فلسفة التدمير / بقلم محمد عبد الكريم يوسف

 

 

المشكلات التي تواجه كوكبنا الجميل كثيرة يصعب حصرها. هناك مشكلات عملية وعلمية واجتماعية واخلاقية  ملحة ويجب الاستجابة لمعالجتها في الحال. ويبدو أن أمور العالم وشؤونه لا تسير على ما يرام. هناك أطماع كثيرة وحروب شتى وارهاب وحروب فكرية وابادة عرقية وعدم استقرار في معظم الدول . ويبدو أن الأوضاع تنحدر من سيء إلى أسوأ في متوالية هندسية مخيفة . يضاف إلى هذه المخاوف الخوف الكبير على مستقبل الحياة على كوكبنا. وقد كنا سابقا نعتقد أن الحياة متجددة وأن الطبيعة تصلح نفسها لكن في القرن الحادي والعشرين يبدو أن الأمور تسير نحو الهاوية بحيث يصعب استدراك ما فات وصرنا ندرك أن مخزون الثروات الطبيعية من ماء وهواء نقي وغذاء صحي  بدأ يتلاشى بطريقة لا يمكن معها استعادة ما تم تدميره خلال القرن الماضي وبداية القرن الحالي .

تمارس النخبة الحاكمة الفاسدة في معظم دول العالم سياسة الربح السريع والفاحش على حساب استقرار الحياة على الكوكب وتشق طريقها عبر الغابات تقطع الأشجار وتزيلها من الوجود من دون الاهتمام بالغد والمستقبل وفي نفس السياق تمارس إدارة الموارد الطبيعية على الكوكب بطريقة جائرة . وهناك من يفسح الطريق العريض للصيادين لانتهاك حرمة الغابات وتدمير الأنواع الحيوانية فهم عن سابق قصد وتصميم يقتلون آخر غوريلا وآخر شمبانزي وآخر وحيد قرن وهم أنفسهم من يطلق النار على الفيلة ويرديها قتيلة سرا وعلانية للحصول على العاج .

تساعد السياسات الحكومية في ممارسة أبشع أنواع التدمير بحق الطبيعة والتراث الإنساني عندما تضغط باتجاه التنمية الاقتصادية القسرية غير المتوازنة التي تأتي على حساب الغابات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية كما تساعد الكثير من المشاريع الخضراء في تدمير التراث الإنساني والآثار عن طريق استصلاح الأراضي العشوائي الجائر بحيث يتم مسح آثار الحضارات السابقة وتحويلها إلى أرضي زراعية من دون الإنماء المتوازن. ويجب أن لا ننسى أن الغابات الخضراء والغابات المطيرة هي الموطن الأساسي للكثير من الأنواع الحية النباتية والحيوانية ويجب المحافظة عليها وزراعة النباتات البديلة في حال ممارسة القطع لحماية الأنواع الحية النباتية والحيوانية .

كما يتعرض الغطاء النباتي للتدمير تتعرض الحياة الحيوانية البرية والبحرية للتدمير المنهجي والمنتظم من قبل شركات رجال المال والأعمال فالغابات المطيرة في غير مكان على الكوكب هي موطن الكثير من الأنواع الحية ومن الممكن جدا أن يؤدي تدميرها  إلى تدمير الكثير من هذه الأنواع الحية . للأسف لا تقدم المحميات الطبيعية خدمة على الطريق في حماية الكائنات الحية النباتية والحيوانية ويقتصر دورها على النزهات وتعريف الجنس البشري بما اقترفه من جرائم بحق الإنسانية وبحقهم وبحق الطبيعة .

هناك من يمارس الصيد البحري الجائر بحق الكائنات البحرية ويعرضها للانقراض وما المصانع العائمة التي تنتقل من مكان إلى آخر في البحار والمحيطات إلا نوعا من الهروب من القانون والتخفي تحت اقنعة متنوعة لتغطية العمل غير القانوني الذي تمارسه بعض شركات الصيد الكبرى متعددة الجنسيات.

إن تدخل السياسة في النشاط الاقتصادي هو من يشجع الشركات والمصانع ورجال المال والأعمال على اغتنام الفرص وممارسة الابادة الجماعية بحق الأنواع الحية من نباتية وحيوانية . ولهذا السبب تتعرض الكثير من الكائنات الحية للموت والانقراض مثل بعض أنواع النمور والفيلة والحيوانات البرية المختلفة والحيتان والأسماك الأمر الذي يؤثر سلبا على مستقبل الحياة والمؤسف أن الحياة  النباتية والحيوانية وأنواعا حية أخرى تذهب ضحية  السياسات وتناقضاتها بين موالاة ومعارضة .

نحن بحاجة للمزيد من الوعي والإدراك لأنفسنا ولما يجري حولنا . نحن أيضا بحاجة ماسة  للحماس الإيجابي لحل المشكلات ونحتاج إلى حل الصراعات التي تعذب البشرية وتهدد مستقبلها بدءا من الحياة اليومية وعلينا اكتشاف إمكانية العثور على صيغ قانونية أخلاقية تسمح بالعيش المشترك . علينا أن نوفق بين مصالح الأرض ومصالح عالم المال والأعمال . وعلينا أيضا أن نخفف من غلواء الصراعات بين المصالح الاقتصادية من أرباح ووظائف وتنمية اقتصادية وثراء المساهمين ونكيفها مع القيم البيئية من البراري البكر وصحة الأنواع الحية البرية والبحرية وحماية قنوات الري والمياه ونحافظ على سبلها من التلوث الكيميائي للحفاظ على الصحة العامة على المدى البعيد . ولتحقيق هذه الغاية  يجب البحث عن البيئيين المزودين بالمعرفة العلمية وعن مديري شركات المال والأعمال الذين يعملون مع البيئة الطبيعية ويؤمنون بها ويحترمونها . ويجب اقامة جسور التواصل بين هذين المعسكرين والابتعاد عن سلوك المحاكم والتقاضي.

علينا أن نجد المواءمة بين الحاجيات الايكولوجية  وعلم الأخلاق والمصالح الاقتصادية والسياسية المنتشرة في عالم المال والأعمال. وعلينا أن نحافظ على غابات الأمازون والقطب الشمالي والقطب الجنوبي وترشيد حرق الوقود الأحفوري وتقنين الصيد الجائر والمحافظة على الريف المرجاني العظيم .

يمكننا نحن البشر أن نعيش من خلال أنظمة بيئية مستدامة وسليمة . ويمكن الوصول إلى هذه الاستدامة بإجراء تعديلات جذرية في أنماط حياتنا وحجم توقعاتنا المستقبلية واتباع المعيار البيئي في الربط بين الاقتصاد وعلم الأخلاق. وعندما ننجح في الربط بين بين الاقتصاد وعلم الأخلاق ينشأ ما نسميه أخلاقيات الأعمال التي تمكن دنيا الأعمال من الأعمال الخضراء  المستدامة من دون المساس بالإيرادات المتوقعة من رجال المال والأعمال كما تخلق في الاقتصاد تقاليد مريحة وحقوقا وواجبات وعلاقات طويلة الأمد وولاءات عائلية وولاءات للمؤسسة التي يعمل بها الإنسان .

وعلينا أن نتذكر دائما أن أخلاقيات الاقتصاد هي التي تمنع أن يتحول كل شيء إلى سلعة معروضة للبيع بما فيها أنا وأنت ، وعلينا أن ندرك جليا أن هذه الأخلاقيات هي التي حافظت على الإنسان طوال تلك السنوات التي خلت والتي تقوم أساسا على الايثار والوفاء والتضامن والتواضع والسعي إلى خلق  سمعة حسنة . كما ساعدت في الحصول على فضائل الأعمال التي تقوم  خلال الزمن التطوري للإنسان على الأمانة وحفظ الوعود والامتناع عن استخدام القوة لتحقيق ما تريد والالتزام بحدود القانون وسداد الديون والعرفان بالجميل .

ظلت البيئة الطبيعية دوما موطنا جميلا للإنسان ومصدرا لكل شيء يحتاجه ليحيا . ويدرك الانسان اليوم أن الكثير من نشاطاته اليومية لها تأثير مدمر للبيئة والطبيعة بأشكالها المختلفة .

البيئة هي الوسط الحيوي الذي نعيش فيه وهي أغلى ما نملك على الإطلاق في الماضي والحاضر وإلى يوم يبعثون وهي مصدر سعادة البشر ومصدر تعاستها وعلى الإنسان أن يحافظ عليها كما هي دون تدخل أو تغيير وعليه أن يكيف نفسه معها. البيئة هي مستقبلنا وغدنا وعلينا أن نتوقف عن كل النشاطات التي تهدد بتدمير البيئة والمحيط الحيوي الذي نعيش فيه .

وإذا كنا نبحث عن الاستدامة على هذه الأرض  يجب أن نبحث عن سبل لا تترك آثار الأقدام البيئية عليها ، والحياة بطبيعتها مستدامة من الناحية البيئية بالكامل وتتوافر فيها الموارد على صورة أشياء صالحة للأكل تجده الكائنات وتقتات عليه وفق أنماط ثابتة ومستمرة عبر مرور الزمن .

ليس من الواضح كم سيبلغ عدد البشر في المستقبل القريب ، وهل تستطيع الأرض أن تلبي احتياجاتهم من الغذاء لأن حجم الأراضي الزراعية في تناقص مستمر وسنجد في القريب العاجل مجموعات بشرية هائمة على وجهها همها البحث عن الطعام . والمساحات الرعوية أيضا في انحسار لا يمكن تفاديه وهذا يلخص فلسفة التدمير التي يقوم بها البشر والتي ستقود في النهاية إلى انقراض الإنسان مثله مثل الكثير من الكائنات التي كانت سائدة ونشيطة في حقب جيولوجية خلت .

كانت أولى الزراعات في مناطق عديدة من سورية ومناطق الهلال الخصيب في الألف التاسع قبل الميلاد والزراعة خلقت تطور قنوات الري المختلفة والخزانات والآبار وهذا النشاط أدى إلى تدمير التربة على المدى البعيد وتدمير الغابات الكثيفة وهذا قاد إلى انخفاض المطر . ثم ازدادت الحاجة إلى الري وأدى الري المفرط والرعي المفرط إلى زيادة ملوحة التربة ومع الوقت انخفض المحصول  ورافق هذا النشاط  زيادة غير مسبوقة وغير متوازنة في عدد السكان  أدى إلى انخفاض منسوب المياه وقيام التربة بتنظيف نفسها ، وكانت النتيجة تحول مناطق واسعة من سورية إلى بادية وتحول أجزاء كبيرة من منطقة الهلال الخصيب إلى صحراء جافة.

وقادت الصناعات التي تلت المجتمع الزراعي إلى تسريع وتيرة الدمار على الكوكب ، وصارت فلسفة التدمير أمثر تعقيدا فبعد أن كانت سهول شمال أفريقيا غابات كثيفة تحولت إلى حقول ثم مزارع ثم صحارى واسعة بعد أن كانت أيام الرومان سلة خبز الامبراطورية الرومانية . وقادت الزراعات المحمية  والكثيفة إلى تعرية التربة كما منع الرعي الجائر امكانية نمو أنواع حية جديدة . وهذا ما قاد المجتمعات البشرية إلى الجوع ، وتحولت الزراعة إلى مزارع متناثرة تقدم الغذاء للنخبة الحاكمة فقط فحدثت الثورات وانتشرت الأوبئة وتغيرت المعادلات والموازين البيئية في الكون إذ نجد فيضانات في شرق الأرض ودرجات حارقة في أفريقيا ، وكلتا الحالتين مصادر جيدة من مصادر التدمير .

وفي القرن التاسع عشر تطورت فلسفة التدمير بتطور العقل البشري وبدأت الصناعات الزراعية تغزو الكوكب وانقرضت صناعة الأحذية اليدوية والصناعات الجلدية وأعمال الحفر على الخشب وأعمال التزيين والمصنوعات الحديدية اليدوية وحلت محلها المصانع التي تنفث الدخان والكربون في الجو بكميات كبيرة بسبب الفحم الحجري ولاحقا الوقود الأحفوري . ورافق هذا النشاط الصناعي المندفع ظهور النفايات بكميات كبيرة مثيرة القلق وغزا التلوث الحياة والمحيط الحيوي للإنسان بطريقتين:

الأولى هي الانبعاثات الغازية

الثانية هي المواد الكيميائية المنحلة والتي تنتشر بسبب النفايات الغازية والصلبة .

وهذا الاستنزاف غير المسبوق للموارد وعدم تعويضها بما يتناسب وعمليات الاستنزاف قاد الأرض والمحيط الحيوي الذي نعيش فيه إلى محنة كبيرة ، فالطبيعة التي كانت شريكا لعشرات الآلاف من السنين تحولت إلى مستودع للمواد الخام والموارد القابلة للاستغلال وصارت عرضة للتدمير أكثر من أي وقت مضى . وصار فعل البشر وتفكيرهم موجه ضد الأرض أما الفعل فهو واضح جدا للعيان. طوال فترة الوجود البشري قام الانسان بإفساد الطبيعة من دون قصد ، ويمكننا أن نؤكد أن التفكير الذي سمح بهذا الفعل أشد خطورة من التدمير والإفساد للطبيعة .

المبادئ العامة لإعادة التفكير في مستقبل الكوكب :

يمكن أن نلخص المبادئ العامة لإعادة التفكير في مستقبل الكوكب بما يلي :

  • احترام الموضوعية والابتعاد عن الايديولوجية والمحافظة على التوازن بين حاجات عالم المال والأعمال وحاجات الطبيعة .
  • احترام العلم والمعرفة والعقل البشري الذي يحاول ايجاد الحلول للمعضلات البيئية الناجمة عن سلوك الإنسان .
  • احترام الفعالية الاقتصادية وجعلها متوائمة مع الحاجات البيئية للجميع وتحترم الطبيعة والمحيط الحيوي .
  • احترام القيم المبنية على الواجب والفضيلة والسعي نحو السعادة واحترام المبادئ الأخلاقية للاقتصاد وتكريس المتطلبات البيئية .
  • الابقاء على الاحترام للقيم المخالفة لرأي الأغلبية والمستمدة من الأعراف والتقاليد والهوية والعملية الديموقراطية .

ليس المطلوب ايقاف الحركة الاقتصادية لكن المطلوب هو تأسيس نوع من الأخلاقيات الاقتصادية التي تراعي الاستدامة في المحيط الحيوي للإنسان ومستقبل البشرية وايقاف فلسفة التدمير الحلية للبيئة بكل مكوناتها ووجوهها .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!