كاسندرا/بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

تآكلت آثار النّاس على دروب هذه المدينة العامرة بعد إطلاق صفّارة الإنذار؛ فهل انشّقت الأرض عنهم.. وابتلعتهم في مثل ساعات الذّروة؟. على مدار أيّام أفتقدُ الضّجيج، قبل ذلك كنتُ أتمنّى توقّفه للحظات من اللّيل؛ لأنعم بنوم هادئ ترتاح فيه أعصابي المُرهقة على الدوام. هل المدينة كرهتنا..!! عاقبتنا؛ فحرمتنا جميع مرافقها..!!؟.
رَهَبُوتُ المقابر المُظلمة نشر أوشحته على المكان، كأنّ الأموات توازعوها آخِذًا كلّ حصّته منها وذهب. عبر النّافذة تسترسل نظراتي بعيدًا في اللّا شيء المجهول. خِلْتُ لحظتي هذه مُتدثّرة بالموت الأسود في عينيّ. ظنونٌ تساورني بفرحة الطّريق من عابره، من أثقالهم وأحمالهم.. من صراخهم وزعيقهم.. كآبة اللّصوص بتعطّل نشاطاتهم. البيوت يحرسها أهلها. دوريّات الشّرطة لا تترك زاوية، ولا مُفترقًا إلّا آخذين موقعهم فيه. سيّاراتهم تجوب الأنحاء بحثًا عن مخالفي الأوامر.
بساط الذكريات يأخذني على متن أثيره، إلى ما قبل بداية الألفيّة الثانية بسنوات، أيّام موضة المسلسلات المكسيكيّة، هوَسٌ غير طبيعيّ اجتاح المُجتمع بمعظم فئاته العمريّ. خلوّ الشّوارع أمر لفتَ انتباهي آنذاك. ما الذي يحدُث يا جماعة الخير، قالوا:
-“كاسندرا”.
-“ومن هذه الكاسندرا؟”.
اكتسبت شعبيّة طاغية، مُنافسة للمسلسلات البدويّة الأقدم (رأس غليص -ووضحة وابن عجلان)، هذا الأشهر التي تعلقّت بها قلوبنا، بفارغ الصّبر كنّا ننتظر موعد البثّ، أيّامها كان التلفزيون بالأسود والأبيض، وليس من العيب أن يذهب الجيران وأهل الحارة، لمن كان عندهم هذا الجهاز السّحري بكلّ أريحيّة ببساطة وبلا تعقيد، الذي غيّر أنماط حياتنا، كان ثورة اجتماعيّة حقيقيّة. تعادل ثورة تقنيّات الموبايلات مع مطلع القرن الواحد والعشرين.
من المُضحك المُبكي اختلاف مواعيد السّفر المقرّرة والمؤكّدة، بعد انتهاء إجازتي السنويّة أثناء عملي في (أبو ظبي)، تزامنت مع عودة المُدرّسين في آخر الشّهر الثّامن إلى وظائفهم على نفس الرّحلة، وافتتاح معرض دمشق. لأمر تقنيّ خارج عن سيطرة مكتب السّفريّات في درعا، طال انتظارنا من العاشرة صباحًا إلى الحادية عشر ليلًا حتى انطلقنا.
كثرة التُساؤلات الضّجرة، تآكل صبر المسافرين جميعًا.. التأفّف لا ينفعنا، خيارنا الصّبر ، في لحظة أضحكتنا رغم مرارة قهرنا، وتعب أجسامنا غير الطبيعيّ. أحد المُدرّسين سائلًا موظّف المكتب قبل الرابعة عصرًا:
-“متى سيأتي الباص..!!؟”.
-“أخبرونا أن الباص انطلق من دمشق إلينا”.
-“يعني إذا ذهبنا وحضرنا كاسندرا، ورجعنا يكون قد وصل!!؟”.
انقلبت الحالة إلى نشوة عارمة استفقنا على كلام ولغط عمّ صالة المكتب الواسعة وخارجها، موضة التلفزيونات في المكاتب المحلّات لم تن قد انتشرت وقتها.
شاب هناك في طرف الطرف المُقابل، تنحنح بصوت عالٍ، نبّهنا إليه، قال:
-“سأخبركم أنّه في أحد القُرى – تباعد الوقت أنساني اسمها-الجنازة تركوها في المسجد، وحدّد المؤّذن الموعد الصّلاة عليها، بعد انتهاء كاسندرا”.
تبدّد السّأم والملل، بانطلاقنا في حكايا لم تكُن لتخطر على بالنا. أحاديث جانبيّة ألهتنا ساعة من الزّمن. ونعود نجترّ إرهاقنا حتّى مجيء الحافلة. صفّارة الإنذار في السّادسة مساء من كلّ يوم، صارت تسترعي انتباهي لمعاينة السّاعة لابتداء منع الخروج، ولزوم البيوت؛ تستعيدني إلى بداية الحرب في سوريّة 2011. الشّوارع في بصرى بعد كانت تخلو من العابرين. انتشار الخوف على نطاقات واسعة، انقطاع الكهرباء أرجعنا إلى العصور الحجريّة. فلا وسائل تسلية أبدًا، استحالت التلفزيونات والموبايلات والهواتف الأرضيّة أدوات لا حياة فيها، مثل أموات فارقت أجسادهم الأرواح. تنقلب المدينة ليلًا إلى ساحة رعب مرتعًا للأشباح.
في إربد. فارغة إلّا من أعمدة الشّوارع تنير الطّرقات، وصفير سيّارات الدّفاع المدني أو النّجدة، يُرسل لي رسالة اطمئنان أنّ شيئًا هناك في الخارج يتحرّك، أو ضجيج سيّارة يمتلك سائقها تصريح خروج.
حصار مُرفّه بأدواته مع الأنترنت، شعوري الدّائم بضيق يكتم أنفاسي، حركاتي محدودة، خدر مفاصلي أمام الحاسوب الشّخصيّ لساعات ما بعد منتصف اللّيل، اختلال مواعيد النّوم والطعام والخروج إلى الحمّام. آخر عهدي بالموبايل قبل النّوم، وأوّل عناق لي معه بتفتّح عينيّ في الصّباح.

عمّان – الأردنّ
15 \ 4 \ 2020
______
خاص لصحيفة آفاق حرة

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!