انت هنا للابد / بقلم : الدكتورة بلقيس بابو ( المغرب )

أيقظتَني ذاك الصباح ، مددتَ لي كأس شاي بالنعناع، وضعت على الطاولة صحناً به قطع الخبز المحمص وقد وضعت عليه قليلا من الجبن الأبيض وبعضا من مربى التوت، قائلا ” أسرعي…لا تتأخري….”
أرتدي ملابسي بسرعة، أصفف شعري و أراقب حقيبتي كي لا أنسى شيأً؛ بينما تعِدُّ لي وجبة خفيفة آخذها معي و اتناولها عند استراحة الغذاء.
تشير الساعة الى السابعة صباحا ، تضع معطفك وقبعتك الصوفية.
تركنا البيت معا و سرنا جنبا الى جنب في اتجاه محطة الحافلة التي تقِّلني الى الجامعة.. دسست في يدي بعض الدراهم..”إن احتجتِ لشيء……” تنطلق حافلتي، التصق بالنافذة محاولة مسح الضباب المتكون عليها من أنفاسي لشدة البرد ، أراك مازلت واقفا تراقبني وأنا ابتعد ، أشعر بقليل من الذنب و بعض من الخجل، فقد جعلتك تنهض باكرا ثم ثم ترافقني في هذا الفصل البارد..لكني أحتاجك، أحتاج حمايتك فالوقت مبكر والدروب خالية…
تعبر بنا الحافلة الأزقة والشوارع، صورتك و نظرتك مازالت عالقة بذهني ..تأخذني إلى ذكرى السنوات الماضية، كم سهرنا فيها معاً ، نتابع برنامجا تلفزيا ، نشاهد أفلاما أو نسمع بعض الأغاني الخالدة … أذكر أني كنت أسألك معاني كلمات لا أفهمها، مرة سألتك عما تقصد المغنية فأخبرتَني أنها تغني فقْدَ شيءٍ غالٍ…اغرورقت عينيَّ من التأثر ، أذكر ضحكتك حينها ….” لا عليك عزيزتي انها مجرد أغنية…”
أسترسل في أسئلتي الكثيرة، و الساذجة ،
لا أدري كيف كنت تتحمَّل ثرثرتي؛ تارة تجيبني وتارة تخبرني مبتسما أني سأفهم لاحقاً….
-ألا تنامين؟؟ تسألني كلّ مرة…
-لا، أريد أن أبقى معك…
تتقدّم بي الحافلة و في مسامعي صوتك و أنت تقرأ قصيدتك الجديدة أو تقرأ لي فصول مسرحية مدرسية قد ألَّفتَها حديثا..جعلتني أعشق الكلمة…ذكرياتي معك لاتنتهي و لا تنسى أبدا…
أصل إلى جامعتي.. ينتظرني يوم طويل..آخذ مقعدي على المدرج، أرتعد من برودة المكان، هناك من ينفخ في يديه ليدفئهما، منّا من لا يزال النُّعاس يداعب جفنيه، ألملم أفكاري وأجمع شتات الذكريات ، لا وقت للنوم الآن ولا مجال للشرود، فأنا لست هنا إلا لأعمل وأنجح ، لا يمكن أن أكون إلا ما أردتني أن أكون عليه..لا يمكنني أن أخذِلك … مضت أعوام كثيرة ، لم أعد أستقِّل نفس الحافلة… ولا أعبر نفس الشوارع ، تغيرت أشياء كثيرة .. -منذ أيام أحس ببعض المغص ، أيمكنكِ أن ترافقيني لعيادة الطبيب؟ ..
أُجيب قلقةً، و الشكوك تنخرني…
-أكيد، أحدِّد موعداً و نذهب سوية.. يأخذني الطبيب على انفراد و يخبرني:
لم تعد أمامه إلا أشهر معدودة، الأمل ضعيف…
رحلتَ دون سابق إنذار ، دون كلمة وداع ، رحلتَ فأحرق الحزن عيوني دون دموع و سكن في ذاك الركن من الجانب الأيسر من صدري ألمٌ لا تقتلعه كل المحاولات…
تهب نسائم الشوق إليك كل ليلة…
تُتْعبني ذكرى اللحظات الجميلة معًا…أفتقدك بشدَّة رغم أيامي المزدحمة، أتوق لأحاديثنا، لسهرنا سوّيًا، تمنيت لوكنت هنا كيْ تشاركَني كل أمر مفْرِح يحصل لي، أحتاج نصحك الذي طالما أنار طريقي..و دفئ يديك وهي تُرَبِتُ على كتفي …. أشتاقك أيها النائم في قبرك، المستيقظ، الخالد في روحي..أشتاق ابتسامتك التي لم تغِب عن شفتيك يوماً.. مرَّت أعوام … و فهمتُ فيما بعد…أدركت أشياء كثيرة..
فهمتُ أنك كنتَ الأمان.. كنتَ الأمل…
صوتك كان حماية و غضبك كان حبّاً وخوفا عليّ.. تعلمت منك أن الحب مفتاح كل الأبواب الموصدة وأن الصدق طوق النجاة وأن الكرامة أقدس ما يمكن أن نحافظ عليه و نحتفظ به…

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!