مطايا \ نزار الحاج علي : حمص – سوريا

خاص: صحيفة آفاق حرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يكن اجتماع كلّ هذا العدد من الناس في المقهى غريباً، فعادةً ما يجتمع الشبّان لمتابعة المباريات المهمة، لكن الغريب هو اجتماع هذا الخليط العجيب من الشباب والكهول وحتى النساء، لمتابعة خطابٍ، سيتم بثّه على الهواء مباشرة بعد لحظات.

كبارُ السن ممن عاصروا الجائحة الأخيرة التي ضربت البلاد بعد بداية عهد الاستقلال بسنوات؛ أوضحوا أنَّ الحل الوحيد الناجع الذي تم اتخاذه في ذلك الوقت؛ هو إخراج جميع المصابين ونفيهم إلى خارج المدينة، حتى عادت الحياة إلى طبيعتها.

المرعبُ في الأمر أنّ كلّ من يصاب بهذا الوباء ينقل العدوى لغيره، والفئة الأكثر عرضة للخطر هي فئة الأطفال والشباب، حيثُ يتعرضون للإصابة عن طريق أهلهم في البيت، أو معلميهم في المدرسة، أو حتى عن طريق قراءة كتابٍ أو مقالٍ لكاتبٍ موبوءٍ بالمرض؛ فيفقد الطفل المُصاب قدرته على الكذب.

استباقاً للكارثة، وفي المبنى الذي يقع أمام الساحة العامة، تم وعلى عجل إنشاءُ منصةٍ خشبيةٍ في حديقتة الأمامية الجميلة، والتي زادها جمالاً أزهار الخشخاش والقنب الموزعة بإتقان في الأرجاء، ومن خلف المنصّة تظهر القبة التي عرفت باسم قبة السراب، وقف رئيس الحكماء عرقوب مخاطباً الأعضاء الحضور، والشعب الغائب:
_أيها السادة النبلاء، تمرُّ مدينتنا هذه الأيام بمنعطفٍ تاريخيٍّ حاسم، و لابد من اتخاذ اجراءات صارمة وسريعة.

الاجتماع الذي استغرق عدة ساعات، خرج بتوصيات للمرحلة الأولى من خطة المقاومة، أمرتْ الناس بالبقاء في بيوتهم وعدم الخروج إلا في حالات الضرورة القصوى.

طبعاً سارع كلُّ الموجودين في المقهى للمغادرة متخلين عن نراجيلهم وفناجين قهوتهم تنفيذا لهذا للقرار.

وبما أنى كنتُ صاحب المقهى، فقد تراءت لي الخسارة الفادحة أمام عيني، وكان لا بدّ من التصرف بسرعة؛ استجمعتُ كلّ خبرتي بهذه الحياة، ثم اعتليتُ أحد الكراسي العتيقة، نفثتُ آخر نفسٍ من الإركيلة حتى تشكلت دائرة جميلة أبهرت الزبائن الذين كانوا قد همّوا بالمغادرة، فاستوقَفْتهم قائلاً وأنا أتحسسُ كرشي بيدي اليسرى، والنقود بيدي اليمنى:
_اجلسوا رجاءً.
أشرتُ إلى الكراسي الخشبية القديمة، بعد أن أمرت لهم بشاي مجاني.
_تمهلوا يا إخوتي، حفظكم الله إلى أين بهذه السرعة؟
_دعونا نحلل الوضع الحالي بعيداً عن العواطف والمصالح الشخصية.
-لو كان أعضاء المجلس صادقين في كلامهم فهذا يعني أنهم مصابون بالمرض، وفي هذه الحالة لا يجوز الالتزام بقراراتهم.
-بل يجب علينا القبض عليهم فوراً وإرسالهم إلى المنفى الإجباري خارج أسوار المدينة، بتهمة التقاطهم للعدوى وبالتالي تهديدهم أمن هذه المدينة الهانئة.

أحد المسنين وقف فجأةً، كانت هيئته المهيبة وعيونه الغائرة إضافةً لشعره الأبيض تنم عن وقارٍ شديد،اعترض على كلامي بشدّة :
-أنا أعرف مجلس الحكماء هذا منذ زمن طويل، إنهم مثالٌ عن الكذب وعدم الوفاء، وهم لم يخالطوا أي إنسان صادق ممكن أن ينقل إليهم العدوى.

طبيب الصحة أكدَ كلام الرجل العجوز.
– صحيح وأنا أشهدُ بحكم موقعي وعملي أنهم يأخذون اللقاحات بشكلٍ منتظم أكثر من أي شخصٍ آخر.

ضجً المقهى بحالةٍ من عدم اليقين، نظر الجميع إليَّ بحيرةٍ، منتظرين الردَ، فقد عُرف عني الحكمة وعدم التسرع في إلقاء الكلام جزافاً.

-هذا ما توقعته والله منكم، فمن غير المعقول أن نتهم مجلس حكمائنا الموقر بمثل هذه التهمة الشنيعة.
تابعتُ و بنبرةٍ تصاعدية:
-أعوذ بالله من أن يكون هدفي التشكيك.
-لكني أرى أن القرار الصادر هو اختبارٌ لولائنا ولذكاءنا في نفس الوقت.

-‏طالما أننا نثق بكذبهم ثقةً عمياء لا شكَّ فيها يجب علينا في هذه الحال أن لا نقرأ القرار كما صدر، بل يجب أن نمحّص ما بين السطور.

فجأةً تعلقت عيون الحاضرين كلها بما ستنطقهُ شفتاي، وأقسمُ أني شعرتُ وكأني أحلّقُ عالياً بواسطة شاربي الذي يشبه إلى حدٍ بعيد جناحي نسر.

-إذاً يا سادة المعادلة بسيطة جدّاً :
-‏إذا طبقنا التعليمات بشكلها الحرفي، فهذا يعني أننا صدّقنا كلامهم، لذا الحلّ الوحيد لعدم السقوط في هذه المتاهة…هو أن لا نصدّق كلامهم!
-وحتى لانُتهم بعدم تطبيق القرار ‏سنرفع شعاراً لهذه المرحلة (الدخول نحو الخارج).

سادتْ لحظاتٌ من الصمت، ثم نظر الجميع إليَ باستغراب…قبل أن يعلو التصفيق ممزوجاً بالهتاف…ليطوفوا شوارع المدينة،متوجهين بي نحو قبة السراب…محمولاً على الأكتاف.

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!