الجنرال / بقلم : الروائي محمد فتحي المقداد

بعد سنوات الخدمة الطويلة انشقّ الجنرال انحيازًا لإنسانيّته أوّلًا، وسعيًا لاستنشاق نسائم الحريّة المفقودة.
كان مختلفًا بنظافة يده، وعفّة نفسه، ملتزم بعهده للوطن.
تقرير المخبر:
– “إضافة لما سَبَق؛ فهو مُنطوٍ قليل الاختلاط، دائم الجلوس في خيمته بعد انتهاء الدّوام. مؤخّرًا قرأ روايتيْن (الشّراع والعاصفة – حنّا مينة) و (طواحين بيروت – توفيق يوسف عوّاد).
برقيّة عاجلة بإرسال الجنرال (أكرم) إلى قيادة التّشكيل العسكريّ التابع له.
أُبلِغ من قائده المُباشر:
– “أنتَ مطلوبٌ إلى قيادة الفرقة غدًا”.
– “ما الأمر سيّدي؟”.
– “لم يتّضح السبب في طيات البرقيّة”.
استُنزِف النّعاس من عينيْه احتسابًا لمصير مجهول. تكالبت الهواجس عليه من كلّ حدَب وصَوْب. كَدّه التّعب إرهاقًا فظيعًا. تطاولت ساعات ليله امتدادًا حَرِجًا على مساحات فاقت سِني عمره بأعمار.
استرجع شريط أقواله وأفعاله لم يعثر على خطأ ما، أعصابه ازدادت توتّرًا على وقع احتساء القهوة المستمرّ. سحائب دخان سجائره تكاثفت غُيومًا في فضاء خيمته.
بلا مبالاة بعدما أعيَته الحيلة، قال لنفسه مُعزّيًا:
– “ليكن ما يكُن، سلّمتُ أمري لله، وعليه توكّلتُ”.
الحاجب الأنيق، طلب منه التريّض:
– “سيّدي.. عليكَ الانتظار لحين انتهاء المعلّم من إفطاره، وتوقيع البريد”.
حارتِ الكلمات على لسانه تَلجلُجًا. حرّك رأسه اهتزازًا مُستجيبًا مُتّخِذا من الكنبة الجلديّة مجلسًا.
نُعاس مفاجئٌ قاهرٌ استولى عليه، غيّبه في دوّامة حُلُم مقابلة المعلّم الكبير؛ عندما بادره بابتسامة عريضة فور دخوله المكتب الواسع الفخم:
-” يا بني سمعتُ أنّك تقرأ باستمرار؛ هذا يعني أنّك مُثقّف، وقد رشّحتُك لموسم المناظرات الحزبيّة بين فِرَق الجيش، عليك الاستعداد؛ ولن أرضى منكَ إلّا المركز الأوّل، مفهوم..!!؟”.
– “مفهوم سيّدي”.
– “أوصيتُ ضابط التوجيه السياسيّ بتزويدك بكافّة المراجع”.
– “حاضر سيّدي”.
بعد سنوات أخبرني الجنرال أكرم:
– “قرأتُ وحفظتُ كلّ شيء، وكَرهتُ الحزب؛ لأنّه لم يكن إلّا سِتارًا للطائفيّة، وسُلمًا اتّخذوه لصنع آلهة الدكتاتوريّة التي أضفت الشرعيّة على الانتهازيّين المتسلّقين نهبًا لمُقدّرات الوطن”.
– “أوهامٌ لم تعْدَُ أن بَقِيَت شعارات على ورق..!! خدعت الجماهير”.
رأيتُ الدّموع تترقرق في عينيه ألمًا على حياته الضائعة على مدارج الخدمة العسكريّة المنحرفة عن مصلحة الوطن والمواطن.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!