أفالون / بقلم: محمود يوسف/ دمنهورـ محافظة البحيرة

 مشهد ختامي: صعد الإمام على المنبر بعد الانتهاء من الصلاة عليهما.. وناشد الجمع من المصليين بإقامة ضريح لهما تحت قبة الجامع الخضراء.. تكريمًا لما ظهر عليهما من كرامات أثناء إقامة الصلاة عليهما. بداية المشهد: كانت الحشود واقفة على أبواب الجامع.. حشود غفيرة لا يعرف أحد منهم الآخر.. الكل جاء لإقامة واجب العزاء في رفيق درب.. جارة عمر.. جليس مقهى أو زوجة صديق.. الكل كان يقف عند أبواب الجامع ينتظر النعش الخاص بصاحبه وهم يتبادلون آحر التعازي في الفقيد/الفقيدة.. بوجوه مسودة يغلب عليها الحزن الرهبة.. لا رهبة الموت.. ولا حزن على الفقيد/الفقيدة.. إنما خوف مما هو قادم لا محال إن حلك عليهم الليل في هذا المكان الكئيب. الجامع في منتصف المقابر.. والطرق المؤدية إليه ضيقة جدًا.. وعلى حافتيها ينتشر نبات الصبار الشائك وشواهد القبور.. لا أحد يعرف من الذي قام ببنائه ولا طرازه المعماري ليخمن في أي عصر تم بناؤه.. فهو قائم في مكانه هذا منذ عهد بعيد.. تواتر عليه أجيال وأجيال.. وعلى ألسنتهم حكاية شائعة.. وهى أن من قام ببناء هذا الجامع أرواح أناس طيبين أرواح خيرة من سكان هذه المقابر.. وقد قاموا ببنائه ليتلوا فيه آيات الذكر الحكيم بعيدا عن ضجيج الأرواح الشريرة.. وعتمة القبور. كان خوف الحشد من قدوم الليل.. لأنه في الليل تخرج الأرواح الشريرة.. وتسحر أعين كل من يصادفها ثم تقبض روحه في شكل بشع مرعب كهذه العجوز. هذا ليس من محض خيالي كقاص بالمناسبة. وإنما هي حقيقة يعرفها الحشد.. بالتأكيد لا أحد يعلم تفاصيل ما حدث للعجوز ولا أنا ككاتب لم يخبرني الراوي بتفاصيل حكايتها. فقط أكتفي بحكي ما يعلمه أهل المدينة دون زيادة أو نقصان.. لا أنكر أنها حكاية غريبة عجيبة لم يصدقها عقلي إلى الآن. سأقص عليكم نبأها في إيجاز رغم أنها لا تمت للقصة بأي صلة ولكن ليكون عندكم خبر عنها لربما يكون لها مغزى سيوضحه لنا الراوي في النهاية. بدأت الحكاية حين استيقظ أهل المناطق المحيطة بالمقابر.. ورأوا امرأة عجوزًا ترتدي جلبابًا فضفاضًا داكن اللون تقف بين القبور.. مصوبة عصاها إلى أعلى.. لم يحدد أحد هويتها.. ربما لأنها مولية شطرها ناحية الغرب.. فما كان من نور الشمس إلا أنه طمس ملامحها للرائي البعيد.. في البدء ظنوا أنها من زوار ساكني القبور.. لكن مع مرور الوقت شعر الأهالي بأن هناك شيئًا ليس على ما يرام.. فقد فات من الوقت ما فات والواقفة بين القبور لم تحرك ساكنًا.. وهذا ما دفعهم إلى اقتحام سكون الموتى لمعرفة حكايتها. وعند الاقتراب منها تسمرت الأقدام وتعالت الهتافات ” لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله ” كانت الواقفة تصوب عصاها المعوجة إلى هدف لا يعلمه إلا الله.. وهي تنظر إلى الأمام مباشرةً بوجه شاحب فاغرةً فاها.. فاقدة للنطق وللحياة أيضًا.. تقف بجسد متصلب هربت منه الدماء.. تنظر لشيءٍ لا مرئي بعينين جاحظتين يملأهما رعب هائل وفزع رهيب. وقد عجزت العقول عن إيجاد تفسير لما حدث لها.. غير أن ما رأوه حبس أنفاسهم وأصابهم هم الآخرين بحالة من الرعب.. فقد كان طرف جلباب العجوز عالقًا في نبته صبار.. بل إن أصح تعبير كانت نبتة الصبار وكأنها يد قبضت على ذيل جلبابها.. وعلى إثر ما رواه الأهالي تعددت الأقاويل.. حتى صار ما حدث للعجوز هاجسًا يرعب العامة من الناس وبالتأكيد من بينهم الحشود الواقفة على أبواب الجامع. لذا كان خوفهم من قدوم الليل.. لكن شيئًا غريبًا حدث بدّل حالة الخوف الساكنة في قلوبهم إلى حالة دهشة سرعان ما تبدلت إلى روح صوفية مطمئنة حين رأوا النعشين يطيران في الفضاء وخلفهم جمع من المشيعين يهرولون للحاق بها وهم يصيحون “حي.. حي” وعند منبر الجامع هبطا كالملائكة بسلام. “إنه لعمل صالح” قالها الحشود وهم يتهافتون على التمسح في النعشين. “لا مساس” هكذا أمرهم الإمام ثم أعلن الصلاة على الموتى في وجل. الصلاة على عبد الله.. الأستاذ / …… الصلاة على أمة الله.. حرم الحاج / ….. استووا… مشهد (2): كانت الصلاة أشبه بالصلاة على نبي.. تفوح من الموتى رائحة مسك.. شرحت صدور المصلين وأنزلت على قلوبهم سكينة.. فخلعوا عباءة الخوف والحزن.. وأستبدلوا بدموع الفراق ابتسامةً يزفرون بها عكارة دنيا ضاع فيها شبابهم وسط زحامها قبل أن يشيبوا. وعلى التكبيرات الأربع كان أطفال ذوي القربى يطوفون حول الموتى كالولدان المخلدين بوجوه فرحة سعيدة. أنتهت القصة
تنويه:
” قبل وضع معطيات للقصة.. دعنا نفهم أولًا سر الحكاية.. فمازلت لا أفهم ماذا كتبت ” الراوي: الحكاية بدأت منذ زمن بعيد عاشقان فرقتهما الحياة وجمعهما الموت. هي / مازال هو فارس أحلامها السعيدة. هو / هي الكابوس الذي يطارده في منامه كل ليلة. هي / كل ليلة تنام في كامل زينتها.. أملًا أن تصادفه في حلم عابر فيراها كما عهد منها جميلة بهية برغم المرار الذي تعيش فيه من بعد فراقه. هو / كل يوم يستعيذ من الشيطان قبل نومه ويتفل عن يساره ثلاث مرات بعد أن يدعو الله ألا يصادف وجهها الكئيب في حلمه. هي / ما زالت تهواه.. رغم ما فيه من غصة.. فقد كان عصبي المزاج.. حاد الطباع.. كلامه دبش.. لم يُطقه أحدٌ قط .. ورغم ذلك كان هو القلب وما عشق. هو / كان يعشقها بجنون.. يغار عليها من نسمة الهواء حين تداعب خصلات شعرها.. يتنفس من زفير حديثها معه.. فقد كان يراها هبة من الله لتذيب طعم مرارة الأيام في حلقه. لم يخيل إليه يومًا أنها من الممكن أن تتركه وحيدًا عابسًا دون أنيس يهون عليه وحدته ولا رفيق يربت على كتفيه. هي / كان فرضًا عليها أن تتركه.. فالعائلة لا تعترف بالحب.. العائلة كل ما في خاطرها أنها غمة وجب عليهم إزاحتها.. لذا رضخوا لأموال العائد من الخليج.. بمجرد أن طرق الباب قدموها له على طبق من فضة من معروضات النيش.. ولم تعِ هي جرم العائلة في حقها إلا حين استيقظت ذات صباح ووجدت نفسها بجوار رجل لا تعرفه يقاسمها الفراش. لحظة من فضلك سيدي الراوي: العائلة لا تعترف بالحب.. كيف؟ وهي من قالت له ذات مرة أنت الآن بمثابة الأب الذي لم تره ابنتنا قط.. وفي الغد ستكون مكاننا جميعًا. : هو حمل الأمانة وكان جهولا.. ظن أنها ملاك لن تتركه أبدًا تحت أي ضغط كان. رغم أنها هي الأخرى ما بيدها حيلة.. فهى جارية من جواري العائلة. والعائلة لا تعترف بالحب. : كيف أن العائلة لا تعترف بالحب.. وهم من بكوا ليلة عرسها حين وقع في أيديهم تهنئة كتبها هو بدمه. لا تقل لى أنها هي من رغبت في الفراق.. فبعد زواجها كانت تدعو الله كل صلاة فجر بأن يرزقه خيرًا منها.. ويعينها على ما بلاها. لابد من أحد سعى في التفريق بينهما. .. دعنا نعود إلى القصة لنرى من يكون : قبل أن تعود إلى القصة هناك مشهد في الذاكرة.. أكتبه أولا ثم نستأنف النقاش. مشهد سابق: وبعد أن فرقتهما الحياة.. أعادتهما مرة أخرى إلى نقطة الصفر ولكن بعد أن غزا الشيب رأسيهما.. فقد رآها في نفس المكان.. المكان الذي يحمل ذكرى أول لقاء جمعهما معًا.. ممسكة في يد حفيدها واليد الأخرى تحمل بها أيس كريم.. ياه.. أما زالت تعشق الآيس كريم في الشتاء؟ هكذا قال في نفسه مدمع العينين وهو يسارع بالانصراف بعيدًا عنها قبل أن تلمحه.. كان يخشى أن يذوب جسده حنينًا من نظرتها إليه.. من ثم يحبو إليها كطفل يرجو حنان أمه.. فبرغم أن الحياة أعطته الكثير.. الجاه.. المال.. البنين إلا أنها أخذت منه قلبه المعلق في تلك القلادة المتدلية على صدرها الحنون.. لذا سارع بالهروب ويا ليته يعلم بأن قلبها قد شعر به.. فبمجرد أن وقعت عيناه عليها.. شعرت بطيفه الندى يحاوطها من كافة الاتجاهات.. وأخذت تلتفت حولها فرحة عسى أن تراه.. فالحياة أخذت منها الكثير.. نضرة الشباب.. الصحة.. الزوج الوفي.. الابن البار.. وأعطتها ذكراه.. لذا كانت تريد أن تراه. : ماذا يعني ذلك؟! مازلت لا أفهم ماذا كتبت. : عذرا لقد انتهت القصة. : لا لم تنتهِ بعد.. أنت أمليت علىّ هذا المشهد دون توضيح.. وهناك شيء يصعب علىّ فهمه.. فإن كان يحبها إلى هذه الدرجة.. لِمَ هرب؟ لابد من وجود دافع جعله يلجأ إلى ذلك وإلا كان من الممكن أن يذهب إليها ويصافحها ومن ثم يدعوها لتناول مشروبًا معه ويفرغ معها الذكريات؟ لِمَ هرب؟ : الحكاية واضحة أمامك كما ترى.. ما حدث بناء على رغبته.. عن نفسي كنت أود أن يسير بجوارها في عزة وكبرياء دون أن يعيرها اهتماما لتندم على ما فات.. لكنه فضل الفرار خوفًا من اللقاء. هذا كل ما في الأمر : لا ليس هذا كل ما في الأمر . دعنا نعود إلى القصة .. فهناك حكاية لا تمت للحدث بأي صلة ومع ذلك دفعتني لكتابتها. : وأنت قلت للقارئ لكي يكون لك خبر عنها. : وقلت له أيضًا لربما يكون لها مغزى عند الراوي سيوضحه لنا في النهاية. ما الذي جعل عجوزًا تأتي إلى المقابر في منتصف الليل.. إلا لو كان هناك ماتريد أن تخفيه في أفواه الموتى. : هاهاها.. أتؤمن بهذه الخرافات وأنت خريج جامعي. يا رجل دعك من هذا الهراء. : لمَ فرقت بينهما؟ : لن تفهم.. عاجلًا أم أجلًا كان سيأتي وقت الفراق.. لا فقط لأن الحب كالطيور خُلق من أجل الحرية لا لقفص الزواج. بل أيضاً لأنه حين جاء من بلاده البعيدة التي مزقتها الحرب وسكن معنا في المدينة.. لم نكن نعرف عنه شيئًا.. كان يصوم ويفطر معنا.. يؤمنا في صلاة الجماعة.. فظننا أنه مثلنا.. سُنيٌ مثلنا.. لم نكن ندري أنه زيدي .. ماذا تفعل أنت لو كنت مكاني تروي أحداث هذه القصة؟ ستنصر الحب وتكون عبرة لمن يعتبر على أيدي وكلاء الله.. أم أنك ستسارع في التفريق بينهما لإنقاذ حكايتك. : لا أعرف.. حقا لا أعرف.. لكن ما ذنب العجوز؟ : هذا جزاؤها العادل.. كانت تملك أن تغير مسار القصة.. لو أنها لم تُصغ إلى كيدي الذي أضمرته في نفسي للبطلين.. لكنها ومع الأسف ذهبت إلى العائلة وقصت عليهم نبأه.. فسارعوا في التفريق بينهما وزفوها إلى جدك فور عودته من الخليج. : جدي! : ألا تعلم منذ بداية الحكي من تكون هذه السيدة؟ : يا لك من راوٍ لعين.. ألا تخشى جزاءك؟ : ها ها ها.. أنا لا أصوغ حكاوي للنقاد يا أفندي.. وإنما أحكي للعامة.. جزائي في يد القُراء. محمود يوسف دمنهور.. محافظة البحيرة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!