((حُب الجَمال والاعتداد بالذات في ديوان “مُلكٌ ليس يفنى” للشاعر السيد حسن ))

كتب إبراهيم موسى النحَّاس:

في مسيرة الشاعر في الحياة نجده بروحه الشفافة يسعى نحو الجمال والمثالية في كل شيء،مِمَّا يجعل قصيدته مصباحًا ينير الطريق نحو معاني هذا الجمال والحُب، والشاعر السيد حسن في ديوانه الجديد ((مُلكٌ ليس يفنى)) يقدِّم لنا رؤية تقوم على الإيمان بمعاني الحُب والجمال والخيرمع الاعتداد بالذات الشاعرة، لنلمس في الديوان كل معاني ذلك الجمال على تنوُّع تشكيلاته، ولنقرأ معًا تلك الروح المُحِبة للفن حين يقول في قصيدة ((الألم المجيد)) ص 22،23:((شجنٌ ترنَّم من بعيد/ قلبُ الكمنجاتِ استفاق مؤرَّقًا / أم أنَّها أشجانُ عُود / مَن ذاك يفترش القصيدة غيمة / ويراود النجمات عن تسكابها؟ / فيروز تشدو أم فريد/ لا ../ لا وعينيكِ اللتين تراءتا / في حلم صوفيٍّ جهيدْ/ عمر الفتى حرمٌ سماويُّ السياج/ وقلبه ظبيٌ طليقٌ/ لا يُصادُ ولا يصيدْ/ لكنَّما هي كبرياءُ الرُّوح / تشرب كأسَها حتى الثمالةِ / هل هنالكَ من مَزيد؟ )).

نلمس اعتداد الذات الشاعرة بنفسها في مواضع أخرى لتكتسي القصيدة بنرجسية تليق بهذا الحرف العاشق للجمال، نجد هذا في قصيدة ((هوية)) ص9، 10، وقصيدة ((آخِرُ المَلِكات)) حين يقول في ص35: ((أوَمَا علمتِ بأنَّ لي قلبًا / نبيلَ الكبرياءِ/ إذا أبَى تأبَى الحياةُ/ إذا رَضِيْ ترضى العصورُ؟!/ القلبُ ليس أريكةً للعابراتِ/ ليسترحن/ ويلتمسن الدفءَ حينًا / كي يواصلن المسيرْ/ والشِّعرُ ليس النورَ/ أُوقِدُهُ/ لتأتيه الفراشاتُ الغريرةُ/ كي يُلاقين المصير)).

وإذا كانت الذات الشاعرة معتدة بنفسها مُحِبَّة للجمال، فلا جمال يفوق جمال الشعر الذي اعتبره الشاعر مُلكه الذي ليس يفني في قصيدة حمل الديوان عنوانها تعظيمًا للشعر وجماله حين يقول في ص20: ((وحين أكون منفردًا بذاتي/ تفيءُ إليَّ نجماتي/ تُساهرني .. تُحاورني/ وتوقد بهو ليلاتي/ تفيءُ إليَّ حالمةً تُغنِّي/ وتُنبئُ مهجةَ الأيامِ عنِّي/ وتكتبُ في ضمير الكون أنِّي ../ سألتُ الله مُلكًا ليس يفنى/ فكان الشعرُ مملكتي،/ ومعجزتي،/ ومأساتي)).

مع حُب الجمال لا ينسى الشاعر مراحل الحياة الجميلة فنجد الحنين والنوستالجيا لفترة الطفولة وفترة الدراسة في الجامعة، فيتحدث عن حُب الطفولة وجمالها وبراءتها في قصيدة ((الظلال)) ص44 حين يقول: ((ظِلُّ الفراشاتِ المراوغُ/ في أناشيدِ الصِّبَى/ في قاعةِ الدرسِ/ المقاعدُ تختفي خلف الرُّبَى/ لكأنَّها نغمٌ يراوغُ عازفًا / وأنا أطاردُ ظلها / مُتدفِّقًا ..مُتوثِّبًا / إنَّ الطفولة في الجوانج/ سِرُّنا وجمالُنا)). كما نجد الحديث عن أيام الدراسة الجامعية في قصيدة ((قُبَّة الجامعة)) ص57، 58 حيث يقول: ((أعيدوا إلى القلبِ أيامَهُ/ ورُدُّوا على الرُّوح أحلامَها / أعيدوهما طائرَي بهجةٍ/ وقيثارةً عَذْبَةً رشرشتْ/ على قاعةِ الدرسِ أنغامَها / إلى صُحبةِ الحُلم رُدُّوهما / ورُدُّوا رفاقي إلى روضتي/ ونادوا سمائي حتى تعودَ/ وتُطلِقُ في الجوِّ أنسامَها)).

ثم يأتي الجمال المتوطن في أعماق أعماق النفس، إنَّه الوطن وحُب الوطن والانتماء إليه، والنيل وجمال النيل، ذلك الحُب الذي لا يتزعزع، وهذا الجمال الذي لا ينتهي، ولنقرأ معًا هذا المقطع في قصيدة ((استَشْهِدُوا النيلَ)) حين يقول في ص 71، 72: ((نحن الذين اصطلوا بالحُبِّ/ ما احترقوا / عن قُبلة النِّيلِ/ ما حادُوا وما انحرفوا / فاستَشْهِدوا النِّيلَ/ إنَّ النِّيلَ شاهِدُنا / واستنطقوا الأرضَ/ إنَّ الأرضَ تعترفُ/ يا سِرَّ أسرارِنا / في عمق مهجتنا / قُلْ كِلمَةً لِلأُلَى/ ذاقُوا وما عرَفوا)).

 

وقد جاءت أليات التشكيل الفنيالتي استخدمها الشاعرمُتِّسِقة مع الرؤية، فنجد اللغة الجميلة السهلة التي تتناسب مع حُب الشاعر للجمال داخل الديوان بحيث تصل للقارئ دون غموض،حتى أنَّ توظيف السؤال لم يعكس قلق الذات الشاعرة، بل جاء لرسم صورة كلية ومشهد جمالي بكل تفاصيله للبحر وما يحمله من جَمال فيقول في قصيدة ((حالٌللبحر)) ص 46: ((ماذا يقولُ البحرُ/ في أذُنِ السكينةِ في الشتاء؟!/ وبِمَ يوشوشُ موجَهُ رملَ الشواطِئِ / حين يُضنيه التغرُّبُ/ ثم يُضنيه التقرُّبُ/ ثم يُضنيه اللقاء؟!/  أتُراهُ يَهدِرُ صاخبًا ../ مُتعاليًا .. مُتواثِبًا/ لا عينَ ترمقُ لَهْوَهُ/ يعدو ويلهو كيف شاء)).

جانب آخر يرتبط باللغة داخل الديوان وهو توظيف الشاعر للغة التضادلتأكيد اعتداد الذات الشاعرة بنفسها، كما في قصيدة ((هويَّة)) حيث يقول في ص 12، 13: ((لكَ في شموخِكَ مُسترَاحْ/ يُؤويكَ من هُوجِ الرِّياحْ/ يُنجيكَ من عصفِ الحناجرِ/ والخناجرِ والمشاعرِ/ والرِّماح/ ويَقيكَ إعصار الأباطيلِ الأنيقةِ/ والخياناتِ الصديقةِ/ والأكاذيبِ الصُّراحْ/ لكَ في ثباتِ القلبِ/ حين تجيئُكَ الفتنُ المريبةُ/ عند باب الرُّوح خانقةً/ براحْ/ لكَ في اعتصامكَ/ إن طغتْ ظلماتُ ليلكَ/ واستبدَّ دُجى زمانكَ/ مُستطارٌ للصَّباحْ)). كما جاء توظيف ضمير المتكلم لتأكيد رؤية الشاعر في اعتداد الذات الشاعرة بنفسهاوبالشعر أيضًا، ففي قصيدة ((الريح والروح)) يقول في ص31، 32: ((سألقي إلى الروح ما تشتهيه/ وأبقي لدَى الروح ما تصطفيه/ تعاركت الريحُ والرُّوحُ يومًا / تنازعن شِعري/ فهذي تقدِّمُ صَكَّ اشتهاءٍ/ وهذي تقدِّمُ صَكَّ اصطفاءٍ/ وكلٌّ تؤكّدُ ما تدَّعيه/فمَن يفهمُ الآن روحي وريحي/ بأنِّي لدَى الشعرقلبٌ مُريدٌ/ هو الشعرُ/ أطيافُ نورٍ تُصلّي/ هو الشعرُ/ نارٌ لمَن يصطليه)).

حتى عناوين القصائد ارتبطت ارتباطا وثيقًا برؤية الشاعر وتوحي بحبه للجمال والوصف والشعر والفن والوطن، فنجد عناوين مثل: ((الريح والروح – الظلال – حالٌ للبحر- قبة الجامعة – استشهِدوا بالنيل – الكمان – نورسٌ وحيد – هنا القاهرة – شتائية – تشكيلية – خريفية – نيلية أولى – نيلية أخرى – وردتان)).

 

من القراءة السابقة يمكن أن نقول إنَّ ديوان ((مُلكٌ ليس يفني)) للشاعر السيد تقوم رؤيته على تعظيم معاني الحُب للجمال والشعر والفن والوطن والحياة مع الاعتداد بالنفس، في قصيدة تقوم لغتها على توظيف التضاد أحيانا، مع المفردات السلسة التي لا غموض فيها واستخدام السؤال ليعكس جمال الوصف ويثير ذهن القارئ، والاهتمام بالخيال الكلي مع ضمير المتكلم. مع دقة في اختيار عناوين القصائد لتتسق مع رؤية الشاعر، مِمَّا يؤكد أننا أمام شاعر يجيد توظيف آليات التشكيل الفني في بنية القصيدة العربية بتمكنٍ واقتدار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!