جمالُ صوت المرأة في السرديّة التعبيريّة / بقلم : كريم عبدالله – بغداد

لغة الحلم في نصّ الشاعرة : إنعام كمونة (على ضفاف الحنين ينثالُ حلماً..!) .

يقول ( هيجل ) : الشعر هو الفن المطلق للعقل , الذي أصبح حرّاً في طبيعته , والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية , ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للافكار والمشاعر .

مما لاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه ,  وتسخير الخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض . نحن سعداء جدا في مؤسسة تجديد الادبية ان نستنشق الان ملامح إبداع جميل وحضور مشرق من خلال دعمنا المستمر للمواهب الصادقة والناجحة في هذا الموقع , فلقد اصبح لدينا الان مجموعة رائعة جدا من الشعراء والشواعر الذين يجيدون كاتبة القصيدة السرديّة التعبيريّة , ونحن لم ندّخر اي جهد في مساعدة الجميع عن طريق الدراسات النقديّة والنشر والتوثيق المستمر في المواقع الالكترونية الرصينة وفي بعض الصحف الورقيّة , وابداء الملاحظات من أجل تطوير وإنضاج هذه الاقلام الواعدة , نحن على ثقّة سيأتي اليوم الذي يشار الى كتابات هؤلاء والاشادة بها والى القيمة الفنية فيها ومستوى الابداع والتميّز وما تحمله من رساليّة فنيّة وجماهيريّة .

فلم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود ( في الوقت الحاضر ) , وتجلّ هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق اليها , وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم , وصاروا يواصلون الكتابة وياخذون منحا اخر لهم بعيدا عما هو سائد الان في كتابة قصيدة النثر , صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية ,  لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية والواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والأنطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب , فلقد أحسّ الشاعر بمهمتة الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة , فنحن نؤمن وعلى يقين بانّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على  الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الابداعي , بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية , نعم أحسّ الشاعر بالانتماء والاخلاص لهذا اللون الادبي الجديد والذي نطمح في قادم الايام ان يكون جنسا أدبيا متميّزا , لهذا استطاع الشاعر ان يطوّع المفردة رغم قسوتها وعنادها وإعادة تشكيلها وتفجير كل طاقاتها المخبوءة , وأن يفجّر من صلابتها الينابيع والانهار وإستنطاقها نتيجة ما يمتلكه من خيال جامح ابداعي وعاطفة صادقة جيّاشة وإلهام نقيّ وقاموس مفرداتي يعجّ باللغة الجديدة .

سنتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير الى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها , ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .

انّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ , فمنذ تاسيس موقع ( السرد التعبيريّ ) كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز, وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور انور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والاشادة بها دائما , وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعراءها . فاصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالابداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الاخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه . لقد أضافت الشاعرة الى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الابداع فكانت بحق آيقونة رائعة . القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والالام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة , بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها , ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة , ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق , منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الاحساس لديه . كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والاحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان , نتيجة الى طبيعتها الفسيولوجية والسايكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها , فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي , فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية , كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة , كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل واعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان . فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح , فلقد بذرت بذورها في ارض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى اصبحت شجرة مثمرة . لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الانثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة , فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا , وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .

متى امتلك الشاعر ناصية اللغة وسخّرها كيفما يشاء من اجل إنضاج النسيج الشعري لديه والذي من خلاله يحاول ارسال رسالة معينة  من خلالها حتما سيكون نتاجه الشعري ثرّ ويستحق القراءة والمتابعة والاشادة , فالشاعر يستطيع ان يتعامل مع اللغة تعاملا منتجا ابداعيا , فهو بمقدوره ان يدخل منطقة الحلم في يقظته التي اشبه ما تكون بالحلم , ويستطيع اعادة صياغة الواقع بطريقى ابداعية جديدة تختلف اختلافا شديدا عما نعرفه في حياتنا اليومية , حينها تكون اللغة باشتغالاتها الجديدة في رسم علاقات ودلالات وامكانيات اخرى , وكأن الشاعر يقوم بانتاج قاموس لغوي جديد خاص به . هذه االغة يكون بامكانها ان تخلق عالما غريبا قادما مما وراء الحلم , تعبّر عن مواقف الذات الشاعرة في هذا العالم عن طريق صراع كائناتها التي تخلقها ورسم مصيرها واحتجاجها ورفضها لما يحدث في محاولة لرسم الجمال واعلاء شأنه أمام زحف هذا الظلام وخنق الازهار في ساعة الغبش . لقد وهبنا الحلم لنتمرّد على واقعية الحياة وقسوتها , فهو رفيقنا الطفولي الذي يرافقنا قبل ان تداهمنا الشيخوخة والسبات الطويل . لقد فتح لنا هذا الحلم الأبواب مشرعة لنلعب خارج الازمان والامكنة عن طريق كتابة الشعر , وبثّ الحياة في الجمادات واستنطاقها والاستبصار في حقيقة هذا الوجود وأنسنة الطبيعة وطبعنة الأنسان , هذا وغيره ما يقوم به الشاعر الحاذق والمتمكن من أدواته , كونه مخلوق عجيب يعمل كالساحر , يحتمي بالشعر من زمهرير الحياة العادية بامتلاكه خيالا جامحا منتجا به يستطيع اعادة تشكيل هذه الحياة بصورة غريبة مثيرة للريبة والشكّ والحيرة والتأمل .

وبالعودة الى نصّ الشاعرة : إنعام كمونة (على ضفاف الحنين ينثالُ حلماً..!) . نجد سعيها الحثيث الى خلق الإغراب في لغتها وعدم اللجوء الى اللغة السطحية والمباشرة والوضوح الشديد , ونجد هذه التجريدية العالية والانزياحات المبهرة تحتل المساحة الكلية لنسيجها الشعري في هذا النصّ , بدأً من العنوان وانتهاء بآخر مفردة فيه . فكل مقطع من هذا النصّ نجده يمتلك من السحر اللغوي والقوة والطاقة النغمية التي تزيد من التأثير لدى المتلقي والمحاولة لتخليص الواقع من واقعيته والهروب نحن الحلم , فمثلا نقرأ هذا المقطع .. / عصية شفااااه الشكر.. بعرين الهمس..؟! ..لتحتضن شهب التجمل من اعراف قلبك الظمآن عشقـــــا ..!! .. / .. لنتعرف على مقدار الشعرية والزخم الشعوري وغرابة اللغة وانفلاتها من واقعيتها وهروبها الى منطقة الحلم العذب والشفيف , وهذا يُشعرنا بالقدرة الذهنية لدى الشاعرة من اجل خلق حالة الدهشة او الصدمة لدى المتلقي وإحكام سيطرتها على ذهنية المتلقي نتيجة لهذا الاضطراب اللغوي . ونعود لنقرأ أيضا هذا المقطع ../ .. فمنذ وقع صدى خطوة العنااااق ورشفة صهيل ارتجافة برد تعربـــــــــــد السفر بحيـاء روحي شوقا حريري الهوى يباغت قَسَمَ صمتك الملتاع جهرا من مسقط النبض لقمة سواقي الروح حلما ينازع فطنة زاد التردد ../ .. نجد هنا مقدرة هذا ( الحلم ) على تطويع اللغة وخلق مزيج متداخل من الصور كـ / الصورة السمعية = فمنذ وقع صدى خطوة العنااااق / او / الصورة الذوقية = ورشفة صهيل ارتجافة برد / او / الصورة اللمسية = يباغت قَسَمَ صمتك الملتاع جهرا من مسقط النبض / او / الصورة الحسّية = بحيـاء روحي شوقا حريري الهوى / , فنحن نجد في هذا المقطع / تراسل الحواس / حيث تشترك أكثر من حاسة فيه , وهذا يجعلنا نشعر بتغريب المفاهيم والمعاني وبالايحاء المبثوث فيه في محاولة الى استثارة حواس المتلقي ومشاركته الشاعرة في بوحها العميق هذا . ونقرأ ايضا .. / بتلاوة زبر الحواس شفاعة فطام التجرد من غرة الخيال لهوة محراب حبك تسري قوافل جوى بمواكب الزينة, تبهج كرنفالات فلنتاين بأريج طيفك ../ .. كيف تنصهر الحواس والمشاعر والأحاسيس لتخلق لنا صورا استعارية متجددة , وتداعي مستمر في هذه الحواس المختلفة , مما أدى الى خلق علاقات جديدة بين مفردات اللغة لم نعهدها من قبل , وما ذلك الا لمحاولة إثراء اللغة وتلوين النسيج الشعري حتى تتعزز استثارة واستجابة المتلقي فيكون تأثيرها ممتع جدا . ونقرأ هنا في هذا المقطع الطويل ../ وبحذر أِطراقة عجل ونذور سكينة صبر تواري شروق مطر الانتظار ببراعم الغزل , فقبل موسم القبلة الأولــــــــــــــــى وجنون أجنحة الوقت تحتسيك ومضات برق اللهفة الغانية سرا ,محلـقة بطقوس فيرووووزية البذخ…!! ../ .. كيف تحلّق الذات الشاعرة في عوالم بعيدة من الخيال الجامج والتطرف الشديد في انزياح اللغة الذي ينمّ عن تفوق ذهني خلاّق يعلن انتصاره على واقعية ورتابة الحياة وتفكيكها واعادة صياغتها بطريقة ابداعية , حتى نجد انفسنا نعيش في عالم باذخ من الاحلام البعيدة عن هذا الواقع والقريبة من الروح . ونختتم النصّ بهذه اللغة المتوهّجة في ظلام الواقع ../ .. كلما تضئ عيون الوسن بانهار الحنين تردد غزلان وصاياك طائل التمني من رقاد ظله ,ونعاس ريقي يفضفض ثمالة فجر الف ليلة وليلة : ضُمَني عشتار صلاة لقِبلةِ أحلامك لأوضب وليمة لقاء وانفض كثبان ملح العمر بهديل كفي ,فهل لي سبيلا لقضمة حُلم..!! مذاقها سكر..؟؟. / .. هذه اللغة الجديدة تكمن قيمتها بقوة الأنفعال لدى المتلقي والمعبّرة عن محنة الانسان وصراعه في هذا الوجود , فنجد ان الشاعرة استطاعت ان تتوغل في عوالم بعيدة من الخيال الخصب والممتع في التعبير عمّا يجيش في نفسها , ولعل المتلقي المنتج والواعي سيتلمس بوضوح جمالية صوت المرأة / الشاعرة / في هذا النصّ السردي التعبيري , وما كان يتحقق هذا لولا الحرية التي منحتها السدرية التعبيرية والانفلات من القوالب الجاهزة والقيود التي تفرضها الأجناس الشعرية الاخرى على الشاعر , هكذا نتمتع بنصّ سردي تعبيري نموذجي مدهش اخر تمنحنا اياه هذه السردية التعبيرية .

 

 

على ضفاف الحنين ينثالُ حلماً..!
عصية شفااااه الشكر.. بعرين الهمس..؟! ..لتحتضن شهب التجمل من اعراف قلبك الظمآن عشقـــــا ..!! فمنذ وقع صدى خطوة العنااااق ورشفة صهيل ارتجافة برد تعربـــــــــــد السفر بحيـاء روحي شوقا حريري الهوى يباغت قَسَمَ صمتك الملتاع جهرا من مسقط النبض لقمة سواقي الروح حلما ينازع فطنة زاد التردد , بتلاوة زبر الحواس شفاعة فطام التجرد من غرة الخيال لهوة محراب حبك تسري قوافل جوى بمواكب الزينة, تبهج كرنفالات فلنتاين بأريج طيفك, وبحذر أِطراقة عجل ونذور سكينة صبر تواري شروق مطر الانتظار ببراعم الغزل , فقبل موسم القبلة الأولــــــــــــــــى وجنون أجنحة الوقت تحتسيك ومضات برق اللهفة الغانية سرا ,محلـقة بطقوس فيرووووزية البذخ…!!, كلما تضئ عيون الوسن بانهار الحنين تردد غزلان وصاياك طائل التمني من رقاد ظله ,ونعاس ريقي يفضفض ثمالة فجر الف ليلة وليلة : ضُمَني عشتار صلاة لقِبلةِ أحلامك لأوضب وليمة لقاء وانفض كثبان ملح العمر بهديل كفي ,فهل لي سبيلا لقضمة حُلم..!! مذاقها سكر..؟؟.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!