قراءة في همرات شوارسكوف للشاعر كريم عبد الله /بقلم : جون هنري سميث

تكتب القصائد بالصور الشعرية لا بالكلمات المفردة. الصورة انعكاس لحقيقة موضوعية في ذهن الشاعر-الانسان. الإنسان لا يفكر بالكلمات وإنما بالمفاهيم وما الكلمات إلا جزء من العلامات التي يعبر بها الانسان عما يجول في ذهنه من افكار وحالات وحقائق  فتسمى دوال. وعلى هذا الاساس لابد ان تكون العلامة منطوية على نفس الدالة في اذهان كل متداولي اللغة المعينة لكي يتم التواصل بوصفه الوظيفة الرئيسية للغة.  لكن هذه العلامة لا تمثل بمفردها صورة شعرية طالما ان لها دلالات ثابتة ومتطابقة تقريبا في اذهان الناس. فهل كلمة “وردة” وحدها تمثل صورة شعرية. بالتأكيد لا، لأنها كلمة واحدة لها دلالات متطابقة وثابتة تقريبا في اذهان كل متداولي تلك اللغة تقريبا بفارق التصورات والتجربة الذاتية. وعليه تكون الصورة الشعرية مختلفة المعنى. اما إذا اضفنا كلمة جميلة للوردة “وردة جميلة” تصير لدينا صورة شعرية متكونة من اتحاد كلمتين واحدة ملموسة والأخرى مجردة بينهما علاقة دلالية متمايزة عبر علاقة تناظرية. اذن فالصورة الشعرية لا تتكون إلا من اتحاد على الاقل كلمتين بينهما علاقة دلالية متمايزة عبر علاقة تناظرية. بهذه الكيفية تعمل الصورة الشعرية.

 

تمثل الصورة / الانطباع الذي يحدث في ذهن المتلقي عندما يستقبل علامة ما سواء كانت مكتوبة او مسموعة المجوع الكلي للخواص الرئيسية لتلك العلامة، بحيث يكون لها اكثر من دلالة في اذهان المتلقين كل بحسب تصوراته الذاتية. و ليس بالضرورة ان تتوافق هذه الدلالة مع الغاية الاساسية “للخلق” الذي ينشا بالأصل في ذهن الشاعر او مؤلف الصورة الشعرية . فإذا كانت الكلمات المفردة تعكس في اذهان المتلقيين دلالات متعارف عليها، فان الصورة الشعرية تعكس دلالات تستخدم للمرة الاولى. وهنا تكمن قيمة الصورة الشعرية اذا ما وضعناها تحت عنوان المعنى اللغوي الذي لا يشمل المعنى الحرفي للكلمات التي نشأت منها الصورة الشعرية وإنما يشمل المعاني العاطفية والموحية الاخرى  باعتبارها تفوها يمثل رمزا لغويا يعتمد معناه على عوامل سياقية لا على المعنى الحرفي المنطقي للكلمات وحدها في ترتيب معين. وهذا يقودنا الى تحديد طبيعة اللغة الشعرية وكيف تعمل بهدف الارتقاء  بالحس الجمالي لدى المتلقي المنفتح والمهيأ لتلقى محاسن اللغة. من اجل بلوغ هذه الغاية، نرى الشعراء العظام يغربلون مفرداتهم ويجودون مبانيهم ليخلقوا منها ان من البيان لسحر، مميزين بين المعاني الحرفية والمجازية لأنهم يدركون ان للغة طاقة ايحائية فذة، فهي بالإضافة الى ما تنطوي عليه من معان حرفية فأنها تنقل في نفس الان معان اضافية، معان اجتماعية-ثقافية تمثل كل شيء اخر غير المعنى الحرفي. فاللغة لا تنقل معلومات فحسب وإنما تنقل عاطفة  مستحثة. وهذا الايحاء لا يكون مجموعا كليا متطابقا وثابتا في ذهن المتلقين كما هي الحال بالنسبة للمعان الحرفية، وإنما يلقى بظلال شتى.

 

تتكون الصورة الشعرية من عقد بين كلمتين او اكثر بينهما علاقة دلالية متمايزة عبر علاقة تناظرية. عقد بين كلمة ملموسة وأخرى مجردة مثل : وردة جميلة او مجردة وأخرى ملموسة جميلة هي الوردة وملموسة ملموسة مثل ليل بهيم ومجردة مجردة وربما فعل وكلمة ملموسة وأخرى مجردة مثل تمزق قميص الليل وربما من الكلمات اكثر مثل “تمزق قميص الليل من الحب”. ومن هذا التعاقد تنشا الصور الشعرية.

 

ان قصائد النثر التعبيرية تركز جل اهتمامها على ما تختزنه  الصورة الشعرية من طاقة ايحائية لكي ترتقي بالحس الجمالي للمتلقي، فهي قصائد تفيض احاسيس وعواطف جياشة لا تستدرها الطاقة الحرفية للكلمات والجمل كمؤشرات للمعنى فحسب وإنما تتضافر معها عوامل سياقية الموسيقى وحركات الجسد وحتى الصوت المحض، لا الرموز التعبيرية فقط وإنما العلامات الدلالية كالإيماءة ايضا كجزء من اللغة. اذن هي تهتم بما توحي به عناصر  ذات قيمة  جمالية. فالإيحاء يمثل روح الشعر، انه ينبع من تضافر المعان الحرفية والضمنية معا، فمثلا عندما نقول “فتاة جميله” فأننا قد لا نقصد بذلك مفاتنها الجسمانية بل سحرها الذي هو شيء غير مفاتنها الجسمانية. فهذا السحر كمعنى لا ينتمي الى الحرفيات وإنما  ينتمي الى الضمنيات الذي يستشف من القصيدة ككل. ان هذا المعنى التعبيري هو فكرة او مجاز لكن المعنى الموحى هو فكرة او مجاز او عاطفة لا يفهمه العارفون بالنحو و معان المفردات، بل يفهمه اصحاب الذوق الرفيع الذين يفهمون جوهر الشعر.

 

وبما ان الايحاء كما اسلفت هو العنصر المهم بالشعر، فانه يحتل مكان الصدارة في القصيدة النثرية التعبيرية،  فيما تحتل فيها الكلمات ومعانيها الحرفية مكانة ثانوية توحي بفكرة او مجاز او عاطفة، وللإيحاء غاية هي اثارة العاطفة الجمالية لدى المتلقي. فإذا كانت الحرفيات تركز على طريقة المعالجة، فان الضمنيات تركز على ما تحدثه تلك الكلمات في ترتيبها من تأثير نهائي في ذهن وقلب المتلقي، لان مسعى القصائد هو ان تنقل التأثير العاطفي لتجربة انسانية متنوعة على ذهن الانسان وقلبه.

 

كريم عبد الله من الشعراء المعروفين في مجال قصيدة النثر التعبيرية، يتألق متوهجا في قصيدته “همرات شوارسكوف”، التي تنقل لنا عبر صورها الشعرية المتأججة طغيان وتغول امبراطوية اكتنزت اسباب القوة ” ل اسلحة الدمار الشامل نكهة”. ففاضت رائحتها “نكهة” كتمثيل لذلك الطغيان ، تعززه كلمة “جرأت” “الهمرات مسعورة” كصورة شعرية متكونة من المحسوس والمجرد، كدوال على تلك القوة وشراستها، فراحت تجوب “المحيطات البعيدة” حيث هذه الصورة تنفتح المدى مكانيا على مصراعيه امام المتلقى، فيتوافق عتو تلك القوة مع عتو المحيطات مع عتو الهمارات المسعورة التي راحت تنشر الخراب والدمار والمرض بقيادة اعورها الدجال شوارسكوف لكن اين؟ في ارض المخلص “مايتريا” فينشا بين شوارسكوف في عنوان القصيدة و مايتريا في متن القصيدة تقابل بين رمزين متناقضين قوتين الحرب والسلام الطغيان والعدل، فشوارسكوف في هامراته المسعورة ينشر خرابا ودمارا فيما يمثل مايتريا السلام والامان…واحد يمثل واقعا مريريا والأخر خيالا محضا. فهذه الهمرات المسعورة لا تعرف الرحمة كما مثلتها صورة “بضراوة معتلة”، انها تقتل الناس قتلا رهيبا لا تحد قسوته حدود تقتل الطفل والشيخ والرجل والمرأة والشاب والشابة، تدمر الحرث والنسل… لكي تسوق تجارتها “الهمبركر” لمدن افواهها اتقنت الحان المرارة والبؤس تنتظر مايتريا ليخلصها من عذابها تحت ظل طاغية لم يعرف له التاريخ مثيلا لكن بدل ان ياتيها مايتريا مخلصا جاءها طغيان اكبر من طغيان طاغيتها. ان اهالي هذه المدن مثلهم مثل قصيدة كفافي “في انتظار البرابرة” ينتظرون البرابرة ان يحتلوا ارضهم لكي يتخلصوا من ازماتهم، جاءهم  جزار قصم ظهرهم يغتصب حتى احلام التي تستر عوراتهم.  وكريم عبد الله لا يكفي برسم الصورة الشعرية الفذة وإنما يلتقط من الكلمات العامية المتداولة رموزا تمثل بعدا واقعا في القصيدة رغم رمزيتها مثل سوق هرج. ثم يمد البعد الزماني حيث يعيدنا الى سومر ” اطلق عنان خيولها السومرية ” فيتوافق البعدان الزماني والمكان من حيث الاتساع والشمولية.. فهذه الحضارة المسعورة لا تكتفي بتدمير البشر والحجر  وإنما دمرت حتى التاريخ بقذائفها والطبيعة جعلت من النهار ليلا ومن القمر مسخا، ولم تتوقف عند هذا الحد بل اطلق العنان لشراذمهم “يحطمون اجنحة الثور المجنح” بوصفة رمزا للقوة والجبروت والحماية في حضارة عندما تفاقم عنفوانها خلق نورا اضاء على البشرية ونشر المحبة والسلام، لا كما هي حضارة شوارسكوف لا تعرف غير التدمير والتقتيل ونشر الفتنة والإرهاب بذريعة الدفاع عن حقوق الانسان ونشر الديمقراطية.

 

 

 

( همرات شوارسكوف )*

 

لــ أسلحةِ الدمارِ الشامل نكهةٌ جرّأتِ الهمرات المسعورةِ تركبُ المحيطاتِ البعيدةِ وتملأُ الفضاءات بـ الجرادِ الأسود تبذرُ الأيدز في أرضِ (  مايتريا )* بضراوةٍ معتلّةٍ لـ تكتشفَ خرائطَ الهمبركر أفواهَ المدنِ المملوءةِ الحاناً مريرة مقتنعةً بــ جدوى اللعبةِ وإغتصابِ الأحلام القادمةِ تغمضُ عيونها الشرهة ملتهمة ضجيجَ الشوارع ومحلاّتِ ( سوق الهرج )* وأزهارَ دجلة . القرى الهناكَ أطلقتْ عنانَ خيولها السومريّة بــ صدورها السمراءَ تتفشّى نيرانها مستكفية تركّزُ قذائفَها الحمراءَ تهشمُ الأختامَ الأسطوانيّة على سروجِ ( إنانا )* المذهّبةِ فاتحةً ابوابَ جهنمَ ( تأكلُ الأخضرَ بـ سعرِ اليابس )* تتواثبُ تحشرُ الصباحَ في سردابِ الليلِ المكفهر تزيّفُ ضوء القمر . على هوادجها القاسيةِ تحملُ الضجيجَ ورؤوساً نوويّةً خيالها المبتذل يتبجحُ تبث ُّ فوضاها أقزاماً يحطّمونَ ( أجنحة الثورِ )* خلفَ حواجزَ ( نمرود )* تصطفُ خطبهم الرعناءَ مفخّخة تسوّرُ التاريخَ  بـ المهرجينَ إساءاتهم متاحف آسنة تتناحرُ فيها الغربانَ فـ تشمّرُ وساوسها مستغرقة في ثيابِ الفتنةِ تحتضرُ .

 

 

 

*شوارسكوف : القائد العام للقوات الاميركية في حرب الخليج ضد العراق .

 

*مايتريا : المعلم العالمي .

 

*سوق الهرج : من الاسواق المزدحمة في وسط بغداد .

 

*إنانا : ابنة لـ آن رب السماء في اوروك.

 

*تأكلُ الأخضرَ بـ سعرِ اليابس : من الامثال الشعبية العراقية .

 

*أجنحة الثورِ : الثور المجنح .

 

*نمرود : تقع في العراق، وتحديداً إلى الجنوب من مدينة الموصل العراقية؛

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!