يوميات رجل متعب/ بقلم : حمزة شيوب

 

كنت أسير بمحاذاة شاطئ الكورنيش بمدينة مرتيل، شاحب الوجه، مكفهر الميزاج، أركل أكوام الرمال، أبقص في الأرض مشتما قدري ولاعنا ساخطا على العالم، جلست لمهلة أسترجع فيها ذكرياتي مع حبيبة طفولتي، سندي وعشقي الأبدي، بها أطرد بؤسي وكآبتي، اعتدتها كما اعتدت طقوس الأيام منذ بدء الخليقة، وألفتها كما ألفت مهرجان القطط النائمة في الشمس النائسة، سبع سنوات قد كملت على أول لقاء جمع بيننا، ومنذ ذلك الحين لم نفترق ولن نفترق..

كنت شاردا في أحلامي، ومتأسفا على حالتي بعد كل هذا الغياب عن حبيبتي، أيقظني من شرودي رنة هاتفي، كان المتصل سائق سيارة أجرة، يقول لي أن الوقت حان لننطلق إلى الريف، آه كم أحب الريف، وكم أكره العودة إليه، الريف كئيب، لن أعود إليه، سأبقى هنا في قح..ة المدائن (مرتيل).

هذه المدينة هي قدري، لا أريد أن أغادرها، خوفا من أن لا أعود إليها يوما، أصبحت أعرف كل شيئ عنها.. عظماءها وعاهراتها شرطتها وقواديها.. وأرضها بحرها وكذلك شواطئها الجميلة التي عاشت عصورا وأحداثا.. وأعرف كل طبوقة رصفت في مبانيها.

عدت لشقتي، قمت بحظر فكرة العودة إلى الريف من دماغي. لم ألبث حتى أغلق الليل ستاره، وحزم الصبح حقائبه مستعد ليحل محال الظلام، وأطفئت السروج، وأغلقت الدكاكين،أوى الناس لمضاجعهم،سكون عارم في مدينة مرتيل، جلست في الكوميذور أدخن سيجارة متبقية، أتنفس الصعداء حين أفكر أن النوم سيرفض المجيئ إلي إلا متأخرا،

ُشعرتُ بضيق يحاصرني، أحس بهذا العالم مهترئ، مهترئ جدا، غرفتي غارقة في فوضى، كتبي مندثرة في كل مكان وأخرى راقدة  في الخزانة باحترام، ملابسي كلها تحتاج للغسيل، بدأت اخذ الأشياء وألوحها للجانب الآخر من الغرفة لعلني أجد هنا جورب لم استعمله قبل،  أحتاج لفراق هذه الغرفة لبعض الساعات، أو لأقوم بتسلية صغيرة لأنقذ نفسي من هذا الدخان الزاكم الذي ينبتُ في صدري، الفراغ ينتابني هنا بين هذه الجدران الأربع ، كل شيئ هنا جاف ولزج، حتى الهواء الذي يدخلها من تحت فتحة الباب، أكبر ما قد يصيب الإنسان هو شعوره بالإغتراب في منزله ودواره وحيه،   في بعض الاحيان تراودني رغبة في عض الجدران بأسناني أو حكها بأظافري حتى أتخلص منها، لا أدري لما يحاصرني هذا الكم الهائل من الفراغ والألم، أليس في الدنيا غير الألم؟  .

سألتُ نفسي، وركلتُ كتابا بقدمي أتعبني في قراءته، لحتُ نفسي في أحضان رصيف شاسع يمتلئ بشجرات زرعتها دار البلدية قبل عشرون سنة، أتمشى متمايلا من أثر السكر في ليلة البارحة،كورقة شجرة ناشفة طردتها أمها في الخريف، اصطدمت بطفل مُدْلَهِم، ملابسه رثة، ينتعل فردة حذاء واحدة، يبدو على وجهه أثر الجوع والتعب، يذرف دموع صامتة لا يقوى على الحديث، اكتفى بمد يده، عيناه تفسران كلّ شيئ وتقولان ما يعجز اللسان عن قوله، قسمتُ ما تبقى لي من الدراهم وأمدته بنصفها وتركتُ النصف الأخر لي، أحس بشعور الطفل عشتُ نفس ظروفه  تركتُ منزلنا في سن الثاني عشر، استأجرتُ شقة تشبه فم عجوز تساقطت كلّ أسنانه ، ذُقتُ مرارة الجوع ، ومرارة البرد في ليالي الشتاء الباردة ، أنام على حصير مهترئ أوسد وِسادة عُمِّرت بخرقات قماش ، وبطانية مزقتها الفئران ، أكلتُ من القمامة ، سرقتُ الدجاج من أكواخ الفلاحين، اقتلعتُ البطاطا من المزارع ، جمعتُ الخبز الناشف من خلف أبواب المنازل الفاخرة لأقليه في الزيت ، تاركا ورائي عائلتي ومنزلي وكل شيئ، في كل ليلة كنت أذرف فيها دموع الحسرة  والندم، وأتذكر ذكرياتي مع أمّي إذا كانت الشمس أوَت إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفئت السُّرُج، وهدأت الأصوات، تأخذني وتَعْدُو بي إلى زاوية في حجرة صغيرة، فتنومني على حصير قد بُسِط عليه لِحاف، وتلقِي عليَّ لِحافًا آخر ، فتعود أمي مسرعة لتأخذ إخوتي الآخرين الذين غلبهم النعاس في فناء المنزل ، وتضع كل واحد منهم في مكانه داخل الحجرة الصغيرة التي تجمعنا جميعا. كنت أستيقظ مبكراً مع تجاوب الدِّيَكة وتصايح الدجاج، فأبقى متكئا حتى أسمع أزِيز المِرجَل يغلي على النار، فأقوم لأغسل وجهي لأستعدّ للفطور، تركتُ كل شيئ ورائي بما فيها أمي واتجهتُ نحوى بلدة بعيدة لأعيش هناك وحدي من أجل الدراسة وأصير معلما كما يقول لي أبي،

الطفل الصغير الذي التقيتُ به غاب عن أنظاري، وأنا غرقتُ في استرجاع ذكريات طفولتي المغتصبة، حيث كان الزمن يدقُّ دقَّاته ويمضي، وكنت أنـا الـصّبـيّ المتشرد الخادم النّـائم على الدرج، أستيقظ في كل صباح باكرا لأذهب للدراسة،رغم التعب الذي كان يحاصرني من قلة الغذاء، لكي أصير يوما معلما، كنتُ أستعجل الزمن وأقول له امضِ، وها قد مضى، كبرت صرت رجلا وما زلت أنام على الدرج وأصحو صباحا أبحثُ عن ما أشبع به جوعي، لم أصر معلما كما كان يقول أبي، ولا جنديا كما لقبوني رفاقي حين كنتُ أتعارك مع أحدهم، فقط نكرة، نكرة يتمشى في شوارع مرتيل ليس له واجهة ولا هدف،

استمررتُ في المشي بمحاذاة شجيرات الرصيف حتى وصلتُ لمقهى” coin dore” جلستُ في الشرفة المطلة على الشارع العام، صفقتُ للجرسون :

ــ الشاي, الشاي بالنعناع من فضلك،

شربتُ بإرهاق ثم دخنتُ سيجارة كانت هي المتبقية في علبة سجائري فانصرفت عائدا لغرفتي، علي أن أتزوج، ما أحوجني إلى امرأة أشارك معها بؤسي لأسبوع ثم أطلقها، طلبتُ ذلك من صديقتي مرارا فرفضت عرضي واتهمتني بالحمق، أه كم أحبك يا مريم، أشتهيك خمس مرات في الدقيقة، رأسي ثقيل كالرصاص، كأن لي كسر في الجمجمة إني غارق في كآبة هذا العالم، أنا أطلب منكِ فقط سبعة أيام نكون فيها معا ثم تتحرين منّي، لن أقيدك طِيلة حياتك كما يفعلون جُلّ الرجال، سبعة أيام وينتهي كل شيئ، ستعودين أنتِ لعالمك المليئ بالمناسبات الليلية، وأعود أنا لحياتي التي رفضت أن تتصالح معي،

أرسلتُ هذا لمريم في رسالة نصية، لم تُكلِّف نفسها لكتابة رد على رسالتي، اكتفت بحظري من حسابها، وجعلتني أفقد أملي في الزواج بصورة نهائية.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!