“بين الحنين وصادق القول..كان أبي” جديد الكاتب: محمد يوسف الحجيري

 القاهرة – آفاق حرة 

 كتب : ناصر رمضان عبد الحميد

 

*  عن  منشورات “مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة”،صدرَ الكتابُ بين الحنين وصادق القول..كان أبي” جديد الكاتب: محمد يوسف الحجيري

* قدّمَ للكتاب رئيسُ المؤسّسة، الدكتور سابا قيصر زريق، حيث تناولَ السيرةَ الذاتيّةَ للمؤلِّف، الدكتورِ في العلوم الرياضيّة، ولكن أيضاً الدكتور في فلسفةِ وتاريخ العلوم والتقنيّة،  فكتب  عن الحجيري: الإنسان، الـمُساعد للغير، المناهض للطائفيّة، المتواضع، عزيز   النفس، العصاميّ، العالم والفيلسوف…

 

محطّات من محتوى الكتاب

“قداسةُ حرفِ الضّاد كامنةٌ في أعماق وجدانك يا بُنَيّ”

في افتتاحيّته يتوقّف الكاتبُ – رجلُ العلم، عند “سحرِ لُغَتَيِ الرياضيّات والضاد”، مشيرًا إلى ما كان يعتريه من شعور “الخجل وعقدة الذنب، وذلك – وفق تعبيره – لهشاشة إلمامه بلُغته الأمّ، نحوًا، وصرفًا وقواعدَ…” (ص 24-25). وفي المقابل، يفاجئنا تضلّعُ أبيه من اللُّغة العربيّة، وحكمتُه، وذلك من خلال  ردِّه على رسالة ابنه الذي شكا إليه فيها  همَّه،  وهشاشةَ إلمامه بلُغته الأمّ. كتب الأب:

«لا تَـحْـزَنْ، ولا تأبَهْ لأمْرٍ لَيْسَ بِذي بالٍ، فَقَداسَةُ حَرْفِ الضّادِ كامِنَةٌ في أعْماقِ وِجْدانِك يا بُنَيّ. وَبُـشْرايِ لَكَ، أنّهُ بإذنِ اللهِ، سَيَأتي حينٌ،  يَكونُ فيهِ جَـميلُ صَوْغِكَ الأحْرُفَ في مَقاطِعِ الكَلِمِ،  عَلَى  الدَوامِ، كأنّـمـا  هُوَ بَديعُ سَبْكٍ لِـجُـزَيْئاتِ النَوَى في ذَرّات الكَريمِ مِنْ حَصَى الأرض. وَعَلَيْكُ أنْ تَعْلَمَ يا بُنَيّ أنّ العِبْرَةَ في الكِتابَةِ لَيْسَتْ في مَعْرِفَةِ شَوارِدِ اللّغَةِ ومُنْعَطَفاتِها، ولا في الـتَمَكُّنِ مِنْ بَليغِ القَوْلِ فيها، ولا في الإحاطَةِ بِفَصيحِ البيانِ في تِعابيرِها.  العِبْرَةُ، لا بَلْ كُلُّ العِبْرَةِ  يا بُنَيّ هِيَ في عاطِفَةٍ غامِضَةٍ تَخْرُجُ من أعْماقِ الوِجْدانِ فينا، لِتَرْتَدِيَ أحْرُفَ الأبْجَدِيّةِ ثَوْباً، يَحْمِلُها إِلَى القارِئينَ وَالـمُسْتَمِعينَ كائِناً غامِضاً بِلا روحٍ، وَلكِنَّهُ يُتْقِنُ جَيِّداً  لُغَةَ الروحِ.». (ص 25)

شكر

في مستهلّ كتابه، يُشكرُ الكاتبُ كلَّ مَن ساهم في إصدار المؤَلَّف، بَدءًا من مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق… وصولاً إلى والديه، حيث يكتب:  “إلى ذِكرى من كان يكفكفُ دموع إحباطي وألمي، إلى ذكرى قدّيسَيْنِ من الماضي الغابر، يفتقدُهما على الدّوام فؤادي وعيناي… إلى أمّي وأبي اللّذين أفلحا قبل الرحيل، بأن زرعا في قلبي بذور إنسانيّتي، وبأن أوقدا في عقلي شُعلةَ عشقي الحرفَ والعددَ والشكلَ الهندسيَّ، وبأن أيقظا معينَ نجاحاتي في تقصّي نواميس الوجود، وبأن منحاني من الشجاعة والإقدام ما يكفي لمواجهة جبروت الدّهر…” (ص 27-28).

الوجدانية

تطالعنا في الكتاب مقاطعُ بالغة التأثير الوجداني، نجدها مثلاً في قوله: “الحَنينُ أقْوَى وأبْقَى مِنَ الدَّهْر، وَمِنْ مَسافاتِ وأبْعادِ  الحَيِّزِ، وَمِنَ الفَواصِلِ بَيْنَ الأكْوانِ ” و ” يُذْهِبُ الدَّهْرُ الأحِبَّةَ والغَوالي ولكنَّهُ أعْجَزُ مِنْ أنْ يُذْهِبَ المحبَّةَ والحنينَ، لأنّهما راسِخان في جَوْهَرِ الحياةِ رُسوخَ الوُجود”، وفي  سرده لرؤياه وهو في ضيافة صديقين له في منزلهما في ريف موسكوـ حيث يخبرنا كيف شاهد، ليومين متتاليين،  في “ما يشبه أحلام اليقظة”، والدَه في عرسال ( بلدة في شمال شرقي  لبنان)، قبل وفاته  بيومين: “يستفيق في فراشه من نومه العميق” ليسأل والدته : “ما هو هذا اليوم؟” ثم يبادر ولده  بالقول: “سأمرّ عليك يا بنيّ  قبل الرحيل…”! (ص 47-48).

ويتابع سرد هذا اللقاء مع طيف والده، فيصفه وصفًا بديعًا، كأنّه ملاك أو قدّيس: “فتيًّا تشعُّ ملامحه شبابًا ونضارةً… مرتديًا بزّة أنيقة ناصعة البياض”، حيث حدّثَه وطمأنَه، وخُيِّلَ إلى الكاتب أنّه في عالمٍ آخر: “وكأنّما هو كون لا وجود فيه لجبروت الدّهر ولا لقيود الأمكنة والأزمنة…” (ص 53).

 

“إياك أن تكفرَ يومًا بإنسانيّة الإنسان”

في مقاطعه الوجدانية – كما أسماها – نلمس عِظَمَ ما يغمر وجدان الكاتب من عاطفةٍ  وحبٍّ ووفاء لذكرى أبيه: ” وَما سَأَكْتُبُهُ يا سادَةُ هُوَ مُبْتدَأٌ ذوُ بِدايَةٍ مَلْموسَةٍ، وَلَكِنَّهُ سَيَكونُ بِلا نِهايةٍ حَتْماً، وَهُوَ لَيْسَ بِمُذَكّراتٍ، وَلَيْسَ بقِصّةٍ أو رِوايةٍ، بَلْ هُوَ مَزيجٌ مِنْ مَقاطِعَ كِتابِيَّةٍ وِجْدانيّةٍ عَنْ أحْداثٍ مُتَنافِرَةٍ، عَمَدْتُ في صُلْبِ صِياغَتِها، وَمُنْذُ البَدْءِ، إِلَى التَغاضي عَنْ تَواليها الزَمَنِيِّ، وَذَلِكَ لَيْسَ تَقاعُساً، إنّما إيماناً عَميقًا مِنِّي بأنَّ مَنْ أكْتُبُ عَنْهُم، يُجَسِّدونَ نَموذَجاً للإنْسانِ الإنْسانِ، بِعَواطِفِهِ، وَبِأفْراحِهِ، وَبِأتْراحِهِ، وبِعَـذاباتِهِ، وَبِمَرارَةِ مَصيرِهِ، نَموذَجاً يَتَكَرَّرُ في كُلِّ الأزْمِنَةِ والأمْكِنَةِ. وَكُلُّ ما سَأكْتُبُهُ سَيأتي في سِياقِ عُنْوانٍ واحِدٍ: «بَيْنَ الحَنينِ وصادِقِ القَوْلِ، كانَ أَبي…».” … كما نلاحظ ما ينتاب وجدانه هو من تساؤلات حيال الوجود، فيترجمها في عرضه لموضوع “الرحيل ونواميس التواصل الروحيّ المجهولة” (ص 37)، أو ضمن تأمّلاته في “ضوء القمر يحنّ ويبكي ويبحث عن صديقه في الزمان والمكان” (ص 57)؛ كما من خلال ما يسرده لنا من أخبار لأحداث عايشها وحُفرت ذكراها في قلبه، منها المُفعَم بالحنين ومنها المُغرِق في الحزن.

أكثر ما يستوقفنا في هذه “المقاطع الوجدانيّة”، هو التوجّه الأخلاقيّ الذي لا يتّخذ منحى الوعظ، وإنّما شكل الأحاديث المرويّة، والتي تشكّل مختصرًا لسيرة الكاتب وأهله؛ وتنقل إلينا صورةً عن زمنٍ مضى وانقضى، ولكنّ أثرَه ما زال ظاهرًا جليًّا في فكر الحجيري ووجدانه، ولا عجب، فقد حمّله يوسف البيضاء المعروف أيضًا بالنبيّ يوسف، والدُه الطيّب الذّكر والسيرة، وصيّةً ثمينة، قال: “إياك أن تكفرَ يومًا بإنسانيّة الإنسان” (ص 31-32).

كما يلفتنا اهتمامُ والده بالعلم، وسعيه الدؤوب، بالرغم من المشقّات، لتأمين ما يكفي لتعليم ولده، وقد عرف أهميّةَ العلم ودورَه في حياة الإنسان، مُحيلا

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!