ماكنتُ يوماً أناي / شعر :الشاعر السوري سليمان نحيلي

(نأتي من هاويةٍ مظلمةٍ ،وننتهي إلى مثيلتها)

نيكوس كزانتزا كيس

اليومَ يستوي وجعي جرحاً ،
يئِسَ الشّفاءَ،
وحبراً جفَّ
دونَ أن يبلغ َ طموح َ القصيدة ِ في ابتكار الورد ِ من تربةِ الغياب ْ….
وردةٌ واحدةٌ – تكفي لهذي الرّحلةِ – وبضع ُ تمتماتٍ
يُردّدُها المشيّعونَ على عَجلٍ
ولا أقولُ أُمي …؟
لأنّ أُمي إلى جواري الآن مستريحةً ،
وقد نالتْ أُمنيتها الوحيدةَ التي طالما أرسلتها على أوتار ِالدّمعِ :
ياليتَ تبكي عليَّ ياولدي ولايوماً أبكي عليكْ..
إنّما أعني – بمن ْ حضروا –
أبي وابنتي وأُخوتي وزوجتي ،
وقلّةٌ منَ الأصدقاء ِ الطّيبين َ
وأعني العشيقةَ بمن غابوا
هؤلاء ِ ..يتلونَ صلواتهم بالدّمعِ
ويستبْطؤون الوقت َ
ليُتمّوا مراسمَ الوردِ والبكاءِ ،
وهم يُضمرونَ أنّ البكاءَ عادةٌ قديمةٌ في مهبِّ الغيابِ ،
وأنّ الوردَ محاولةٌ لتجميل ِ الموتِ
ورشوةٌ خائبةٌ
كي لايؤولوا إلى صورةٍ بشريطٍ أسود َ على الجدارْ …

****

الآنَ وقد مضى الكلُّ :
المتزوجونَ إلى زوجاتهم وأولادهم
العاشقُ – وقد أَجّلَ موعدهُ ريثما يتمُّ دفني – إلى
عشيقتهِ
كيما ُتلاقيهِ بمائدةِ صدرها العامرِ
فيُثني على انتظارها
بجسدٍ مدجّجٍ بالشّوقِ والشهواتِ…
حفّارُ القبورِ إلى
نومٍ يحلمُ فيه بأمواتٍ كثيرين َ …

****
أمّا أنا وقد بتُّ وحدي
ولايمرُّ الوقتُ إلا كي يمرَّ الوقتُ
فسأكونُ مهذباً كما كنتُ بينكم :
سأُرسلُ للعاشقِ – كردٍّ للجميل ِ –
كلّ ماانهالَ على قبري من ورد ٍ
فلا حاجة َ لي هنا بالوردِ
و سأُدعوا للمتزوجينَ
ببيتٍ صغيرٍ مؤثّثٍ بالوئامِ
وأطفالٍ جميلينَ
وخياناتٍ لاتدومُ …
وللحفّارِ بأصدقاء ٍ جُددٍ جواري
سأكتبُ على ظهر بطاقات ِ أكاليلكم ْبقلمٍ كنتُ
خبّأتُهُ لأُكمِل َ القصائد َ التي عاجلها موتي ؛
وعاندْتُ مَن أَرَاقَ الماءَ عليَّ بانتزاعه مني
ليتركَهُ بعد أنْ وعَدتُهُ
بأنْ أمتَدحهُ أمام الموتِ كثيراً
وأنْ لا أشي به للحاضرينَ
بأنّ الماء كان بارداً جداً حين غسّلني ..
سأكتب لكم : شَكرَ اللّه سعيكمْ
وشكراً لكم
« من كلّ موتي شكراً لكمْ»

****
هكذا سيمرُّ الوقتُ عليَّ هنا في وقتهِ
و سيبقى كلُّ شيءٍ عندكم على سيرته الأولى
قنديلُ الليلِ سينوس ُ رويداً ..رويداً كعادتهِ
والشمسُ لن تؤجّلَ شروقها لموتي
ولنْ تكفَّ عن منحكمْ برتقالاتِ الغروبِ
والأرضُ ..مازالتْ تدورُ…….
فيما ابنتيَّ الوحيدةَ
جاثمةً على قبري؛
لم تستفقْ بعد ُ منْ دُوَارِ الدّمع ِ والذكريات ِ ..
هكذا يمرُّ الوقتُ
وبعد شهرينِ أوعامينِ أو..
سيجيئُ شابٌ في مُقتبلِ البسمة ِ
يوقظُ الأميرة من دمعها
يهمسُ بأُذنها كلمتينِ من قاموس الماءِ
فأُدركُ أنهُ عاشقٌ
ثمّ يهديها وردةً
يضعانها على قبري ويمضيان ْ …
يعبرانِ بوابةَ المقبرة ِ متخاصرينِ
إلى شارعِ الحياة ِ ….

*****
الآنَ وقد مضيتم جميعاً ،
وبقيتُ وحيداً هنا
أملك ُ مالاتملكونَ أنتم هناكَ،،
وماتحسدوني عليه ِ :
هدوءٌ دائمٌ …وبياض ُ ..
وحيد ٌ أنا الآنَ
وقد ورثتم عني كلّ ماكان لي على هذه الأرضِ :
حفنةَ أوراقٍ وأقلامٍ ..ودواةْ ..
لذا سيفرح ُ قليلٌ قليلٌ منكم بترِكتي
وسيغضبُ الدّائنونَ لأنني خذلتهم مرتين ِ
وأُدرِكُ أخيراً
لماذا كانوا يدعونَ لي بطولِ البقاءِ
ورزقٍ لايزولُ ….

*****

وحيدٌ أنا الآنَ
ولا شأنَ لي بكم
أُشاغلُ الدّودَ عن جسدي النحيلِ كلَّ ليلةٍ
بحكاياتٍ عن ما فوقَ الأرضِ منْ أجسادٍ مكتنزةٍ
فينامُ الدّود عنّي حالما ً بموتهم ،
وها بلغتُ من الحكاياتِ ألف َ ليلةٍ وليلةٍ..
والدّود بلغَ منَ الأحلامِ
موتَ قارّتين ِ من البشر ِ

******
وحيدٌ أنا الآن َ
نامَ الدودُ
وبقيتُ وحدي
أُمضي موتي على مهلٍ
أشربُ القهوةَ وأُدخّنُ
أقرأُ أشعارَ طرفة َ وتأبّطَ وصاحبَ الممالك الزائلة ونزارَ ودرويشَ والسّيّابَ والنوابَ ،
وأحفظُ اليتيمات ِ عن ظهر موتٍ
وألعنُ كلَّ إرثنا الفادحِ من قصائدِ المديحِ …

*******

وحيدٌ أنا الآنَ
ّ يأتيني ملاكٌ
لن يسألني من أنتَ
لأنّه قرأَ اسمي على شاهدةِ القبر ِ
بلْ يقولُ لي :

كم أنتَ ؟!
وكم كنتَ أناكَ ؟!
وكم كنتَ غيراً سواكَ؟!

عندها سأُجيبهُ وقصائدي في يميني
ودواتي وريشتي في شمالي :

اليومَ..

أنا : أنا
وماكنتُ يوماً أناي ْ
كنتُ في الجرحِ هو
وهيَ
وهم

فمنْ منهم كان سوايْ

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!