي تحتمل الأوجاع جليداً .

أتعلق في خيط دخان _ لا أسقط قبل الاوراقِ

فانا في زمن مجهول _ مستتر خلف الأبواق

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!