قراءة في رواية (خلق إنسانا.. شيزوفرينيا) للروائية عنان محروس

بقلم :  الروائي  الدكتور  فادي  المواج  الخضير

يقول بيير جيرو: إن الإنسان يتذكر (10%) مما يسمعه و(30%) مما يقرؤه، و(80%) مما يشاهده. وأقول: هنيئا عنان.. على هذه الصورة التي ستمثل في الوجدان عن حجم المحبة التي يكنها لك محيطك الانساني.

نلتقي اليوم ليعلو صهيل الكلمة على صمت الحروف، ونتشارك التعبير عن إنسانيتنا، ونلقي بقعة ضوء عليها، وننداح في فضائنا الجمعي واغوار النفوس، في هذا المكان العابق بعمّان بمائها وخضرائها ومدائنها، وحسن وجوهها، وقد تآلفت شقيقات عمان على عزف ناي الحياة هنا، حيث أنتم وما في حدقات عيونكم من ترويدة فرح وتغاريد إبداع وأنتم أهل القلم وذوو الحرف، وإخوة الكلمة، وسر الإبداع، وحيث هذا المنتدى الذي ظل حضنا للفعل الثقافي.. كما ظلت عمان أمنا. نلتقي في هذا الحفل الذي توقع فيه الروائية عنان محروس روايتها البكر ومولودها الابداعي الثاني(لق انسانا.. شيزوفرينيا) لنتلو .. حكاية (آدم). 

(آدم) الطفل والكائن الطيني الذي عاش فترة من حياته في بيت يشبه ان يكون خرابة… يظن نفسه ابنا لـ (بهية) وأخا لـ (سلمى) حتى صدمته (سلمى) بالحقيقة إذ يتمنع وهي تراوده عن نفسه: (لست أخي… أنت لقيط … ضحية مثلي … وجدتك بهية طفلا تائها في مكان ما) // (آدم) الذي انبنت علاقته بإشارات المرور،  وحاويات القمامة، عندما وجد نفسه فردا في مجموعة كانت تسمي نفسها عائلة // (آدم) الذي انتهك (الباشا) جسده، فقالت له سلمى: ( ليست نهاية العالم …آدم، ستنسى مع الوقت) // (آدم) الذي انتشله (الشيخ عماد) من حياة التشرد والضياع، ثم انتشله حب (مريم) من براثن الفقر والوحدة، فعانق المسجد الكنيسة، وكانت عنوانا مضيئا في حياته // (آدم) الذي كتم سر (سلمى) بائعة الهوى والجسد، فقالت له سلمى: (انت الناجي الوحيد من ظلام الخرابة يا آدم) // (آدم) الذي عاش وجع الحاضر، بين كوابيس الماضي وأحلام الآتي… وعاش طفولة مصادرة، وشبابا منهوبا، واحلاما مسترقة من محفظة الزمن // آدم الذي تأرجح بين الإسلام (دينه) والمسيحية (دين مريم).

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

أما العنوان (شيزوفرينيا) فقبل تناوله أستذكر قول الناقد الفرنسي (ميشال هاوسر): (قبل النص هناك العنوان، وبعد النص يبقى العنوان)، وبما أن العنوان –كما يقول محمد مفتاح – (يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته)، وبما أن الوظيفة الإيحائية للعنوان تعني (أن غايته ليست البيان وإنما توليد المعنى من رحم النص)، والوظيفة الإغرائية تعني (أن همّ العنوان ليس التوصل إلى المضمون بقدر ما تعنيه مفاجأة القارئ)، فإن (شيزوفرينيا) يأتي نصا موازيا….

 

لأن آدم… منتهب بين الخرابة (ثيمة الفقر) والشوارع (ثيمة التشرد) والكازينوهات( ثيمة الانفلات) //  قابع على الخط الفاصل بين واقع اليم ، وحلم جميل،، // مسروق بين ام مزيفة هي (بهية) وأم يستحضرها في الحلم (خضراء العينين)،، // متشظ بين أب عاجز في الخرابة وأب متدين في المسجد،، // تائه بين هويته الحقيقية وهويته المزيفة بوصفه ضحية ولقيطا،، // يلوذ بالحلم هروبا من الواقع،،، // واقف على حافة المنتصف بين أم يتصور صورتها المثالية وأم جلادة قاسية،، وعلى حافة الهروب الى الباشا او الهروب منه،، // بين ان يحب مريم ويواصل زواجه، أو ان يهجرها ويقسو عليها،، // بين رغبة جامحة في طفل يرثه، ورغبة جارفة ترفض ان يتسبب في شقاء طفله،، // حائر بين ان يعترف بماضي الخرابة او يقترف جريمة الصمت // لأن آدم يمقت جنس الانثى…(وألف سبب ليمقته أقلها (سلمى التي يبتاع المارة جسدها) لكنه في الوقت ذاته أحب مريم (وألف سبب ليحبها، أقلها أنها طاغية الجمال، وصاحبة المال، والمكللة بالخلق والمتوجة بالتمنع).

 

شيزوفرينيا …. لأن (سلمى) تتنازعها هوية حقيقية تحاول أن تستعيدها، وهوية تبيع فيها جسدها والهوى // تائهة بين ان تقدّر موقف آدم، أو ان تؤنبه وتلومه// شيزوفرينيا … لأن (مريم) موزعة بين (الدكتور امجد.. ابن عمها) و(آدم..زوجها وحبيبها)، // تائهة بين البقاء والرحيل، بين صيدا وبيروت، // بين وجع مقيم وأمل معلق على جدائل الوقت، حتى انتصرت روحها لزوجها وحبيبها، لتقف معه في محنة الانفصام // شيزوفرينيا …. لأن الشيخ عماد يتمتع (بإسلامه) و ابو مريم يتسم (بمسيحيته)// ولأن ثمة شيزوفرينيا بين (تقاليد الحب في الرواية) و(تقاليد الكنيسة فيها).

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

في (شيزوفرينيا) تشكيلات انسانية متعددة متوافقة ومتضاربة: وانغلاق نفسي واضح تتقزم فيه الإنسانية مقابل عملاق الظروف//   فالذاكرة ترمم، والكوكب ملتهب، والابتسامات صفراء، والزجاج مكسور، والطفولة معذبة، والشوارع موحشة، وشهادة الميلاد مزورة، ووفاة (سلمى) غامضة، وغياب (بهية) بلا عودة. بل إن آدم كان يرى – من زجاج الخرابة المكسور – الأقدام لا الوجوه، وظل الرصيف موحشا في مرآة نفسه.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

وفي الرواية ومضات مكثفة تعكس عمق الوعي وسعة الخيال: ف(الحلم العاجز يبخره الواقع الكئيب)//  و(يبقى الحلم شهوة المحروم) // و( استسلام الضعفاء هو الوقود الامثل لظلم الطغاة) // و(الشجاعة شحنة ايجابية تستطيع من خلالها منح نفسك ثقة المارد).

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

وفي الرواية انزياحات لغوية، فـــ كأنه (عذراء في خدرها) // و(يختال كالنمر) // و(يتقوقع حول نفسه كالقنفذ) وغيرها.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

نحن هنا نقف أمام رواية تتناهبها ثلاث مستويات: 

(مستوى اجتماعي) بما فيه من طفولة مصادرة، وأنوثة مستباحة، وضياع وتشرد وتيه، ولواط، واعتداء صارخ على إنسانية الإنسان وقيم المجتمع// و(مستوى نفسي) بما فيه من انفصام في سلوك الشخوص وفي الفكر وفي الرؤية وربما في المشاعر، // و(مستوى جمالي) بما فيه من بساطة اللغة وانزياح المفردة وتلاقي التركيب مع الحدث.

 

فبين بداية النهاية ونهاية البداية؛ طوفت بنا عنان في دواخلنا ودواخل الشخوص، وعرجت بنا الى ظروفهم وتحدياتهم، تتمثل في النص فكرة الضحية والجلاد، فكرة الانوثة والرجولة، فكرة الحياة تحت السطح والحياة فوقه، حياة الخرابة وحياة الكازينوهات. // ومن بين ركام الأسى يتولد الأمل، ليلوذ آدم بالشيخ عماد، فتتغير حياته، فيغدو كخضراء الدمن.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

 

ولأن المكان (هو الاطار الذي تقع فيه الأحداث) على رأي سيزا قاسم، و(لا مناص عنه) على رأي محمد مفتاح، و( لايمكن ان نتصور احداثا تقع خارج المكان) على رأي محمد بوعزة، (وتشخيص المكان هو الذي يوهم بواقعية احداث الرواية) على رأي لحمداني، فقد سبحت بنا الرواية في الأماكن المغلقة (كالخرابة والكازينو والمنزل)// والأماكن المفتوحة (كالشارع والساحة) // والأماكن التي تتسبب الضغوط في انغلاقها على الرغم من اتساع مداها.. (كالحياة وصيدا وبيروت)// فكان المكان حاضرا، وتمثل في مثل: بيروت، وصيدا، واسطنبول، والمسجد، ودار النشر، والمستشفى، والخرابة، والمنزل.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

وإذا كان الزمن أنواعا: زمنا طبيعيا يتعلق بتعاقب الفصول والموت والميلاد، وزمنا نفسيا يقاس بالحالة الشعورية لا الساعة، وزمنا بيولوجيا يتعلق بالنمو والضمور، فقد عشنا- في شيزوفرينيا – زمنا طبيعيا تمثل فيما تمثل في عمره بين الميلاد وسن السادسة وسن الخامسة عشرة وسن الاربعين // وزمنا بيولوجيا هو زمن بلوغه عندما ظن نفسه قد اقترف جريمة، اقل ادلتها ذلك البلل في فراشه وسريره، وغزو المشيب مفرقه // وزمنا نفسيا تكشف عنه الحالة الشعورية لآدم وسلمى ومريم.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

ولئن قال فريق من النقاد (إن الشخصية كائن بشري من لحم ودم) وقال فريق آخر( إنها كائن ورقي بلا أحشاء)، وقال فريق إنها (كائن من سمات وعلامات)، فإن شخوص عنان تعني كل هذا وذاك، بوصف الشخصية (العمود الفقري للرواية)، فلم تكن اسماء الشخوص في (شيزوفرينيا) عشوائية، فـــ آدم يصدق على كل منا، بأشكال مختلفة وظروف متباينة، لذا اتكأت الرواية على تعميم اسمه ليصدق على مطلق كلمة آدم، بما تحيل اليه من بشريتنا وذكورتنا او رجولتنا // وانتقاء (مريم) يفضي بشكل او بآخر الى المسيحية // و(الباشا) مفتاح سيميائي لشخصية ذات أوصاف نمطية انطبعت في الذاكرة الجمعية// وهكذا في جل اسماء الشخوص.

 

ومن الشخصيات الايجابية: (آدم … الذي ظل مسكونا بالحب لمريم والإشفاق على سلمى والتوق لأم خضراء العينين) و(الشيخ عماد … الذي صنع من تحديات آدم فرصا للحياة والاستقامة).

ومن الشخصيات السلبية: نهلة (الجارة والزميلة… التي كانت تحيك الإشاعات وتترصد بالحبيبين الزميلين) و(الدكتور امجد …. الذي استغل تيه مريم ليمارس نشوة الرجولة على أديم امرأة تدين بالزوجية لرجل آخر).

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

 

أما الفصل الثاني: فيكشف عن انفصام في الحكاية// فلئن سرد لنا آدم الأحداث فقال : انزلقت رجل مريم من اعلى السلم // فإن مريم قد سردتها بطريقة مغايرة فقالت: دفعني من أعلى السلم // ولئن اعتبر آدم مرضه أعراض إرهاق // فإن مريم رأتها – كما رآهخا الاطباء- حالة انفصام.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

وقد مارست الروائية تسريع السرد وإبطاءه، من خلال تبدل لوحات الحكاية // فمرة تستبق الأحداث لترينا صفحة تقويم في نهاية العام 2018 // ومرة تسترجع الأحداث لتجعلنا نعيش مناسبة زواج آدم ومريم في العام 2008// وطوفت بنا بين (زمن الكازينوهات) و(زمن الخرابة). 

 

ومارست تسريع السرد تارة وتعطيله تارة أخرى// فسرعته بالتلخيص والحذف، فلخصت مراحل من عمر آدم أو عمر مريم أو عمر سلمى// وحذفت مراحل من أعمارهم// ومارست تعطيل السرد بالوقفة أو الوصف تارة (كما في: فارعة الطول، معتدلة القوام، بيضاء البشرة، عيناها خضراوان، شعرها الاسود الطويل) // وبالمشهد أو الحوار تارة أخرى // ونوعت بين الحوار الخارجي (الديالوج) والحوار الداخلي(المونولوج).

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

لقد صنعت عنان من الواقع صورة متخيلة تتصل بالواقع بمقدار ما تلامس حكاياها الواقع (من فقر وتشرد وتيه في الشوارع وعمالة أطفال، وتوصيف لحياة اللقطاء) ، وتنفصل عن الواقع بمقدار ما تتطلب ذلك لعبة السرد والتخييل. ونسجت نصها الروائي بلغة طافحة بالبساطة من جانب وغنية بالصورة من جانب آخر، فكانت الرواية عينا على الواقع بلغة تخييلية سردية أجادت الإمساك معها بخيط السرد وهي تلونه بالحوار والوصف كلما استدعى المقام ذلك.

 

شكرا لعناوين هذا المساء.. الحضور، وعنان، ولؤي، والمنتدى الذي نعتز به.

 

د. فادي الموّاج الخضير

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!