الذات وحضور الذات الأخرى في نصّ الشاعرة الفلسطينية: رحمة عناب(( سرمدية الزيتون تنعش القناديل )) .

 

بقلم : كريم عبدالله .. بغداد – العراق 

يقول ميشيل فوكو : ( مشكلتي أن أصنع ذاتي وأن أستدعي الاخرين الى أن يقوموا معي … )) .

منذ إرتكاب الخطيئة الأولى وافتراق ( آدم وحواء ) بعدما طُردا من الفردوس وهما في بحث دائم مستمر على بعضهما ليكمّلا وجودهما على الأرض , فكلاهما يبقى (- سالباً ) وبحاجة ماسّة الى الآخر ليتمّ التعادل يتوحّدا في هيئة واحدة وتصبح النتيجة ( + موجبة ) بحضور الأنسان , ويحاول ان كل يثبت حضوره من خلال الاخر. ويمارس الأنسان من عن طريق ممارسته للفنون والاداب ان يثبت وجوده في هذا العالم , ففي الكتابة وبالخصوص الشعر ستحاول الذات البوح وتحقيق وجودها . وانّ كتابة قصيدة سردية تعبيرية من الصعوبة تحقيق غاياتها وجماليتها وهندستها ما لم تمتلك هذه الذات المعرفة العميقة بطريقة كتابتها والوفاء لها والأمتثال لشروطها . من خلال متابعتنا لكتابات الشاعرة : رحمة عناب نتلمس الموهبة المتقدة والفطرة المشبعة بالمعرفة , وكأنّي بها حين ممارستها للكتابة ‘ أنّ المفردات تتراكض أمامها بينما هي تلتقط أنصعها إشراقاً فتغمسها في بئر كينونتها لتحمّلها كلّ مواجع الروح والهيام , وتعلّقها على شغاف القلب تتلمظ نبضاته لا تعرف الهدوء والسكينة تتعايش معها بسلام , لن تخذلها هذه المفردات ولم تتخلَّ عنها , تنام الى جنبها مطمئنة لغوايتها المتجدّدة تمنحها قيادتها , تُسرع بها في الزمان المطلق بلا حدود , فضاؤها مكان شاسع العجائب , لن تعتريها شيخوخة او كهولة , كالنهر تؤمن بديمومة التغيير , لا تتعكّز على المباشرة ولا على الخيال المبالغ فيه , تحاول دائما أن تبذل جهدها في جعل الشعر الكثير ينبعث من خلال النثر الكثير , وتكون نصوصها مشحونة بالعاطفة والمشاعر القويّة والوجدانية النقيّة . واليوم سنتناول قراءة نصّها المعنون : (سرمدية الزيتون تنعش القناديل ) ونحاول السياحة تحت قناديلها المتوهّجة . يبقى دائما العنوان هو الباب الرئيسي والذي من خلاله نستطيع الدخول الى عالم الشاعر , فهو مهم جدا كونه يلخّص ما يريده الشاعر وكانّه يختزل النصّ في العنوان . فالعنوان هنا فيه من الدلالات والإيحاء ما يجعل المتلقي يتساءل عمّا أرادت الشاعرة ان تقوله من خلال عنوانها هذا . للوهلة الاولى نجد التناص القرآني حاضرا من خلال مفردة ( الزيتون / القناديل – في الآية المباركة .. زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء .. ) , وكانّ لا وجود للذات الاخرى – القناديل الاّ بوجود الذات الشاعرة – زيتونة , وهذا يعني بأنّ الذات الشاعرة لا وجود لها الاّ اذا تجلّى حضورها وآثارها في الذات الاخرى , وقد يوحي لنا ايضا تداخل الأزمنة فيما بينها من خلال مفردة / سرمديّة – الزمن المطلق مع الزمن الآنيّ من خلال مفردة الفعل / تُنعش – الفعل المضارع , في حالة من التماهي والتوحّد وكأنّ لا زمن الاّ بوجود الزمن الاخر , وقد يوحي لنا العنوان ايضا من خلال مفردة / الزيتون – وتعني الحياة والنمو والحركة , ومفردة / القناديل – التي تعني – الموت والانطفاء والظلام , وكذلك نلاحظ القصدية في تقديم الزمن المطلق وطغيانه على الزمن الحالي , وكأن الشاعرة ارادت ان تقول لنا بأنّ المرأة هي أصل الحياة فلا حياة الا من خلالها , فهو الوجود المستمر النابض بالحيوية والديمومة . انّ الذات الشاعرة هنا استطاعت ان تحلّق في مديات بعيدة وان تتحرر من قيود الزمان والمكان في هذا بوح أقصى تجّلت فيه مقدرتها على صياغة لغة خاصة بها , وان تعبّر عن ذاتيتها أصدق تعبير كون لغتها هذه هي الملاذ الذي تلوذ به من واقع تحاول الخروج من دائرته والانفلات بعيدا . يبدأ النصّ بهذا السؤال التعجبي المقلق .. / الى متى سيبقى الليل حالما بالاحلام .. ! / .. لو تساءلنا مع انفسنا عن معنى هذا المقطع وحاولنا قراءته بطريقة اخرى , فقد يوحي لنا عن حالة الأحتياج والأنتظار والترقب واللهفة عند الذات الآخرى , حيث ترمز مفردة / الليل – المذكر – الى الذات الأخرى كما قلنا المقيّدة بسلاسل الظلام وقيود الواقع وقسوة الحياة , بينما ترمز مفردة / الأحلام – المؤنثة – الى الذات الشاعرة بكل ما تعني من الرقّة والعذوبة والشفافية والجمال والأنوثة , لقد أرادت الذات الشاعرة ان تشكي حال الذات الآخرى وتتساءل / الى متى / وكيف / ستبقى تدور في فلك الظلام تبحث عن النور والحياة بلغة تتجلّى فيها الصوفية من خلال مفردتي / الليل / الحلم / وهما من الأوقات المحببة لدى الصوفية .  في هذا المقطع الطويل .. على هدبنا يتهجد السهد نبحث عن ظلّينا شريدَين على المرايا الحائرة كريشتين ببطء تصعدان  تذوبان في ريح هائجة توأمان انجبتهما خرافة اللقاءات  نجوس المواقيت على صهوة التمني الاغرّ ../ .. نجد بوضوح حالة التوحّد والتماهي ما بين الذات الشاعرة والذات الأخرى عن طريق الضمائر المتصلة والذي يوحي لنا عمق الأنصهار فيما بينهما الى حدّ الظهور والتجلّي كـ ذات واحدة لا فكاك ولا خلاص فيما بينهما ../ هدبنا /  نبحث / ظلّينا / شريدَين / كريشتين / تصعدان  / تذوبان / توأمان / انجبتهما / نجوس / .. في حالة من الأحتماء والاطمئنان والسكينة , بينما نجد في هذا المقطع ../ خارق يغوص افاقي المبجلة يقرضني هياماً يتمايل فيه الازل ينقر تخوم الغياب العطشى يفتت ليلاً أبكما شاخت فيه العتمة  يزدلفني الى مساءات يعجّها الضوء ../ .. انّ الذات الشاعرة قد تحررت من الذات الأخرى وعادة منفردة كما الذات الأخرى  عن طريق استخدام الضمائر في المفردات / خارق / يغوص / افاقي / يقرضني / يتمايل / ينقر / يفتت /   يزدلفني ../ .. وهذا كلّه يعطينا مساحة من التأويل والتأمّل وقراءة الذوات وكيفية التحرك ضمن هذا النسيج الشعري الثرّ . ونجد في هذا المقطع .. / اتوهج كلما سالت بهجتك في صباحاتي اراكَ فجراً يعانق الشمس على حافة الكون كقنديلٍ ذاوٍ انعشه زيت لاهب تعابثني اطياف مداراتك الشقية ازرعها يقينا صارماً في مواثيقنا القدسيّة  سادرة تنبت في غناء اليمام يحمل ارتال محبة احنت كاهل الانتظار العارم ../ .. هذا الزخم الشعوري العنيف والعذب وهذه اللغة الصوفية المشرقة وانزياحات لغوية عجيبة تتدفق من خلالها رقيقة خصبة رهيفة عميقة . وكذلك يرتفع عاليا في هذا المقطع صوت الذات الشاعرة ويتجلّى بوضوح من خلال مفردات / أتوهج / صباحاتي / أراك / تعابثني / أزرعها / .. وتختتم الشاعرة نصّها المثير بهذه الاثارة واللغة العالية والبوح العميق في محاولة منها لتحفيز المتلقي وإشغال ذهنه بهذه اللغة اللامألوفة والمنفتحة على مديات واسعة في لوحة باهرة الصور وتدفق شعري مستمر وتماهي وذوبان في الذات الاخرى .. / كزيتونة انهكها الحمل انتَ … خرافة الاساطير  حقيقة من ثقب الوهم انبعثت كلما توضأت بصوتك انهمرت اغنية شوق اسطرها ملحمة ازلية تعال نغنيها اغنية سرمدية الذهول تعانق اقمار الكون تحطم متاريس الغربة الشائكة فـ مَن ذا الذي يرجم أوار البعد الآثم؟ !!!!!!../ .. فمثلا هذا المقطع يمكننا قراءته بأكثر من طريقة , مثلا / كزيتونة انهكها الحمل انتَ – كزيتونة / انا – الذات الشاعرة – أنهكها الحمل أنت – الذات الأخرى / او هكذا أنت – الذات الأخرى و … / خرافة الاساطير  حقيقة / انا – الذات الشاعرة , عن طريق لعبة لغوية تحاول من خلالها إستفزاز المتلقي واثارة أكثر من سؤال لديه , وينفتح في قراءته مع النصّ .وحاولت ان تستخدم التضاد اللغوي سواء على مستوى المفردات مثل / العتمة – الضوء / خرافة – حقيقة / , او على مستوى الجمل مثل / على هدبنا يتهجد السهد – تصعدان  تذوبان في ريح هائجة / وغيرها لمقدرة هذا التضاد على الكشف عن حركية تموج بها المعاني داخل النسيج الشعري لأنه يشيع في مفاصل النصّ حركة دائبة بيت هذه العناصر المتضادة .

انّ الذات الشاعرة في هذا النصّ رغم قربها الشديد من الذات الأخرى وتماهيها وانصهارها معها الا انه دائمة البحث عنها كونها تخشى منم قسوة الفشل وخيبة المرارة وألم الاخفاق , فحاولت ان تحتمي بلغتها هذه مترجمة بذلك عن تجربة روحية عميقة بحثا عن اليقين وهروبا من عالمها الى عالم حاولت من خلاله ان تجد نفسها وتصور لنا هواجسها ودواخلها الروحية , انها لغة الحيرة البهيّة المهذّبة عن النفايات والزوائد اللغوية التي تقتل النصّ وترهّله , لقد جاءت اللغة حيّة تنبض بالدفء والوجد والهيام . بينما جاءت الصور الشعرية فذا النصّ تتناوب ما بين الصور الشعرية المفردة والصور الشعرية المركبة والصور الشعرية الكلّية .

فهل استطاعت الذات الشاعرة من خلال النصّ التوحّد مع الذات الأخرى في صراخها الصامت هذا ..؟! . وهل استطاعت أن تقول كلّما أرادت قوله في هذا النصّ ..؟؟! . وهل وجدت نفسها في وجود الذات الأخرى ..؟ !! . وهل استطاعت لغة النصّ هنا أن تجسّد لغة العشق المقدّس والأبتعاد عن لغة الهذيان بحكمة ووقار ..؟ ! . أسئلة سيكتشفها المتلقي المبدع اذا ماامتلك ذائقة ابداعية نقيّة وحسّاً مرهفاً بوجود الجمال وقلباً يتسامى باحثاً عن لغة تخترق المعتاد وتُبشّر بلغة جديدة .

وسنبقى نردد مع الذات الشاعرة هذا المقطع ../ أتوهج كلما سالت بهجتك في صباحاتي اراكَ فجراً يعانق الشمس على حافة الكون ../ .. لنتلمس سرّ وعظمة اللغة في السرديّة التعبيرية وفتونها وفتوّتها وجماليتها ورساليتها..

 

النصّ :

سرمدية الزيتون تنعش القناديل

الى متى سيبقى الليل حالما بالاحلام !على هدبنا يتهجد السهد نبحث عن ظلّينا شريدَين على المرايا الحائرة كريشتين ببطء تصعدان  تذوبان في ريح هائجة توأمان انجبتهما خرافة اللقاءات  نجوس المواقيت على صهوة التمني الاغرّ خارق يغوص افاقي المبجلة يقرضني هياماً يتمايل فيه الازلينقر تخوم الغياب العطشى يفتت ليلاً أبكما شاخت فيه العتمة  يزدلفني الى مساءات يعجّها الضوء  اتوهج كلما سالت بهجتك في صباحاتي اراكَ فجراً يعانق الشمس على حافة الكون كقنديلٍ ذاوٍ انعشه زيت لاهب تعابثني اطياف مداراتك الشقية ازرعها يقينا صارماً في مواثيقنا السرمديّة  سادرة تنبت في غناء اليمام يحمل ارتال محبة احنت كاهل الانتظار العارم كزيتونة انهكها الحمل انتَ … خرافة الاساطير  حقيقة من ثقب الوهم انبعثت كلما توضأت بصوتك انهمرت اغنية شوق اسطرها ملحمة ازلية تعال نغنيها اغنية سرمدية الذهول تعانق اقمار الكون تحطم متاريس الغربة الشائكة فـ مَن ذا الذي يرجم أوار البعد الآثم؟ !!!!!!

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!