الحذاء وجرة العسل /بقلم : بكر السباتين

اشترى متعوس الحظ، عدنان، حذاءً بالياً من سوق الملابس القديمة. طلاه جيداً.. ودق بعض المسامير التي كانت نافرة تحت ضبانه المتآكل.. وانتعله نافشاً ريشه كأنه امتلك الدنيا. فالحذاء بالنسبة لفقير مثله يعني امتلاك سيارة فارهة.. ثم مضى يطوف به الأزقة التي لم تعد تتسع لفرحته الغامرة، فيُخال له بأن عيون الدهشة تطل عليه من النوافذ المفتوحة، وأقرانه في الجوار يباركون له هذه الغنيمة الجميلة؛ لكن المتعوس فكر على طريقة الجرة والعسل..

“سيبيع هذا الحذاء في السوق بسقف السيل”.

ونجح في صفقة البيع؛ ليعود حافي القدمين إلى البيت والأرباح ترن في جيبه المثقوب بعد أن عقد بطانته الداخلية بخيط متين وجده على الأرض:

” لا بأس فالتجارة مغامرة”

عبارة كانت تتجاوب دائماً في عقله المتحفز المتفائل وقلبه الذي يتقبل كل الإحباطات..

ثم ينتعل عدنانُ حذاءَ أخيه المثقوب المدسوس تحت خزانة الملابس المتهالكة. يخرج هذه المرة وأحلامه تداعبه متسائلاً في سره عن أفضل السبل التي سيستثمر بها ما جناه من نقود. ويا لسوء الحظ! فجرة العسل هذه المرة انكسرت لتضيع أحلامه! فثمة مفاجأة باغتته من حيث لا يتمنى.. حدث ذلك أثناء سيره الواثق على قارعة الطريق.. إذْ تم اعتقاله من قبل رجال الشرطة والأسئلة تزدحم في رأسه:

“ترى ماذا يجري! أغيثوني بجواب!”.

وأمام المحقق أدرك عدنان كيف أن التعاسة ولدت معه كما كانت تقول أمه:

“أنت قليل الحظ كوالدك المرحوم الذي تركنا جوعى في مهب الريح”.

إنه الحذاء! إذ وجد المتعوس كل أطراف صفقته قيد التحقيق، قال المحقق:

“أنتم طرف الخيط لعصابة كبيرة تقوم بسرقة المحلات التجارية في سوق الملابس المستعملة”.. حتى إذا ما أشار أحدهم إليه بالبنان صارخاً:

” هذا هو اللص يا سيدي”

تحول وجهه في لحظات إلى حبة بندورة من جراء الصفع والركل.. وبَلِمَ عاجزاً عن رد التهمة.. ثم زُجَّ به في الحبس.. فصار المتعوس يفكر وهو قابع خلف القضبان كيف أنه لن يمشي منذ الآن إلا حافي القدمين.. ردد في سره:

“الحذاء اللعين”.

ولم تنته الحكاية عند هذا الحد؛ لأن عدنان كان يفكر في الثغرات التي أفشلت صفقة الحذاء.. سيعيد الكرة من جديد.. وكان التفاؤل يأخذه إلى صورة المحقق وهو يبشره بثبوت براءته، ولسان حاله يقول:

“أتوقع حدوث الأمر، فقد قرأت ذلك في عيني ضابط التحقيق بعد أن يأس مني أثناء لكمته الأخيرة التي أصابتني بهستيريا أخافت الجميع”.

كان عدنان أثناء ذلك يتحسس وجهه المتورم وذاكرته تعيده إلى حضن أمه وهي تربت على كتفه متمتمة:

“أنت متعوس الحظ كأبيك.. فقد…!”.

وفجأة تنطوي كل المشاهد في رأسه المأزوم.. وتنخرس ذاكرته التي غشاها الطوفان.. وقد شنف عدنان اذنيه إلى السجان وهو ينادي على أسماء الموقوفين بصوته الأجش؛ ليراجع ضابط التحقيق من جديد.. ينتابه القلق.. يبدو لوهلة أنه سيقضي عمره يحلم بالفرج دون بارقة أمل تضيء له ظلام السجن الذي زج فيه ظلماُ.. يرسل نظراته اليائسة إلى بوابة السجن، يلتهم الضجيج صدى صوته اليائس، كأنه يتجاوب مضخماً آفلاً في قاع بئر عميقة.. تدور به الأفكار في دوامة كأنها زوبعة رملية وسط الصحراء، ومشاعره التائهة تراوح بين جرة العسل وخيبة أمه بمتعوس الحظ الذي يشبه والده حيث فقد الرجاء. تأخذه الغيبوبة إلى ذلك الصقر الذي تجاوز السجن محلقاً في السماء وقد اختطف الحذاء من يد المحقق بقوة، صارخاً في وجه حظة السيء:

“هذا حذائي يا لصوص.. فقد دفعت ثمنه وأرغمت على المشي حافياً لأجل الربح”.

لم يأبه عدنان بأزيز الرصاص الذي أطلقه لسان السجان وهو ينده على اسمه:

“أين أنت يا عدنان!”.

ثم ساخراً:

” هل شربت الحليب يا ماما فنمت مسترخياً على القضبان!

خيبك الله.. هذا سجن وليس حضن أمك!

هيا ورافق العسكري إلى ضابط التحقيق”.

ثم يستأنف النداء.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!