تجربةالفنان التشكيلي حكيم الغزالي: لوحات مستلهمة من التراث/ بقلم : د.إسلام الجبالي (تونس)

حكيم الغزالي فنان تميز بتوظيف الحرف العربي في لوحته كعنصر تشكيلي مستثمرا مرونته وقابليته للتشكيل والحركة فهو يزاوج بين التجريدية الغربية والحروفية العربية, يستنطق الحرف ولكن يترك له حرية البوح فيضفي عليه تعدد المعاني والاحالات ويخرجه في مساحات شاسعة وألوان متناغمة, فتبدو الحروف ورغم غموضها فائضة بالدلالات والمعاني.

فهذا الفنان تأثر بالجمالية الغربية في الفن التشكيلي لكنه في نفس الوقت يعود للبحث في ارثه الثقافي والحضاري باحثا عن هوية فنية تميزه من خلال أشكال وعناصر جمالية تراثية تحقق له خصوصيته.

فقذ أخذ الحرف العربي أهميته ومكانته في عمله ولكن كان هذا المكان لصالح وجود تشكيلي لا يتوقف عند قواعد الخط ونواميسه, فتنشأ بذلك مساحات تشكيلية بصرية تتقارب من اللوحة التجريدية في جل خصائصها ولكنها حاضرة أيضا بذاكرة الحرف والإيحاء بمرجعيته.

فمن خلال توظيفه لبعض المفردات أو العناصر الزخرفية والحروف العربية دمج الغزالي عملية التشكيل في عمله الفني بتاريخ حضاري وتراثي.

كما أنه يثبت من خلال تجربته عطاء الحروف العربية وقدرتها على التواصل مع تطلعات الحداثة التشكيلية وتجاوز هذه العلامات الخطية دلالتها اللغوية فأصبح التشكيل الحروفي تجريديا يدخل فيه الحرف ضمن مفهوم آخر من الناحية البصرية والجمالية والتعبيرية, فتعامله مع الحرف تعاملا تشكيليا يختلف عن الفنان الذي يكتب في بعض أنواع الحروف فهناك فرق بين الكتابة ذات قواعد والتشكيل, فالكتابة ذات دلالات مفهومية ومضمونية ولها مفهوم احترافي لأنواع الخطوط وقواعدها, أما تضمين الحرف في اللوحة التشكيلية لا يشترط الإلتزام بتلك القواعد.

كما امتازت كل أعماله باستلهام الموروث العربي واقحامه بطرق حديثة في لوحته التجريدية متأملا في ذلك الحرف العربي كوسيلة للتعبير عن ما يخالج روحه ذات المنحى الصوفي فقد بات الفن عند حكيم الغزالي موقف فتسائل فإدراك فمعرفة وهو عبر هذه الرؤيا يذكرنا بالفنان حسن شاكر آل سعيد الذي يقول أن الفن يمكن أن يكون طريق للبحث عن الحقيقة عبر تجلي المكاشفة الروحية والولوج في عوالم النفس الداخلية فالعالم الخارجي بالنسبة لآل سعيد هو شكل تقليدي للرؤيا والتأمل هو شكلها الجديد.

كما يرفض حكيم الغزالي القطيعة مع التراث في مستوى الانجاز وفيما يتعلق باختياراته الجمالية في توظيف العلامة الخطية التراثية, فهو دائم البحث عن امدادات وجسور تجمع تقاليد الماضي بالحياة المعاصرة مستعيدا التواصل مع الموروث الفني ولكن بتأمل وفطنة في عملية التشكيل, فهو لم يلجأ إلى الممارسات الفلكلورية في أعماله الحروفية بل سلك طريق التحديث والإبداع والتفرد بتجربة جديدة تحاكي ماهو جوهري, ويقول الغزالي في هذا الخصوص: “أحاول قدر الإمكان أن أخلق هذا الجسر التواصلي بين المشرق العربي ومغربه وشغلي هو من واقع المغرب ومن الزوايا المغربية ومن تاريخ متشكل من مزيج الحضارات العربية والبربرية والمغربية والإفريقية.”[1]كل أعمال الغزالي تفتح على استغلال الماضي وعلى إعادة خلقه من جديد كما تفتح على أفق جديد في إطار التعامل مع العلامات الخطية وادراجها في لوحة تجريدية معاصرة, لذلك بإمكاننا أن ندرج أعمال هذا الفنان ضمن التيار الإحيائي لعناصر التراث الخطي. كما يقول عفيف البهنسي:” لقد كان هم الفنانين العرب المشترك, الحفاظ على الذاتية العربية في الفن التشكيلي لتحقيق خصوصية الرؤية في الإبداع والتلقي.[2]

فهذه الزخرفة الإسلامية التي يوظفها الغزالي في بحثه التشكيلي لها خصائصها وأشكالها الخاصة التي تميزها عن سواها من زخرفة غربية أو آسيوية أو غيرها, فهي زخرفة مستمدة من تراث عربي قديم, كما ارتكزت الزخرفة العربية الإسلامية على أسس عميقة الجذور نابعة من التقاليد المتوارثة أو من الدين, وان اختلفت وتنوعت هذه الزخرفة فهي تتوحد في علاقتها الحميمة بين الإسلام و فن العمارة والزخرفة, كما أنها تعتمد على ما أسماه بعض مؤرخي الفن الإسلامي: السكينة والراحة الجسدية والروحية والتأمل والبساطة, وهنا نفهم اعتماد فن الزخرفة الإسلامي على الضوء والألوان وشساعة المساحات.

كما أنه استعاد هذه العلامات وأقحمها بفيض من احساسه ومن شعوره متجاوزا حنينه لهذا الموروث الثقافي التقليدي نحو بحث جديد متحرر من كل القيود, فالغزالي ينتج أعمالا تأخذ من الماضي والذاكرة والحنين إلى المغرب وتراثها ورموزها التي تميز الحضارة العربية الإسلامية التي يتعامل معها تعاملا روحيا, ذاتيا, فنجده يدمج كل العناصر التقليدية التراثية مؤمنا أشد الإيمان بأصالة الفعل التشكيلي وبمرجعياته المحلية, فيفتح فضاءا تعبيريا يعطي فيه للعلامة الخطية أحقية التعبير عن ذاتها.

فالمتأمل في أعمال هذا الفنان يلاحظ مزاوجته في كل لوحاته بين القديم والحديث, فهو ينبش في الماضي ليستقي منه مميزاته ورموزه لكن يتجاوز هذا التراثي والتقليدي ليبدع في أعمال توحي بماضيها لكنها لا تقف عنده, توهم بالتراثي لكنها تتجاوزه, فنجد الغزالي بذلك يبني عالمه الجديد والخاص.

فقد سعى هذا الفنان إلى توظيف العلامة الخطية التراثية في مسيرته الإبداعية, فهو يحاول عبر هذه العملية تجاوز الإرث التقليدي كما هو ومحاولة دمجه في أعمال حديثة, فنكتشف من خلال هذه الأعمال طريقة قراءة هذا الفنان لموروثه وطريقة تفكيره في هذا المخزون التقليدي وانعكاسهما على تجربته التشكيلية.

كما يعتمد الغزالي في بحثه التشكيلي على الاختزال في الفكرة بالتقشف في التعبير عنها وبأقل المفردات وأكثرها تركيزا ووفاء للمعنى, ويتمثل ذلك في اختزال العالم إلى حد التعبير عنه بالجدار, واختزال لأشياء هذا العالم ضمن حروف مبعثرة في جدارياته واختزال للمكان من خلال جعله للوحة عينة للأمكنة ,كما اختزال الزمان من خلال التعبير عنه بالحرف المكتوب.

فقد استبدل الغزالي الشكل بالأثر على سطوح أعماله كاعتماد التلصيق أو طبع بعض النصوص أو مزج المواد المختلفة ببعضها فيفسح لها المجال لترك آثارها على سطح اللوحة.

ففي حرية اللون وحركية الخطوط المتداعية فوق متن سطوح جدارياته, هي عملية فكرية وتقنية ساعية لإختراق جمود الخامة وشهوة الرسم والتلوين الموشى بترانيم القول البصري المباح وتأكيد على البعد التجريدي للوحة. يقول الناقد التشكيلي عبد الله أبو رشاد: “يختزل حكيم الغزالي المسافة ويختصر ذاكرته البصرية الواقعية لمصلحة التعبيرية التجريدية التي تحاكي جدود رغباته الذاتية الخارجة تماما عن سرب الأكاديمية المدرسية, تسبر أغوار انفعالاته الشخصية في لوحات مفرطة في تجريديتها. لوحات كأنها تروم محو الذاكرة البصرية النمطية المتداعية فوق جدران لوحاته, وهي أشبه بمدونة تاريخية مسرودة ومستعارة من معين وصف لزمن عربي متغير, تسفح دم اللوحة الواقعية لتبني جدار الهدم التشكيلي مابعد الحداثة, كبدائل متاحة في فنون الحقبة العولمية, معانقة نصوصها الشكلية رموزا خطية وعبث طفولة متوالدة عبر متتاليات لونية من خاصية واحدة

 

كما أصبحت اللوحة عند حكيم الغزالي تركيب مفتوح وحر تتجلى الحروف والعلامات الهندسية الزخرفية فيه كعنصر تشكيلي له حضوره الواضح والفاعل. فهي تطفو على السطوح المضيئة للوحة لتثبت وجودها وبعدها الخلاق داخلها. فهذا المزج الهادىء للألوان المضيئة والطبقات النورانية للمادة اللونية التي يضعها الفنان على سطح القماشة يعتمد فيها على العلامة كعنصر مؤثث للوحة لتصبح في بعض الأحيان اللوحة ذاتها

يعتبر هذا الفنان قد حرر العلامة الخطية من أسرها الخطي واللغوي ليحولها إلى عنصر تشكيلي خالص, إما باستثمار قابليته للتشكيل أو استغلال هيئته الخطية والغرافيكية ولكن في كلتا الحالتين ورغم ابتعاد هذا الفنان عن قواعد الخط العربي لصالح التشكيل فيده بقيت وفية لذاكرتها الخطية, فحروفه الموظفة في كل أعماله تعكس وراءها حذقة الفنان وتمرسه في مهنة الخط

فهو بذلك ليس بعيدا عن ضرورات التجديد والتحديث في فن الخط التي تضع المفردات التشكيلية العربية في سياق عالمي يتطلع لبناء نسيج جمالي يتجاوز الأبعاد التقليدية للفن في العالم العربي. وبذلك فقد حاول الغزالي الجمع بين اللوحة الحديثة والطابع المحلي من خلال استلهام الحرف والكتابة العربية ومنطوقاتها في اتجاهات فنية معاصرة.

ولقد سعى الغزالي إلى المزاوجة بين مميزات اللوحة التجريدية الغربية وعلامات خطية تراثية عربية ورغم أنه يقول أن: ” الفن بحر وعلى الفنان أن يغوص فيه, على أن لا يعطيه هوية محددة, لأني أرى الفن متجردا من الهوية, لا أحب أن يقال عن أعمالي عربية أو شرقية,بل أفضل أن تكون أعمالي متوجهة لكل الناس في أي مكان في العالم.[3]

فجل أعمال حكيم الغزالي نلاحظ أنها تقترب كثيرا من الأعمال التجريدية الغربية,ويسعى المذهب التجريدي في الرسم إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها في أشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية التي أثارت وجدان الفنان التجريدي ويسير حكيم الغزالي بالرموز والإشارات إلى تصور جديد لفن الرسم, فهذا الفنان يحمل شرقه تصورا ذهنيا وعاطفة يظهرها في تعامله مع لوحته, حتى وإن كانت أدواته التي يستعملها في عمله من ألوان ولوحة هي أدوات غربية فهو فنان يتحلى بعلاقة وطيدة وعميقة مع ماضيه وطفولته وأصوله المغربية ومع تراثه الذي جعله لا يغادر الشرق الذي يحمله في ذاكرته. فهذه العلامة الخطية التي يستعملها في لوحته المسندية لها مرجعيتها ولها معانيها وأسرارها ورموزها وتراثها فهي تعرف بنفسها في صمت لا يحتاج إلى تفسير أو وصف.

فقد سلك طريقا تأمليا ينشد فيه الانعتاق من أسلوب التقليد في عملية تجاوز وبحث عن مسار تشكيلي جديد ومتفرد. فكان توظيفه للعلامة الخطية التراثية وليد علاقة وطيدة تربطه بطفولته وبعلاقته بالمغرب أساسا.

فحكيم الغزالي لم يسعى إلى اقتلاع العلامة الخطية من تراثها الثقافي لاستعمالها في مجال آخر بل أخذ من العلامة ما يميزها ويقوي حضورها بطريقة مختلفة ليسلك طريقه الحداثي تجاه اللوحة, فما يتأكد لنا بعد قراءة أعماله تشكيليا وجماليا أنه يعمل على تمالك قوتين عملتا على منوال واحد وهو الرسم والكتابة, فهو لا يفصل بين فعل الكتابة وفعل الرسم بل يجعل العلاقة بينهما تكاملية وتطابقية.

 

 

[1]المغربية, تاريخ النشر: الاثنين 25 مايو 2009من حوار “حكيم الغزالي يعرض رحلته في عوالم اللون بالدار البيضاء” في جريدة الاتحاد

[2]عفيف البهنسي, علم الجمال وقراءات النص الجمالي, ص168

[3]المغربية, تاريخ النشر: الاثنين 25 مايو 2009من حوار “حكيم الغزالي يعرض رحلته في عوالم اللون بالدار البيضاء” في جريدة الاتحاد

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!