الرقص على أوتار مقطعة / بقلم : خديجة كربوب

_

 

كنت بائعا متجولا ,أحلم أن أعود في المساء برغيف خبز ,وأطرح جثتي على الحصير ,وأسمع تكتكات أقدامي ,لكن المحلات التجارية الكبيرة تشتكي باستمرار من الباعة المتجولين الذين يفرشون بضاعتهم على الأرصفة المقابله لهم .هذا الى أن الزبائن تهرب مني لأن يدي أكلهما البرص ,وفكرت طويلا كيف سأحصل على رزقي دون أن أمد هما لبشر عافهما من قبل ؟؟؟.

توقف رزق يومي ولم أتمكن من دفع أجرة قبوي وخرجت أجر أقدامي ,ولست أدري كيف دخلت المدينة الصامتة ,واستيقظت لأجد نفسي فقيها يتلو على الموتى بركات من الذكر الحكيم مقابل نقود ضئيلة من أقربائهم .هنا لم تعد العيون تركز على يدي بل انشغلت بالموت ,فكنت أتمتع بصوت جميل يتسلل الى قلوب الزائرين ,وبنيت لنفسي “براكة”تحميني من الفصول الأربعة ,وأصبحت فقيها وحارسا وحفارا للقبور .وفي الليل تصلني دائما أصوات صاخبة وضحكات ,فكنت أسامر أرواحها من بعيد لكن الوحدة القاتلة وجسدي الذي لم يلامس الأنوثة ,دفعني بقوة لكي أفك عن نفسي .سرت في اتجاه الموت وأنا أحمل قنديلا وخلعت الجلباب الأبيض ,وصلت الى المجلس وحاولت اظهار صفاء نيتي ,وقلت بصوت مرتفع :

-السلام عليكم

-أجابني رجل عجوز ببحة صوتية تنم عن انزعاجه من قدومي :

-وعليكم اتساع ابش ……….

أما صديقه وهو شاب سحنته من كثرة الشرب والتدخين تحولت الى صفرة داكنة مع بروز عظام الوجه وجحوظ العينين ,رد بلطف :

-المهم ليس من المخزن ,يمكنه البقاء معنا

وبقي ثالثهم مرتميا على الأرض ,مسافرا الى عالمه البائس بدون حراك .

جلست وأنا أبرز أسناني التي أصبحت كأطلال وليلي حتى يتم قبولي من لدن هؤلاء الحشاشين ,رميت لغة الموتى على الأرض وعدت الى حروفي البرصاء المثخنة بالكر والفر والحزن والقهر .هنا أنا اليقظ والمصاب بالأرق ليس بدافع التفكير والتهجع ولكن بدافع الرغبة المتوحشة في أن أعيش النهار والليل ,وأتمتع بلحظاتي بكاملها ,لن أدع النوم يسرق زمني .قدم لي العجوز السبسي محشوا بالحشيش ترحيبا بانضمامي ,وكان صدره يهتز ويتحشرج من كثرة السعال ,وجمع “تنخيمته “ورمى بها في مكان غير محدد,اذ يمكن أن تقع على أحد منا ,وهذا شىء لا يدعو الى التقزز,ربما لأن العفونة التحمت بدواخلنا وبسحناتنا .أمسكت “السبسي “وكأنني أمسك بسر الخلود ومفتاح السعادة .

قال العجوز وهو يضيق عينيه أكثر من صغرهما :

-خذلتحمي عظامك وتشم عبير الجنة .

بينما كان الشاب الوديع يغني بأعلى صوته والكأس بيده مترنحا :

-الحبيبة دبا تجي دبا …..

نظرت الى صديقهم المرفوع ثم نقلت نظراتي الى وجوههم لكي أستمد منهم مشروعية ايقاظه . رغبت في أن يشاركنا هذا العرس الجنائزي لكن العجوز قطب حاجبيه وأشار برأسه رافضا :

دعه ينام ,لاوجود عندي لسمر قسري سأرمي به غدا في زقاقه .

يقاطعه الشاب بنبرة فيها استعطاف وتوسل :

-أرجوك ,أصبح عددنا يتضاءل بسبب قسوتك ,لم تعد لنا هيبة على الأحياء ,سابقا كان رزقنا وفيرا وكركراتنا تدغدغ القبور .أما اليوم فأنا أعتصر الضحك .

-اصمت ياوجه الغم والنكد ,لقد هرمت ولم أعد بعبعا .

اذا أردت الانتماء الى “الحزوطي “فاذهب الى غاره ليبول على سروالك .

بدأ الشاب يبعثر الكلمات بدون رابط ,يغمض عينيه ويفتحهما ,ويقف ليرقص على طبل العجوز ,يسقط ثم يزحف لكي يتكىء على مقبرة يبدو من الشاهد المرمري أنها لامرأة .أخذتني رعشة ورغبة جامحة للرقص ,فقمت كعاهرة تتلوى بجسدها لتنزع من منافساتها السبق والفرصة المنشودة .

أصبح الطبل أكثر اشتغالا وحياة ,وتحرك الشاب بأعجوبة ليصفق بحرارة ويصيح بأعلى صوته :

-مبروك علينا ,هذي البداية مزال مزال ….

وعندما استنفذت كل طاقتي ,وقفت على الأرض والعجوز يربت على كتفي ويقول :

-الله الله على الحمدوشي ,من أتى بك الى المقبرة ؟؟؟؟؟

بعد أن استرجعت أنفاسي ,أحسست أنني يمكن أن أصبح “رايس”المجموعة ,وأترك للعجوز مكانته الرمزية .وبشىء من الاعجاب والتعالي أجبته :

-أنا أشتغل في الدنيا والآخرة ,صباحا أتحول الى فقيه ,وحفار قبور ,وليلا أنزع الجلباب الأبيض .

قهقه الشاب وبنبرة مشحونة بالقهر والحرمان قال لي :

-الله أكبر ,أريد أن أضاجع آخر امرأة دفنتها ولتكن مكتنزة وبيضاء .

أما العجوز فظهر بريق في عينيه ورد وهو يعدل أسماله البالية :

-لاأريدها ,تتكابر علي ابنة الكلبة في الحياة ,فليأكل الدود جسدها الملعون .

ظل الشاب مصرا ولم أنج من نزواته الميتة الا بقولي :

-آخر امرأة كانت عجوزا مثل المسمار .

يتحول العجوز الى درويش وهو يكركر بضحكات عالية مدوية :

-اسكتوا ,انكم تحاصرونني وتمنعونني من السباحة في كواكب أخرى .كنت على وشك أن أقبظ على القمقم ,وآت لكم من هناك بالدخان السحري العجيب ,طزعلى الدنيا …..

ينحني الشاب على العجوز ويقبله بتؤدة ورقة :

-تسبقني الى الكلمات ,طز على هذه الدنيا ,طز طز …..

لم تحضرني أية سورة قرآنية في هذا الموقف وأحسست بالذنب لأنني لم أرجع الطمأنينة الى القلوب ,ولم أرجعها حتى الى قلبي ,فأخذت الطبل ورميت بالجميع في طقس الجذبة

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

تعليق واحد

  1. الشاعر والروائي/ محسن عبد المعطي محمد عبد ربه..شاعر العالم

    أريد أن أضاجع آخر امرأة دفنتها ولتكن مكتنزة وبيضاء
    الله!!!!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!