الفطر / بقلم : هدى الشماشي ( المغرب )

 

عزيزتي أسماء،

أنا لا أجد ما أقوله لك، ولهذا بالضبط أكتب هذه الرسالة. إن الوقت ينفذ، وحين تقرئين هذه الرسالة سأكون قد غادرت.أجل يا روحي، إن الطائر سيحلق.

لا تفتحي فمك الآن فلا شيء يدعو للدهشة. أبي يقضي ليلة أخرى خارج البيت، وأمي نائمة، وأختي ميتة منذ أعوام كما تعلمين. لماذا أذكرها؟ أنا لا أدري.

أمي قالت لأبي البارحة: الفتاة ستضيع.

وهذه كلمة كبيرة ولكن لا بأس بتصديقها. نظرت للجدار أمامي وبصقت عليه. من كان في خيالي؟ أنا أدري ولكنني لن أخبرك. تنحنح والدي وأجابها: إذا كُتب لها ذلك.

إن الله يكتب، وأنت أيضا تكتبين، أشعار رديئة لحد ما، وأحيانا تخرجين منها بجملة جيدة: ينبت الفطر في قلبي. إن خيالك يعمل بشكل جميل أحيانا، وإلا من أين لك بهذا الفطر؟

أشياء قديمة في العقل والقلب، وأنا لا أقول أنها ندوب ولا جراح، وعلى العكس من ذلك يمكن أن تكون فطرا. فطر سام وبشع.

عزيزتي أسماء،

أنت تعرفين الحقيقة. كان لا بد لي أن أرحل. لقد فتح ملف الرحيل في عقلي منذ وقت طويل أصلا، ولكنني كنت أماطله.

البارحة اتصلت بالرجل الذي تعلمين وسألته مباشرة: هل آتي غدا؟

كان الوقت متأخرا جدا، وهو ينام باكرا كمعلم مدرسة. بصق على الجهة الأخرى من الخط، وسب حظه، ثم أجابني: تعالي، أما الآن فنامي.

إن هذا لا يعني أنه يهتم لصحتي طبعا، فهو يريد أن أدعه بسلام فقط. وضعت السماعة. يا إلهي لو كان لي أن أقول هذا: وضعت السماعة، ولكننا لا نملك إلا هواتف محمولة الآن، ولا سماعات لنضعها في أي مكان.

حسنا، لا تبكي.

إن البكاء خطيئة تقريبا. تسير الأمور على النحو الذي تريده هي وأنت تنشغل بتعذيب عينيك. سخافات، أما أنا فأفضل الآن أن أجمع أغراضي، وأن أقوم بتنظيف أسناني، فلا أحد يعرف ما سيلاقيه، وبانتظار ذلك على المرء أن يبقى نظيفا.

أختي كانت نظيفة جدا يومها، ورجاء لا تلوميني على حشرها هكذا في أي موضوع، ولكنها كانت نظيفة حقا. رائحة صابون معطر كانت تفوح في الجو، وأبي كاد يجن، وأمي بكت فقط، عودة للدموع السخيفة.

أنا الآن أحمل عبوة صابون معطر أيضا، وثيابا للنوم، ومحفظة النقود الفارغة تقريبا. قال لي الرجل: سأستقبلك بالمحطة.

إنه لا يقول جملا زائدة أو ناقصة، كما أنه لم يشجعني أو يحذرني، والآن إذا ساءت الأمور فيما بعد لن يكون بوسعي حتى أن أدعو عليه، لقد خطوت إلى كل هذا بنفسي.

عزيزتي أسماء،

أنا لا أحاول أن أبدو بطلة أو شيئا من هذا القبيل، فأنا أهرب في الحقيقة. أنا أترك كل شيء على حاله وأفر، وطبعا أنا لا أفكر حتى بما سيحصل للآخرين. قالت أمي: ستضيع البنت، حسنا، لقد ضعت.

وهم طبعا سيبحثون عني، وأنا قد ضللتهم بورقة صغيرة أذكر فيها أنني ذاهبة إلى طنجة، وهم سيصدقونها، وسيذهب أبي صامتا متجهما، وستنتظره أمي في البيت، وسوف تقول أدعيتها الطويلة.

إن الله طبعا يعرف الحقيقة، ولذلك لن يتسامح مع دعواتها كثيرا، أو أنه لن يهتم. هذه أمور لا أعرف عنها أنا شيئا، ولكن في حال بقيت هنا، فأنا أعرف النهاية.

بتفاصيل أقل أو أكثر، سوف أنتهي كأختي. إنني أتحول إلى نسخة عنها أساسا وهذا أمر مرعب. ثمة إمكانية أن الله قد قرر أن يخلق منا نسختين، واحدة تموت، والأخرى تكبر متحولة إليها قبل أن تموت أيضا.

حسنا لنتدخل في هذه الأقدار قليلا، إنني أوقف موتي.

عزيزتي أسماء،

إنني أتحدث كبطلة تراجيدية كما ترين، ولكن الأمر كله يدور حول الفطر في قلبي. لقد انتحرت أختي، وهذا ما يعلمه الجميع. لقد وقفت على حافة الشرفة وألقت بنفسها للموت.

طبعا، قيل أنها حادثة. تخرج فتاة للشرفة ليلا ثم تنزلق وتسقط، ولكننا لن نصدق هذه الأمور أنا وأنت على الأقل. لقد قتلت نفسها.

أما التفاصيل فيمكن أن تجعل المرء يبتسم. غسلت جسدها بصابون معطر، وارتدت أفضل بيجامة ممكنة، ومشطت شعرها، لقد كانت فتاة حالمة.

نسيت أن أخبرك أمرا آخر. البارحة ليلا حين لم أضع السماعة، أعني حين أغلقت الهاتف، نمت وحلمت بها. إن الأحلام أكثر سخافة من الواقع بكثير. نظرت إلي بمرح وسألتني: هل تحبين أن أهديك قطة بيضاء بحجم الأصبع.

وحين لم أجبها فتحت كفي، ووضعت داخلها قطعة من القطن. قلت لها: ولكنه قطن يا أختي.

فأجابتني ببساطة: وما ضرك لو تعتبرينها قطة!

إن هذا الحلم يعني لي شيئا كبيرا تقريبا مع أنني لا أفهمه، أما هي فقد كانت خلال حياتها قطعة قطن، وألفت الأشعار، وهي أفضل من أشعارك كما تعرفين، وانكمشت على نفسها أكثر وأكثر، وكتبت على دفاترها: إنني أنطفئ.

عزيزتي أسماء، إنني أنطفئ.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!