المنهج النفسي في النقد نظرة سريعة مع تطبيق على كتاب كلمات مبتورة لمحمد صوالحة،

تعريفه: 

تهدف هذه الدراسة إلى قراءة كتاب كلمات مبتورة لمحمد صوالحة قراءة نقدية تستند إلى المنهج النفسي في تفسير الأدب، ويقع هذا الكتاب في 136 صفحة من القطع الصغير يحتوي بين دفتيه على 62 نصا تحت تصنيف الخاطرة.

ولا بد لنا قبل الخوض في دراسة هذا الكتاب من التعريف بالمنهج النفسي في تفسير الأدب بإيجاز، فالمنهج النفسي في تفسير الأدب هـو المنهج الذي يستمد آلياته النـقدية مــن نظــرية التحليل النفـــسي التي أسسها الطبيب النـمساوي فرويد، وفسر على ضوئها السلوك البشــري برده إلى منطقة اللاوعي أو اللاشعور، فهو يرى إن هذه المنطقة هي خزان لمجموعة مــن الرغبات المكـبوتة التي إن لم تشبع بكيفيات مختلفة فقد نحلم بهذه الرغبات في أحلام يقظة أو نوم، وقد نجسدها على شكل مجموعة من الأعمال الإبداعية (شعر، رسم، موسيقى، …) 

مبادئ المنهج النفسي

ويقوم المنهج النفسي على مجموعة من المبادئ أهمها:

– النص الأدبي مرتبط ومحكوم ببنية نفسية متجذرة في اللاوعي الخاص بالمبدع تظهر بشكل رمزي، في حين تعبّر الشخصيات عن الرغبات والأحداث الحقيقية المكبوتة لديه.

مجالات النقد النفسي

يركز المنهج النفسي في دراسته للأعمال الإبداعية على جوانب مختلفة أهمها:  

1-عملية الإبداع الفني: هي تجــربة شعورية تستجيب لمؤثرات نفسية، ويرى فرويد أن العمل الأدبي يمكن النظر إليه من خلال علاقته بأنشطة بشرية ثلاثة: اللعب، التخيل، والحلم. فالإنسان يلعب طفلا ويتخيل مراهقا ويحلم أحلام يقظة أو نوم. وهو في كل هذه الحالات يشكل عالما خاصا به ييهرب فيه من الواقع ويصلحه، متفلتا من الرقابة، مستعينا بالصور الرمزية الظاهرية والباطنية، ولذلك قسم فرويد النفس البشرية إلى مناطق ثلاثة:  

 أ- الأنا: وهو الجانب الظاهــر مــن الشخصية، وهـذا الجانب يتأثر بعالم الواقــع مــن ناحية وبعالــم اللاشعور من ناحية أخرى، وهو يميل أن تكون تصرفاته في حدود المبادئ الخــلقية التي يقــــــرها الواقع.  

ب- الأنا العليا: وهي النقد الأعلى الذي يشعر الأنا بالخطيئة وهذا يعني أن هذه المنطقة تراقب الأنا ولا دخل لها بعملية الإبداع الفني. 

ج- الهو: وهي من أهم الجوانب في حياة الإنسان، وتتصف بكونها فطرية لا شعورية تسعى لتحقيق اللذة عبر الألم والجنس بعيدا عن الجانب الأخلاقي والمنطقي.

 2- النص وسيرة المؤلف

حيث يحاول المنهج النفسي أن يتخذ النص وثيقة تعين على سبر أغوار الكاتب النفسية فيعمد إلى تفسير النص من خلال حياة مؤلفه، واستنباط حياة المؤلف من خلال نصوصه من خلال التقاط ما يمكن من جزئيات السرية الذاتية للمؤلف: طفولته، نشأته، وظروف حياته، ومسودات كتبه واعترافاته، وكل ما من شأنه أن يساعد على تحليل نفسية الكاتب. 

3- النص والمتلقي

 وهنا يعنى المنهج النفسي بدراسة علاقة العمل الأدبي بالجمهور وسبب اهتمامهم وتأثرهم به ومدى استجابتهم نفسيا له. 

عيوب المنهج النفسي في دراسة الأدب

يعاب على المنهج النفسي في دراسة الأدب أنه: يركز على المؤلف والعوامل النفسية المؤثره فيه مهملا النص الأدبي والواقع الاجتماعي للأدب. ويربط في سبيل ذلك بين الإبداع والشذوذ ومساويا بين النصوص الجيدة والرديئة، مما يضيع القيم الفنية والجمالية، مفرطا في التفسير الجنسي للرموز الفنية لأنه يقدم افتراضات لا ترقى إلى مستوى الحقائق من خلال افتراض أن الكاتب محكوم لغرائزه وخاصة الجنسية منها. 

 

كلمات مبتورة في معيار المنهج النفسي 

كلمات مبتورة عبارة عن تنفيس عن بعض التأزمات النفسية والعاطفية التي يمر بها الكاتب ونجد ملامح لهذه الأزمات لدى الإنسان المعاصر بمستويات مختلفة.

إن القارئ المدقق في هذا الكتاب يلمس مجموعة من القضايا التي يجد فيها انعكاسا لروح الكاتب وواقعه، فقد صاغ الكاتب أفكاره بطريقة وصفها هو نفسه بالخواطر، فنفث فيها ما جال في صدره من مواجع وأفكار كانت سوداودية في أغلبها، كأن الكاتب حاول أن يفر إلى الورق ليخفف ما علق بروحه من أوجاع الحياة.

وعند تطبيق أفكار المنهج النفسي في الدراسة الأدبية على هذا الكتاب نجد مجموعة من القضايا البارزة التي تستحق الوقوف عندها والتي يمكن عدّها كمؤشرات لاضطرابات نفسية بمعناها الواسع الفضفاض، ذاك المعنى الذي يحفز على الكتابة ويدفع عجلة الإبداع إلى الأمام.

 

1- كلمة أبت والضمير أنت: والمفارقة أن الكلمتان تتشابهان تماما في الشكل الكتابي باستثناء موقع النقطة في الحرف الثاني، فالنقطة العلوية تجعل هذا الأب مخاطبا ماثلا أمام عيني الكاتب، وربما هذا ما دفع الكاتب للمزاوجة في استخدام الكلمتين والتعبير بكل واحدة منهما عن الأخرى.

لقد استخدم الكاتب هذا الضمير(أنت) بكثافة في أغلب نصوص كتابه، في دلالات تراوحت بين الأب الغائب وهو الأغلب، وبين خطاب النفس وخطاب الأنثى، وخطاب الآخر بنسب قليلة.

أما لفظة (أبت) ومرادفاتها: فقد أكثر الكاتب أيضا من استخدامها متحدثا خلالها عن غياب هذا الأب واصفا مدى تأثير هذا الغياب في شخصيتة وكيف تغيرت نظرته للكون بعده وما نتج عن هذا الغياب من فقدان الأمان والضياغ والتشظي وربما الهروب من المسؤولية.

ويمثل خطاب الأب البنية الأساسية التي قام عليها الكتاب وهي تظهر في أغلب النصوص بشكل أو بآخر، وهذا يعني أن هناك وعيا وقصدية في توجيه النصوص تجاه هذا المعنى، فهل كان الكاتب يعلق هزائمة وانتكاساته على شماعة الأب الغائب، أم أنه تعب من الحياة بعد أن فقد الحماية والأمان، أم هي لحظات من شوق حقيقي يعبر عنها الكاتب بقلمه وبأشواقه.

 يقول واصفا أثر غياب هذا الأب في نفسه: يا أبت لا تختفي، يا أبت تعال، هذا صغيرك يا أبت راح لينتحر، برحيلك ابنك ظلا صار، قسما إني أراه فوق القبر يصلي، ظلم غيابك، حين غبت أغلقت أبواب العمر، صرت أناديك يا أنت لإني إذ ما قلت يا أبت أرهقني الدمع وصارت كل دروبي تيه وعمري بات ضياع. 

وهو يتمنى الموت ليقترب من أبيه يقول: إليك أهاجر وأصير شريك غيابك لأكون جوارك.

ويقارن بين أثر الأب وأثر الأم في نفسه إذ نراه يميل بوضوح ناحية الأب فيقول: صفعتني أمي فنهرها أبي، أبت إليك أسير لأروي ظمأ روحي أناديك اسقني.

ويعرض الكاتب بشكل خجول لأثر الأم في نفسه ومعاناتها عند غياب هذا الأب وفقده فيقول: أبت هذي أمي بالأمس كانت تسعى والدمع فوق الخدد كزمزم، صفعتني إذ قالت واحسرتاه فقد ولدت وهما كأنك لم تأت. 

 

ولا يؤثر غياب هذا الأب على الكاتب وأهله فحسب بل يمتد تأثيره إلى مظاهر الطبيعة الصماء يقول في قصيدة دمعة: جدران البيت شققها وجع غيابك، تلك الزيتونة صارت عاقر.

2- الألوان: للألوان دلالات عميقة في المنهج النفسي، لكن الغريب أن يكون اللون المسيطر على الديوان هو اللون الأزرق مع وجود أثر للألوان الأخرى كالأحمر، والأبيض، والأسود، والأخضر، ولكن يبقى اللون الأزرق هو المسيطر، ربما لأنه يمثل في نظر الكاتب لون الحياة، فيكون بهذا الفهم معادلا موضوعيا لحالة الألم والمعاناة التي يصورها في ثنايا الكتاب.

ويظهر اللون الأزرق في كثير من العبارات مثل: (زرقة البحر، حفيدي الجني الأزرق، الأزرق قادم ليمنح روحي طهر اللحظة، بالأزرق يرسمها، تتراقص بالأزرق، أزرقها بيتي وفضائي وكفني، حين أنزع عنك ذاك الأزرق، قصيدة الأزرق/ ينادي الأزرق روحي، الأزرق إذ يغنج، الأزرق لي، الأزرق يسكن روحك) ولا ننسى أن الأزرق هو لون غلاف الديوان.

 

3- اللغة وتسريباتها: يعتقد المنهج النفسي أن اللغة بصفتها وسيلة التعبير الأساسية التي يتستخدمها الكاتب في التعبير عن دواخله وبواطنه، فلا بد لهذه اللغة من أن تسرّب بعض المعاني النفسية التي يمر بها الكاتب، وهذا ما نجده لدى صوالحة، فاللغة التي يكتب فيها نصوصه تميل للمفردات التي تصف المعاناة والألم والقلق والضياع بشكل عام.

والمتتبع للمفردات التي استخدمها صوالحة في كتابه يجد هذا الميل للغة التي تعبر عن المعاناة والسوداوية والضيق وتتجلى هذه الألفاظ في منظومات منها ما يتجلى في المظاهر الطبيعية وانعكاسها السلبي على نفسه مثل: الفضاء، الشمس، القمر، النور، السماء، الليل، النهار، الغيوم، الضباب، النار، الدموع، الحلم، السراب، الورد، الوطن، قلب المغيب، المصير، الظلال، الدرب، الموت، البحر، النهر، الريح، العتمة، العتمة.

كما ترد الكثير من الألفاظ التي تصف تشي بالحالة النفسية للكاتب كالوحيد، الغريب، اليتيم، الوجع، الألم، الحلم، الدمع، الأنين، الرجفة، الدهشة، الرحيل، الانتظار، الذكريات، المتعب، كئيب، حزين، الغضب، الاغتراب، الندم، الأنين، الانصهار، القلق. 

وحملت بعض الألفاظ دلالات دينية وظّفها الكاتب في عمليات تناص يستلهم من خلالها روح المفردة الدينية ويسقطها على نفسه ومن هذه المفردات: الصلاة، النبي، موسى وعصاه، شيخك، الحنبلي، القبلة، زمزم، معجزتي، آيات، سليمان والهدهد، الطقوس، قصة يوسف وإخوته وزليخة، المعصية، كفرها بي، الشعراء يتبعهم الغاوون، لي فيها مآرب أخرى، وضوء، تقي، مسبحة، تسابيح.

ويتجلى التسريب اللغوي في بناء العبارات والتراكيب التي تشي بالكثير من المضامين المخبوءة في نفس الكاتب منها مثلا: يمطر عليك، قمر تلظّى، الإجابة حيرة وتيه، ضاق بي العمر، أشتاق حضنك يؤويني، في أي فضاء يثور، امتهان الرحيل، نزف المواجع، أخلع جلدي، أفقأ عيني، من يعيد إليّ جنوني، بعثر نبضي، أغادر قبري، احرق ما يسكنك من وجع، نار الغياب، جذع يابس، أعاصير الشوق، ينفجر بركان الروح، غيم عاقر، أحفر قبري في قلب الرمل، يولد غريبا ويحيا حزينا ويموت وحيدا ويبقى نبيا لم يتبعه أحد، لا تساوم لا تصالح، تعال انقش فوق الصخر اسمينا، لحن الخلود، الموت يحاصر روحي،  أنا مفقوء العينين، سرقت مني القدمين، ضاعت أجنحتي. 

وتشكل العناوين أيضا مدخلا للكشف عن المحتوى النفسي الذي يتردد في جنبات الكاتب فنجد تأكيدا لما ذهبنا إليه من التسريبات اللغوية السابقة فكثير من العناوين تشير إلى حالة من عدم الاستقرار العاطفي لدى الكاتب منها مثلا: وجع الغيم، بكاء السماء، تمرد، غربة، اخلع جلدي، شوق البحر، وتشبهني الشوارع، الدمع، تعب، كلمات مبتورة، لي الجنون، الاكتئاب، الميلاد والرحيل، لون الليل، قلق، دمعة، رغم الهزيمة، آيات الجنون، الشوق، الجوع، الوجع، هلوسة.

وتشكل البنى المتعلقة بالبيئة الطبيعية كالنباتات والحيوانات وبعض المظاهر الحياتية اليومية روافد أخرى ساهمت في تعزيز هذا الكشف النفسي وتجلياته في كتابات صوالحة والتي نتلمسها في بعض المفردات الخاصة مثل: الدفلى، الزيتونة، الرمانة، الريحان، العناكب، العصفور، السيجارة، القهوة، الفنجان، النبيذ، الخ.

ومع أنه قد جرت العادة في أن يكون للوطن وللمرأة حيّز كبير في الأعمال الأدبية إلا أن معالجة صوالحة لهاتين القضيتين جاءت معالجة شكلية قليلة التأثير نظرا للهم النفسي الكبير الذي يسكنه نتيجة غياب الرؤية وضبابية خط السير في الحياة والذي يظهر أنه كان بتأثير غياب الأب المبكر. 

د. علي غبن

عمّان في 26/11/2019

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!