وقفة مع نص للشاعر اياد حلمي شوشاري بقلم أحمد وليد

قليلٌ عطركِ 
في المكان…
وكثيرٌ أنا
في جنوني…؟!
الشاعر اياد حلمي الشوشاري
قليلُ عطرها *هي* يساوي كثيرَ جنونه *هو*، معادلة تعلن عكس ما قيل فيصبح قليلها بالنسبة له كثير جدا، و هذا يوحي إلى سيطرة الشخصية المحورية على الشاعر، فهي تشكِّل حيزا كبيرا بحياته ، تملأ عالمه و تشغل تفكيره، لدرجة أنه أمام قليلِ عطرها يعلن استسلامه، خضوعه و انسياقه لها..
و إذا خمّنا ما يحدث أو فيما يفكر الشاعر، ندرك أن هذا العطر ليس له حضور فعلي فهو ليس موجود الآن، لا يوجد إلا بذاكرته هو (أي الشاعر)، يشتمُّه من خلال استحضاره عبر الذاكرة، و ربما هذا العطر قد علِق بمسامه و إلتصق به فأصبح لا يشم إلا عطرها الذي يغافله، يفوحُ و يعطر المكان في لحظة غير متوقعة تجعله (الشاعر) يفقد أعصابه، صبره، و يثور لدرجة الجنون..
جنون كثيرٌ مقابل القليل من العطر، فالشاعر هنا يعيش لحظة من الهيجان الداخلي، يصارع نفسه و يصارع عطرها “الحبيبة” الذي يجلبه إليه، يشده، و يسيطر عليه ، في لحظة يتوقف فيها عن التفكير إلا من التفكير فيها هي، و في لحظة تجمعهما معا، ينساق في تفكيره الجنوني الذي يفقده السيطرة على نفسه و يخرجه من وعيه..
قليلٌ عطركِ
في المكان…
وكثيرٌ أنا
في جنوني…؟!
فكأننا به يخاطبها و يحذرها منه و من جنونه. فالصورة الشعرية تبثُّ لنا مشاعر الشاعر، عواطفه، و حبه الكبير لحبيبته التي يخاطبها و يوجه كلامه لها، ربما مباشرة فنراها الآن أمامه تنظر له و هو يقول ما يقول كنوع من الغزل، أو تغزُّلًا فيها و الإفصاح عن حبه لها، و قد يقول ما قاله في سرِّه حين تذكرها و أشتمّ عطرها و كأنه أحسّ حضورها و رأى طيفها الذي يزوره في أحلام اليقظة. و الخطاب هنا جاء ثنائيا فهو يحدثها بطريقة غير مباشرة إذ يوجه الخطاب لها عن طريق محادثته لنفسه، فيخبرها و يخبر نفسه أيضا أن عطرها قليل و هذه القلّة يقابلها الغياب أي قلّة حضورها و غيابها الكثير و المفرط لدرجة يصاب معها الشاعر بالجنون.
فنجده يقول: “أنتِ ( قليلٌ ) و أنا ( كثيرٌ ) قلة و كثرة يقابلها.” حضور” و.”غياب”، غيابها الفعلي بعالمه الواقعي و حضورها المستمر في خياله و عبر ذاكرته،.”عطرها”هي يقابله” جنونه” هو.. في مشهد رومانسي و كأننا أمام لحظة توثق كل شيء، توثق للزمان الذي يقاس باللحظة الشعورية التي فاح فيها عطرها و ملأ المكان، و توثق للمكان و هو مطلق و لا وجود له إلا بوجود عطرها الذي يرمز لوجوده هو أي الشاعر، فلا مكان محدد سوى المكان الذي أعلن عن حضورها في عطرها “قليل عطرك.. في المكان”. فالشاعر لم يُشِر للحظة حضورها و لم يعطِ المكان و الزمان مساحة كافية الشيء الذي عتّم الرؤيا و طمسَ المغزى الحقيقي و الهدف من وراء هذه الكتابة، فالشاعر لم يشرك المتلقي معه في مشاعره و لم يحاول توصيل المعنى له عن طريق المشاهدة و إلتقاط لحظة شعورية تفي بالغرض بل جعل كلّ شيء بينه و بينها في شبه خطاب لا بداية له و لا نهاية و كأن المتلقي يحضر الكلام في وسطه لا يعرف البداية و لم يُعطٓ فرصة لتخمين النهاية.. و هكذا لا يمكن للقارئ تخمين أو معرفة ما إذا كان الشاعر على خلاف مع حبيبته أم لا.
زيادة على أنه لم يعبر عن مشاعره لها و لم يصف لنا حالته في هذه اللحظة الشعورية، حتى أنه لا يكاد يقرُّ بها و لا يذكرها لنا، بل تجاوزها إلى رسم تفاصيل جزئية عن حبيبته و أناقتها المتمثلة في عطرها و عن حبّه الشديد الذي يظهر من خلال جنونه.
هكذا استطاع الشاعر عبر هذه الومضة الخاطفة أن يرسم أبعادا نفسية تشير لتعبه، و آلامه التي يتجرعها جرّاء غياب حبيبته، و مشاعره التي تسيطر عليه.. و لجوءه لإستحضار عطرها عبر الذاكرة كحلٍّ مؤقت، الشيء الذي نتج عنه جنونه الذي يزداد و يكثر كلما قلّ عطرها بالمكان.
هذا الجنون سببه تلك المشاعر القوية و المتهيجة التي تسيطر على الشاعر.. فحين يساوي بين العطر و الجنون فهو لا يقصد جنونه الفعلي بقدر ما يرمي إلى التعبير عن حبه الكبير و عشقه لحبيبته حد الجنون.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!