قراءة في قصيدة للشاعر تيسير حرب / بقلم : أحمد وليد – المغرب

رفرفة على طاولة اللقاء
مائيَ البريءُ تجاوزَ حدَّ الزلال
ولما تَجاذبَتْهُ أطرافُ بحرك
غدا هِلالاً ينداح في خيال
فغدوتُ كأنني على خيطِ نورٍ
واقفاً أزلُفُ
وأسرُدُني في غَزْلِ الصفاءِ
فلا ترمُشيْ
كيلا تنزلقَ الأضواءُ
في شقوقِ المَجَـال
فمنذُكِ وأنا قابلٌ للهطولِ
كالنسيمِ إذ استوعبَ الهُبوبَ
وكَفَحوى الماءِ
إن مالَ أو أمَال
فتعالَي نسكب اقتعادَنا
فتنةً في المكانِ
كرفرفةِ ” المونامورِ”
على أسماعِ الهدوءِ
نُشعل أوقاتَ الأرخبيلِ
رذاذاً يتدثّر
بين أصابع اللمسِ ، وبرودةِ الكأس
فالوقتُ بالغَ في الطريقِ
يستهلُّنَا كسَلسَلٍ
يسكبُ ماءَه على استهلال
وتعالَي نُرطّبْ مواصلةَ المسافةِ
بين الشموعِ
ونأسِر سقفَ القاعةِ
نُخَيّم فوقَ اللحظةِ
نُنوّس الشُعلةَ
نشتهِ نصف العتمة الخافتِ
ونِصفَه البنيَّ بغزيرٍ من لقاءٍ
غافٍ على خشَبٍ
تآكَلَت صُدوعُه منذُ المكان
فهأنذا أطرَحُني فُنجالاً
وهذي الدلّةُ موالُ القهوةِ
بين نحنحاتِ الهيلِ
تُطوّعُ ما استعصى على الفُنجال
تارةً يسفكُ السؤال
وتارةً يُشعلُ نيزكاً
تسعى عيونُهُ زيتاً للسراجِ
وتاراتٍ يغترفُ الخيالَ بالسِّلال
أما يدايَ …
فنادِلانِ
يتسكعان في عناقِ اللغاتِ
ويمزُجاننيَ حين تتوهُ المفرداتُ
في معتركِ الجزالةِ
يرتطمانِ بأجواءٍ قانيةٍ
فليتكِ تبعثينني من قلقِ السطرِ
فأنتِ منْ أوفدتني قبل الأوانِ
لتستبيحيْ كلَّ طقوسِ الحُجرةِ
بين خريرٍ وشلّال
وأنتِ التي شرَدَتْ
الى جِواريَ فيكِ
فاغمِضيني عليكِ
قبل ترتَبكُ المسافاتُ
فهذا سحابيَ يَرِذُّ ويمطِرُنيْ
فاللحظاتُ تنضحُ أثناءً
تستَميلُ وتُستَمال
(الى رفيقة الدرب )
الشاعر تيسير حرب
________________
*رفرفة على طاولة اللقاء* ربما العنوان يسهل علينا قراءة النص، وربما يفتح لنا أبوابه التي لا ندري إن كانت مغلقة أو مفتوحة، عنوان يثير العاطفة وايضا يُحدث في نفسية القارئ الرغبة في التساؤل، وربما منه نرفرف بين عوالم النص المكنونة التي لا تتجلى إلا بفعل الغوص، فقد تكون هذه الحروف مقروءة، جلية و واضحة، و ربما تكون غائرة في العمق مثل اللآلئ في أعماق البحر، وربما تكون عائمة بالسطح لا تشوبها شائبة .. هكذا يجعلنا العنوان نفترض عدة افتراضات قبل الولوج لمعرفة فحوى النص
. يعتبر العنوان البوابة الشرعية للنص، فَهُو نواة الخطاب الدلالي للنص، “رفرفة “لها إيقاع متحرك في الحاضر والمستقبل، فهي مستمرة ومتحركة لا تتوقف عن الحركة . “رفرفة على طاولة اللقاء” عندما نقرأ نحس بخفة الحرف والكلمة معا، فالرفرفة تخص كل المخلوقات ذوات الأجنحة، فنتخيلها رفرفة لعصفورين، وربما لفراشتين، وحده تخيل هذه الرفرفة للفراش أو العصافير يجعلنا نحس بالغبطة والإنشراح فما بالك برفرفة القلوب؟
ربما هذه الرفرفة منبثقة من المتخيل الشعري للشاعر، فهي قد تكون إحساسا وليس واقعا فعليا، وكأننا بالشاعر يعود إلى مكان معين بزمن معين وطقوس معينة.
هكذا يبدأ المتلقي في تخيل المشهد الشعري في محاولة للغوص في بحر النص واستخراج مكنوناته و ذرره النفيسة فيجد نفسه مضطرا للإستقراء و بدْل الجهد لإيجاد إجابات منطقية ومقنعة لأسئلته الإفتراضية التى أحدثها العنوان بذهنه.
يعتبر العنوان إشارة سيميائية ولغوية له علاقة بالنص، فهو مدخل القارئ في ولوج عالم النص واستنطاقه و استكناه طبيعة الإبداع اللفظي فيه .
“رفرفة على طاولة اللقاء” عنوان يوفر كثافة في المعنَى وكينونة سيميائية، وانزياح جمالي مدهش يحمل في طياته بعداً تأويلياً ورمزياً ولغوياً، هكذا هو يلعب دوراً هاماً في نوعية القراءة وتوجيهها . وعلى حد تعبير “جيرار جنيت” فهو كيان نصي يختزل ما جاء في المتن، أي(نصاً موازياً) .
تنساب الكلمات في القصيدة كانسياب الْمَاء، فحضور الماء هنا يعني حضور العاطفة، والبراءة -براءة الحب و صفاؤه- فالشاعر لم يجد أطهر وأنقى من الماء الزلال الصافي والعذب للتعبير عن شعوره الذي يختلج في صدره وبين أضلعه ..
إنها حالة من الشوق والحنين تداعب قلب الشاعر وتغرقه في أطراف بحرها الذي جذبه فغدا هلالا ينداح في خيال.
فالحالة النفسية هنا تحكم قبضتها على قلب وذهن الشاعر، تجعله يفصح عن حبه، وعشقه وشوقه لحبيبته، ولتلك الجلسة الحميمية التي جمعت بينهما على طاولة في ذاك اللقاء الغير قابل للنسيان . مما جعل الشاعر يصف حالته النفسية و يبوح بمشاعره المتداخلة في الماضي والحاضر . فهو لا يعبرعن مشاعره أثناء ذاك اللقاء فقط بل أيضا عن التي تحضره الآن وقد داهمته الذكرى وأعادته لماضيه الجميل الذي يفتقده .
فغدا واقفا وكأنه على خيط نور، يسرد نفسه في غزل الصفاء، ويطلب منها ألا ترمش .. فكأننا به جالسا أمام حبيبته ينظر لها، يتغزل فيها ويبحر في عينيها ويطلب منها ألا ترمش كي لا يستيقظ .. وكي يغرق أكثر ..
بوح لا يخلو من شفافية حالمة حيث تكثر التشبيهات وتتداخل فيصبح الشاعر قابلا للهطول، وللهبوب، بل يتحول لفحوى الماء إن مال أو أمال، هكذا يكون المقابل الحسي في هذه التشبيهات هو المطر والنسيم والماء . لقد أبانت الصور التشبيهية عن قدرة الشاعر وتمكنه في رسم صور تعطي فاعلية كبيرة تظهر مدى حب الشاعر وتوحده و تجسده في الأشياء ابتداء من اللحظة والمكان وانتهاء بالماء .
فنجد الشاعر يخاطب حبيبته ويطلب منها المجيء ليعيدا نفس الجلسة وبنفس المكان ، يسكبان الإقتعاد فتنة بالمكان، فاللحظة ساحرة والمكان جميل و هادئ لا ينقصه سوى حضورهما معا.
فالإنتقال هنا بين التشبيهات لم يأتِ عبثا بل بدافع الشوق الذي أجج الذكرى بذاكرة الشاعر فجاءت انطلاقا من رؤى الذات الشاعرة التي يحضرها الماضي بلحظة معينة ومكان معين فتجد نفسها مضطرة لهيمنة المشهد فتعيد رسم صور كانت بالماضي تزلفها وتسربها عبر الذاكرة بحبر من نُور.
إنها موسيقى *المونامور* التي أيقظت ذاكرة الشاعر ، وأشعلت فيه الحنين وقربته من مكان اللقاء، فكأنه الآن فيه بكل هدوءه ومتعلقاته (موسيقى المونامور _ الشموع _ خشب متآكل متصدع _ فنجال _ الدلة ) .. بل ويعيد شعوره الحسي (أصابع اللمس، وبرودة الكأس .. )
تقوم القصيدة على ربط المشهد الشعري أو مجموعة المشاهد الشعرية أو الصُّور التشبيهية الحسية والإستعارية بنفسية الشاعر . أما بُعدها الدلالي المتمثل في الصور والمشاهد التي يزخر بها فيخدم الوظائف النفسيّة التي لا تتحقق إلا من خلال الإستعمالات البيانية من أجل خلق التواصل بين الشاعر والمتلقي وإيصال المعنى لهذا الأخير .
فانسياب الماء وتفاعله مع إيقاع الذات وهطولها وصفاءها منبثق من صفاء اللحظة الشعرية المتدفّقة في حلقات تتشابك فيما بينها لتشكل فيما بعد مجموع حلقات: (حلقة الماء والشوق) ، (حلقة الماء والعشق) ، (حلقة الماء والحب) .. إلى أن تشكل في الآخير سلسلة من حلقات (الماء = الحياة).
كما هو معروف الماء هو مصدر الحياة ، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم سورة الأنبياء الآية 30 : ( .. وجعلنا من الماء كل شيء حي) فالحياة دائما مقرونة بالماء.. وهي هنا في القصيدة لا تعبر عن حياة عادية بل هي حياة قلوب وإيقاظ مشاعر خامدة .
لهذا جعل منه الشاعر”أي الماء” في قصيدته نواته الدلالية، يمتزج والمتخيل الشعري فيصبح الماء بكل صفائه و نقائه مرآة الشاعر الروحية التي تعكس صورا تشكيلية متماسكة، متجاوزة حدود الواقع . والقصيدة تشكلت عبر لوحات تشكيلية مائية متنوعة، يتعسّر معها على القارىء استخراج دلالاتها وفهمها الفهم الصحيح، فأصبحت مثل الماء كلما حاولنا إحكام قبضتنا عليه انفلت .
والماء بكل تحولاته، تجلياته، وبكل رموزه الدلالية وأبعاده الدينية والأسطورية والفلسفية يمثل السرد الوجودي لِلإنسَان . لن نتطرق للحديث عن كل هذه الأبعاد بل سنكتفي برؤية “ابن عربي” الصوفية للماء، فهو بالنسبة له يُعتبر دلالة عن الحب الإلهي وعن كل ما هو صوفي روحاني، وتعبير عميق عن الشوق والعشق، بل واعتبره اغراق في ملكوت الله وأسرار كونِه . يمثل عند ابن عربي الذوبان في العشق الإلهي . أما بالنسبة للشاعر فهو انصهار الذات العاشقة في المعشوقة، وتجليات هذا العشق في نفسية الشاعر التي سالت وانسكبت كما ينسكب الماء .
وشاعرنا على ما يبدو تدفَّق تدفُّق السحر بين كلمات القصيدة . مؤسسا لشعرية جديدة، شعرية تجمع في لحظة كتابتها حب، وشوق يقابله قلق ومعاناة الذات الشاعرة أثناء الكتابة فهي تسأل وتتلبسها أثناء حالة من القلق، التهادن والارتطام والتسكع ، والتيه بين المفردات، وعناق اللغات …
الشعر والماء يُلفت انتباهنا للتأمل، حيث تحضرالقصيدة بسخاء وثراء لغوي، تأتي فيه على لغة الماء والبوح، الماء والذاكرة (العودة للذكريات)، والماء والحُلُم، والماء والبعد أو المسافة. لهذا جاءت القصيدة كماء عذب يروي العطش لكن سهولة هضمه تجعل القارئ لا يشبع منه ولا يكتفي من شربه، فكلما شربت منه زاد عطشك وتفاقم ورغبت بالمزيد .
هكذا تتكرر لفظة الماء على المستوى التلفظي، أو على مستوى الألفاظ الدالّة عليه: (مائي _ بحرك _ زُلال _ هطول _ نسكب _ خرير _ شلال سحابي يرذ _ يمطرني )و بهذه المعجمية المهيمنة للماء تصبح القصيدة قوية مندفعة، متدافعة مثل شلال منسجم، متشابك ومتناغم بتناغم الغرفة أو الحجرة و هدوئها و أضوائها الشاعرية الخافتة وتصاعد موسيقى المونامور بين أجوائها الفاتنة ، و تلك الطاولة التي جمعت بينهما رغم اهترائها و تصدعها حملتهما بكل ثقل الشوق والعشق وخفة الحب التي جعلت قلبيهما يرفرفان مثل الفراش .
إنه شاعر اختار لغة الماء للغرق داخل بلاغته بكل رؤاه وتصوراته النابعة من مصدره الحي “الماء”
فتجربة الشاعر تيسير حرب بعيدة كل البعد عن المألوف، إذ يأخذنا معه بين عمق الدلالة و سحر اللغة إلى عالم الدهشة حيث طوّع الابجدية ورفرف فوق أعتاب الحروف، نزل رذاذا مدثرا من كلمات، كلمات ذات أجنحة تحملنا معه وحبيبته إلى عالم الأحلام، في لحظة تبدأ برفرفة تسري حياةً في غرفة ذات أنوار خافتة هادئة، تكاد تكون صامتة إلا من موسيقى “المونامور” التي تعزف على وتر الغياب وتوقظ الذاكرة وتشعل في النفس الذكريات وتملي على الشاعر أن يسكب نفسه حروفًا معتّقة.
فهذا الحضور اللحظي للماء ليس سوى حضور الذاكرة بكل ما تحمله من تبعات، وما يتزاحم داخلها من مشاعر .. إنه حضور المكان بكل مكوناته الزمانية والمكانية وبكل تجلياته .. وحضورها هي من خلال حضوره عبر ذاكرته، فهو حضور الذات عبر الذات .. و انصهار الشاعر في لحظة معينة، بزمن معين ومكان معين .. إنه رجوع للماضي الجميل لتلك الطاولة التي جمعتهما ..
القصيدة تنطوي على مفهوم مزج بين الذكرى، الذاكرة والإحساس ، إحساس بجميع الحواس المحسوسة (السمع، البصر، الشم، الذوق، اللمس) وغير محسوسة ، ومزج بين نورانية الحروف وعذوبة الكلمات التي تطفو فوق سطح الماء، كلمات لها دليل في قاموس اللغة إلا أنها مستعصية على الفهم، لغة لا يعرف عزفها إلا شاعرنا الذي طوعها فنزفته حروفا من ماء .
الصعوبة لا تكمن في استنباط المعنى بل في التركيب و التشكيلة المعقدة، مثلا هنا عندما أراد من حبيبته المكوث معه وعدم مغادرته، هو لم يطلب منها ببساطة المعنى الظاهر أن تبقى معهُ بل تجاوز ذاك المعنى إلى طلبه لها مجَازا أن تغمض عليه ليستقر بين جفنيها و لا يفارقها قبل أن تضطرب المسافات و ترتبك، فها هو سحابه مثقل يمطره واللحظات تفيض دمعا بينهما تستميل وتستمال ..
جاءت القصيدة في ثماني لوحات أو مشهديات، اللوحة الأولى ذكرفيها براءة الماء وهي قمة الحب الطاهر الذي جمع بينه وبين حبيبته، والثانية رسمت مشهدا نورانيا تمثل في سحرعينيها ما جعله يتغزل فِيهَا، والثالثة عن قابليته للهبوب والهطول بسبب هذا الحب أي هو كله بروحه و جسده و قلبه ينبض بحبها، والرابعة وصفت اشتهاء الشاعر للقاء ورفرفة المونامور، والخامسة الرغبة في مواصلة اللقاء و استكمال المشهد الرومانسي بوصف كل محتويات المكان وأهمها الإضاءة الخافتة للشموع، السادسة يدخل الشاعر مغامرة السؤال و يسبر أغوار الخيال، السابعة يدخل مغامرة الكتابة والتيه في معتركِ المفردات، وجزالة اللغة وقلق السطر لإستخراج المعنى، والثامنة رغبته الشديدة في الحلول والإقامة في الذات الأخرى ( الحبيبة) . فبناء الصور الشعرية اعتمدت على انعكاس الصورة من داخل المرآة فهي لم تعكس الصورة السطحية فقط بل عكست عمق الذات و ما يتقد فيها من مشاعر ورغبات وأمنيات يتسامى فيها الماء -كوسيلة تعبيرية- تفوق الخيال .
إن شعرية تيسير حرب لا تقتصر على الوظيفة الشعرية فقط، بل تتجاوز في بنياتها الكتابية المألوف و تغوص في العمق الغامض باحثة عن المعتم والمكبوت أو المهمل داخل الذات، تفصح عنه في شكل رغبات و أمنيات تترجم انفعال الشاعر و تفاعله مع الموسيقى “المونامور”التي أيقظت مشاعره و أججتها .فهو يكتب عكس المألوف والمتعارف عليه والثابت في الأذهان، بلغة غير متوقعة تتميز بالثراء في التعبير، فتدعو القارئ للدهشة والمتعة . لغة تذكي الإيقاع الشعري و تكثف المعنى إذ جاءت التشبيهات والاستعارات والمجازات بطراز خاص أثرى اللغة وعمق الدلالة .. شعرية منبثقة من معاناة ذات الشاعر بفعل الكتابة وليدة اللحظة الشعرية الممتدة بينه وبين ذاكرته سواء ذاكرته الذهنية الذاتية والروحية، أو ذاكرته الجسدية، أو ذاكرة الكتابة التي نُقشت فوق صفحة من ماء.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!