واقعيّة الخلاص وشعريّته في ديوان “تلالي تضيق بعوسجها” بقلم : الناقدة اللبنانية مادونا عسكر/ لبنان

 

 

حين تخذلك جميع الأشياء الّتي حولك، لا تحاول أن تثق بها مجدّداً، فقط حاول أن تثق بأنّك تستطيع العيش دونها“. (وليم شكسبير)

عندما يرتقي الحزن إلى مستوى الشّعر ومشروعه المؤنسن للإنسان المؤلّه للشّاعر، يستحيل كياناً حاضراً في القصيدة. يهدف إلى الارتقاء بالقارئ من جهة، وتهذيب سلوك نفسه الحزينة كيما يكتشف إنسانيّته على ضوء الشّعر. من جهة أخرى تتبيّن قدرة الشّاعر على تجسيد الكلمة، فتتراءى للقارئ مرآة تعكس له واقعه، محيطه، وأحواله الظّاهريّة والنّفسيّة العميقة. ولعلّ في ديوان “تلالي تضيق بعوسجها” للشّاعر الأردنيّ عمّار الجنيدينقلاً حرفيّاً واقعيّاً، إن جاز التّعبير، لمساحة الحزن الّتي تحتلّ حياة الإنسان بشكل عام، وحياة الشّاعر بشكل خاصّ. فالعنوان يحمل في دلالته هذا الحزن الّذي ضاق بالشّاعر حدّ الإحساس بالضّجروالملل منه. ويدلّ الفعل المضارع (تضيق) باستمرار الحالة الوجوديّة المتجذّرة بالحزن. وستشهد القصائد كمّاً من العبارات العنيفة الدّالّة على حالة الحزن الّتي تغمر شخص الشّاعر منذ البدء.

ولعلّ ذروة الحزن الحاضرة في آخر قصيدة في الدّيوان “في البدء” (121)، تعبّر عن مبدأ الحزن وليس بدايته. وكأنّي بالشّاعر لا يحدّد بداية الحزن ونهايته. فتراه يستجدي في قصائده لحظة فرح حيّة تثور على الحالة الوجوديّة الحزينة.

في البدءِ

كانت الرّغبة

ثمّ كان الظّلم

ثمّ كنت أنا..

تلك الّذروة الّتي لو شاء الشّاعر أن يمنحها الصّدارة في الدّيوان لما أتت كاشفة لعمق الحزن المتجذّر فيه. ولمّا كان الحديث عن البدء/ المبدأ، حملنا الشّاعر إلى كونيّة اللّحظة، إلى لحظة ما بعد الخلق، لحظة السّقوط الإنسانيّ الذّي أشار إليه بالرّغبة. (كانت الرّغبة/ ثمّ كان الظّلم). لقد ربط الشّاعر الرّغبة بالظّلم ليحدّد أصول الحزن والألم الّتي تعود إلى السّلوك الإنسانيّ. فتظهر فظاعة السّلوك الإنسانيّ وجنوحه إلى الظّلم المتلازم والرّغبة. وكأنّي بالرّغبة فعل مناهض للحبّ فتولّد الظّلم. ولئن كان الظّلم كان الشّاعر. (ثمّ كنت أنا). ما يقود القارئ إلى إدراك وعيٍ عميق في ذات الشّاعر المصلوبة على خشبة الظّلم الإنسانيّ، الحاملة همّه والباحثة عن الخلاص.

أعرِفُ أنّ التّاريخ تَعِبٌ؛

يلوبُ بمواجعه؛

يتربَّصُ بوهج القنديل الكابي

وأعرف أنّني

في هذه الجلجلة

وحيدٌ،

وترانيمُ حضوركِ ال تاهت

في مواجدي المتعبة

بعدما تمكّن الجرحُ منّي،

وبعدما ضاعت

في سراديب الأمسِ

كل آمالي،

لكن صوتكِ الحنون

إلى عهد من الذّكريات

يعيدُ لهفتي.. (29)

قراءة عكسيّة للدّيوان، أي من النّهاية إلى البداية، تكشف انطلاق الشّاعر من المحيط الأكبر/ الوجود، إلى المحيط الأصغر/الوطن العربي إلى الوطن، إلى ذات الشّاعر/ العمق الدّاخليّ. تلك القراءة مفتاح قلب الشّاعر، لا سيّما الدّيوان.

الشّمس في بلادي:

تطلع من كلّ جهات الأرض

إلاّ

من جهة الحرّيّة!! (119)

يقول المفكّر المصري أحمد لطفي السيد: “إنّي لأعجب من الّذي يظنّ الحياة شيئاً والحرّيّة شيئاً آخر، ولا يريد أن يقتنع بأنّ الحرّيّة هي المقوّم الأوّل للحياة وأن لا حياة إلّا بالحرّيّة“. وفي فكر الشّاعر عمّار الجنيدي قناعة بامّحاء المقوّم الأوّل للحياة، وبالتّالي امّحاء الحياة ذاتها. ويعرب عن همّ وطنيّ إنسانيّ ممتزج بالظّلم. والشّمس الدّالّة على الحياة لا تعكس الحرّيّة. الوجود المنغمس في القهر والظّلم والعبوديّة يرتدّ على الوطن، ومن ثَمّ على الإنسان. لا حرّيّة، لا حياة، حتّى وإن استمرّت الحركة الحياتيّة. وتظهر الحركة في هذه السّطور ثقيلة. فالإنسان تجرّه قيوده وهو في شبه موت. يوهم نفسه أنّه حيّ، إلّأ أنّ المستقبل الفاقد الملامح لا يعزّز حضور الحلم.

مزيداً من الوهم

يحتاج الحلم

كي يقنع بالمستحيل.. (117)

ثقل الحركة عام وشامل ويطال الوطن العربيّ بأسره. ذاك المنحني حتّى انعدام القدرة على النّهوض والتعقّل والمضيّ نحو الحرّيّة:

في زمن الصّمت العربي

في زمن الانحناء؛

تهزم البطولة

وتجلد مفردات الحبّ،

وتصير أيّام العرب

كلّها:

داحس

والغبراء.. (107)

الوطن العربيّ منغمس بوحول العبوديّة والصّمت المساوي للخنوع والاستسلام وربّما التّواطؤ. فيحيا على أمجاد تاريخيّة تخدّر حركته الّتي من المفروض أن تنطلق نحو المستقبل لتؤسّس لتاريخ جديد.

وعي الشّاعر للواقع يفوق قدرته على الاقتناع بالخلاص. لكنّه من جهة أخرى هل يوعز الخلاص للشّعر أم أنّه يطرح مهمّة الشّعر الخلاصيّة؟

الشّعر كعالم غريب عن الأرضيّات يمكّن الشّاعر من الاغتراب بحثاً عن الحرّيّة والجمال. قد لا يتمكّن من فرضه واقعيّاً كعامل أساسيّ لتبديل الحزن المتجذّر، إلّا أنّه على صعيد شخصيّ يحاول أن ينتشل ذاته من الواقع ليمكث في عوالم الشّعر. فيطرح جدليّة الخلاص بالشّعر. فمن جهة يرتبط الشّاعر بشخص القصيدة، أو بالشّخص/ الوحي. أي المحبوب الّذي يمثّل الإلهام وبالتّالي من خلاله يكون الخلاص.

مملكةٌ من الغموض أنتِ

محيّرة مثل لغزٍ

تجمّدت عند حدوده الحلول.

فلا يروي ظمأ القصيدة إلاّك (63)

/

أبحث عمن يردّ إليّ تمرّدي؛

عمّن يقرأ طالعي

ويروي ظمأ القصيدة

فلا أجد إلاّكِ..

إلاّكِ.. (69)

/

فقَدَرُ القصيدة أن تبقى

أن تشمخ وتعلو

وإلى عتمة المصير يرحل الجاحدون.. (98).

من خلال هذه السّطور يجنّب الشّاعر عالم الشّعر وينزّهه عن الحزن والكرب المتأصّل في الوجود. فيفصل بين عالمين، عالم الشّعر، وعالم الوجود. وبالتّالي فالدّيوان وإن كان يطرح إشكاليّات عدّة، ويسلّط الضّوء على الغياب الإنسانيّ. إلّا أنّه يدعو القارئ بشكل أو بآخر إلى الولوج في عالم الشّعر حتّى يحقّق نوعاً منالخلاص يعوّضه عن خسارة عالم الوجود، مع أنّه من جهة أخرى، يبدو أنّ الخلاص بالشّعر مشكوك فيه:

تمخّض الشاعرُ

وهو يحلم بالحريةِ

جاءه الطلق؛

فأجهض قصيدة!!.. (115)

هل أراد الشّاعر أن يقول إنّ الحزن بلغ عوالم الشّعر فافتقد لماهيّته الخلاصيّة؟ أم أنّ الحزن المتملّك من شخصه والمستحوذ على قلبه، حال دون الانفتاح على نور الشّعر؟ فالفعل (أجهض) مرادف لفعل القتل يعبّر عن حالة الشاعر المتأرجحة بين الأمل بالخلاص بالشّعر وبين حلم الحرّيّة. يحلم بالحرّيّة فيجهض قصيدة. فالحرّيّة إذن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشّعر، وفي يد الشّاعر كلّ السّلطة لإحداث الخلاص أو لا؛ ما يعني أنّ الحلم بالحرّيّة منافٍ والشّعر، والأصحّ أن يقال إنّ الحرّيّة هي الشّعر، والشّاعر رسولها وممتلكها. والحلم بها يعني افتقادها، في حين أنّها يقين بين يديه.

لقد أتت تراتبيّة القصائد في الدّيوان مشابهة لحالة الشّاعر، ولتقلّب حالات الحزن في نفسه. وأتى الدّيوان حصيلة تأمّل وجوديّ كونيّ بالحزن المتأصّل في الكون.فاستهلّ الشّاعر ديوانه بـ”إغفاءة على صدر الرّيح” (21)، نقلته من هذا العالم إلى عالم الشّعر، ليرى العالم بجلاء ووضوح، ويتبيّن حزنه فيحمله همّاً شعريّاً يسير به وحيداً في طريق جلجلة تنتهي ببزوغ فجر الشّعر.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!