المطران جورج خضر، حضور من نور /بقلم :مادونا عسكر/ لبنان

 

 

 

“الموهوب عقليّاً يحبّ أن يقول الكلمة. هذا ليس خياره. هذاما صنعه الله فيه.”

 

وأنت تطالع كتابات نيافة المطران جورج خضر تحضر أمامك رسوليّته الكتابيّة وأمانته في تحقيق الهدف الأساس المرتبط جذريّاً بتجسيد المحبّة الإلهيّة من خلال تبليغها. “أنا المؤمن أكتب لأنّ الله فوّض إليّ ذلك، لأنّه يكلّم كلّ النّاس ببعض من النّاس. أنا لا أستطيع أن أحتفظ لنفسي بما أخذته منه. “بلّغ، أنّك مبلّغ”. فالوحي للنّاس والرّسول رسول إليهم. أنت كلمة الله تحضنها وتعطيها. وما استودع رسول كلمة لنفسه.” إنّ عظمة المطران جورج خضر تكمن في عبارته (أنا المؤمن). هذه العبارة تمزج ضمناً الإيمان كعلاقة حبّ مع الله والعقل المستنير ليكوّنا معاً الإنسان الكامل في الله، أي الّذي على صورته ومثاله. كما أنّ عبارة (أنا المؤمن) تعبّر عن الثّقة الحيّة في العلاقة الحميمة مع الرّبّ، والوثوق في المهمّة الرّسوليّة وعمق المسؤوليّة الملقاة على عاتق  المطران جورج خضر  كمبلّغ فاعل ليس في الرّعيّة وحسب، بل في الوجود كلّه. (أكتب لأنّ الله فوّض إليّ ذلك). والكتابة في معناها العميق مهمّة رسوليّة تنطلق من الفكر الإلهيّ لتمتدّ إلى الأرض كلّها. في شخصنا الحقيقيّ العميق تكمن موهبة الكتابة، فنصوغ الكلمات على وقع صدى صوت الله. فالله يقول فينا كلّ ما يريد، ويعكس من خلالنا جماله الأزليّ الأبديّ. يكتب المطران جورج خضر فيحقّق صوت الله في العالم ويعكس نوره ويبلّغ بأمانة هذا الفكر المرتبط بكلّ تفصيل من حياتنا.

 

“الإلهيّون لا يكتبون من أنفسهم ولكن ممّا استلموا ويعرفون بوضوح الفارق بين الّذي نزل عليهم من فوق والكلام الّذي من الدّنيا. وإذا قبض عليهم الإلهام يضّطرون إلى الكلام وإلّا أحسّوا بالموت.” في هذا الكلام يكمن المفهوم الخاصّ للشعر. فسيّدنا خضر يجسّد ما قاله القدّيس بورفيريوس الرّائي: “من يريد أن يصبح مسيحيّاً، عليه أوّلاً أن يصير شاعراً، أن يتألّم. أن يحبّ ويتألّم، يتألّم من أجل من يحبّ.” وهنا يعطي المطران خضر تعريفاً للانفصال عن الحبّ الإلهيّ في حال عدم نقله. بمعنى آخر، يصغي الكاتب إلى صوت الله العميق في داخله، ويشعر بالموت إذا تمنّع عن نقله لسبب أو لآخر. فالموت بحسب قول المطران خضر هو عدم نقل الكلمة الإلهيّة كما تلقّاها. وبقول آخر يبرز العمق الصّوفيّ عند المطران خضر حيث يقول: الله لم يكلّمنا فقط بالكتب المقدّسة. فكثيراًما يكلّمنا بالصّادقين وبالأبرار. فتتّسعدائرة الإصغاء إلى الله وبالتّالي نقل محبّته الإلهيّة، حتّى لا يحتكر أحد عمق الكلمة وقوّتها.الحقيقة أنّ الرّب لم يكلّمنا فقط بالكتب الموحاة. هو يكلّمنا أيضاً بالنّاس المقدّسين بما قالوا أو بماسلكوا. هذاما يسميه المسيحيّون شركة القدّيسين . عندنا من لم يقرأ الكتاب الإلهي مرّة لأنّهأمّيّ. له أن يصل إلى معرفة الرّب في القلب. الله ليس مقيّداً بكتاب. من خلال هذا القول تتبيّنلنا الحرّيّة الّتي بلغه اقدسه الّتي تعتمدعلى معرفة القلب الأرفع من معرفة العقل. فالعقل يعرف بحدود وأمّا القلب المنفتح على الله يعرف بالله ، ويبلغ المعرفة بالقلب ، بالحبّ.

في كتابات المطران خضر تجتمع عناصر الشّعر الثّلاثة: الحبّ، والألم، والوحي. وليس الحديث عن نظم شعريّ وإنّما عن إدراك أنّ الشّعر هو صوت الله، والجمال الّذي يتفجّر من علوّ وينسكب على العالم. الشّعر الّذي يفهمه الصّمت والحبّ والإيمان. والشّاعر الحقيقيّ هو ذلك الّذي أدرك أنّه يُكتَبُ ولا يَكتب، والمطران خضر المنغمس بصوت الله يقبض عليه الإلهام فينقل فكر المسيح المتّحد بفكره. فنشعر ونثق بأنّه على مثال بولس الرّسول يحمل في ذاته فكر المسيح ويهتمّ بما فوق. “قل حقيقة الله الّتي فيك وامشِ. من تكون لتهتمّ بكونك مبدعاً أم غير مبدع؟ من يحكم في نفسه؟ اطرح كتابتك على ورق وامش. يفهم من يفهم ويحبّ من يحبّ وأنت تنطوي في رحمة الله. الله لا تهمّه الكتابة الجميلة. يهمّه خلاص الكاتب. ويبقى الأثر المكتوب رحمة من الله.”. ولئن اجتمع الحبّ والألم والوحي في كتابات سيّدنا خضر، وجدنا ما يقوّم فكرنا ومنهج حياتنا وينمّي إيماننا. فنحن أمام كاتب ينفذ إلى كيان القارئ بهدف تسريب النّور إلى عمق أعماقه، لا بهدف الاستعراض الكتابيّ أو الخضوع لأضواء الشّهرة الفارغة. نحن أمام أسقف يحضر فتحضر الكنيسة برسوليّتها ووهجها النّورانيّ الّذي يضمّ منطق السّماء وواقعيّتها. ويترفّق بالواقع الإنسانيّ ليحوّله إلى الله.

 

يكتب المطران خضر الحبّ كحقيقة واضحة تنطلق من حقيقة الحضور الإلهيّ  فتحرّك القلب ثمّ العقل حتّى يبلغا حالة الاتّحاد، فتكون بشكل متصاعد من العمق إلى الاستنارة العقليّة. فالهدف من الكتابة عند المطران خضر هو امتلاء القارئ بالحبّ. أن تتكتب للآخر ينأي في المحبّة،ليصبح الحبّ كلّ شيء فيهم. الكلمة إن لم تنقل تحرّك قلب ليست شيئاً. ونحن الّذين نعرف وجدانيّة الشّرق لا نفرّق بين العقل والقلب. حسب تعليم المتصوّفين في كنيست يإنّ العقل ينزل إلى القلب ثمّ يصعد إلى ذاته من القلب.” وببلوغ حالة الاتّحاد العقليّ القلبيّ يتمّ التّجريد الكلّيّ و إخلاء الذّات حتّى يمتلئ الإنسان من الحبّ الإلهيّ والحبّ الإلهي ّفقط .  وهذه مهمّة الكاتب المؤمن ، أي الكاتب الممتلئ من الحبّ الإلهيّ الواعي أنّ كلمته تخترق العمق الإنسانيّ لتوجّهه إلى الله. ما علاقة الكاتب بالقارئ ؟ الكاتب المؤمن لاتهمّه هذه العلاقة .  يسعى إلى إقامة صلة بين القارئ وربّه. الكاتب ليس خالقاً. إنّه مترجم . يترجم حسّه بالخالق بكل ام بشريّ. الكاتب المؤمن لايعرف نفسه إلا دليلاً على الله. ليس عنده كلمة . إنّه غارق في كلمة الله تلبسه كماهي تشاء. عندما نقول عن شاعر إنّه مبدع هذا من باب التّجاوز الأدبيّ. أعظم شاعر في الكون ناقل الشّعور الإلهيّ لأنّ الله استعار لغة البشر ليخاطبهم .” ما يعني أنّ الإبداع الحقيقيّ هو الّذي بنيَ بالحبّ ، وليس أيّ حبّ وإنّما بالحبّ الجوهر والحقيقة. وأقصى درجة للإبداع ، وأعظمها هي تلك الّتي توجّه الإنسان إلى جوهره الأصل ، جوهر الحبّ. ولعلّ الذّروة الّتي بلغها المطران خضر هي تلك الّتي تتجلّى في قوله: “أن تتقلّد الخالق إذا فكّرت مثله أي إذا اقتربت منه في عمق كيانك . هذا فوق المستوى الذّهني. هذا اختبار وجدان لأنّ لله قلب ومن القلوب ما كانت شبيهة به .“حين تكتب حبّ اًو تخترق الكلمة قلب القارئ حبّاً ويتوجّه بالحبّ إلى الحبّ ، فلست أنت من يكتب وإنّما الله يكتب.

إنّ في كلمات نيافته مرامٍ كثيرة تحتاج إلى وقفات كي يفكّ القارئ ما يستكنّ في أعصاب لغتها من معانٍ بليغة تشير إلى أنّه يكتب بوهج المحبّة المنبثقة عن الله الحبّ، لتتغلغل في أعماق النّفس فتروي الظّامئ وتشبع الجائع وتنير الدّروب المدلهمّة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!