رحابة الحبّ في منظومة الله الشّاملة/ بقلم الناقدة والأديبة اللبنانية مادونا عسكر

هل يلغي التّصوّف الحدود الدّينيّة ويعود بالمتصوّف إلى جذوره المتجرّدة من القالب الّذي سُكب فيه؟ أم يحافظ كلّ متصوّف على منهجه الدّينيّ، مستخدماً إيّاه كوسيلة لبلوغ تمام العشق الإلهيّ؟ أم هو التّحرّر من  كلّ قيد تشريعيّ يشدّ الإنسان إلى عالم الانغلاق والتّقوقع داخل الأيديولوجيّة الدّينيّة لينطلق نحو الحبّ والحبّ فقط، فيقول مع محيي الدّين بن عربي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت

ركائبه فالحبّ ديني وإيماني

يلتقي المتصوّفون العاشقون في نقطة تتوسّط عاموديّة العلاقة مع الله، وأفقيّة العلاقة مع الإنسان.  وكأنّي بهم يمتزجون بالحبّ حتّى منتهاه، ويغتسلون به، فيتحرّر كيانهم ويصبحون به خليقة جديدة متجدّد تتحدّث لغة العشق. وإذ يقارن ابن عربي سلوك ما قبل الانغماس بالحبّ وما بعده (قد كنت/ قد صار). وبين العبارتين تحتجب المسيرة قبل اكتشاف حقيقة الحبّ الّتي جذبته إلى فوق فانجذب وانفتح على الآخر. (قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي // إذا لم يكن ديني إلى دينه داني)، وتتركّز في هذا البيت قوّة التّقوقع على الذّات النّاتجة عن الخوف من الآخر المختلف. فابن عربي يشير إلى فعل نكران للآخر إذا ما كان أخاً في الانتماء الدّينيّ. والنّكران رفض قاطع وازدراء بحضور الآخر بل إلغاء له. لكنّ العشق الإلهيّ الّذي ينسكب في قلب الإنسان يجعل من هذا القلب موطنا للحبّ. قلب إنسانيّ يستوعب حضور الله لا بد من أنّه يستحيل إلى رحابة عشقيّة ضمّت كل إنسان.

لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة

فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

لقد صار القلب منخرطاً في مشروع الله، قابلاً لامتصاص النّور الإلهيّ الّذي يفيض على الجميع. لذلك تحدّث ابن عربي عن قبول كلّ صورة، أي أنّ الإنسان العاشق لله يفتّش عن الله في كلّ صورة ويقبل باحترام ومحبّة انتماء الآخر.

أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت

ركائبه فالحبّ ديني وإيماني

إنّ هذا العشق الإلهيّ الّذي يعصف بقلب الإنسان يجرّده ويحرّره من قيود المجتمع والدّين والأيديولوجيّات والنّظريّات والمعرفة النّاقصة وادّعاء امتلاك الحقيقة. ويصبح المفهوم الدّينيّ أبعد ما يكون عن موروث يحمله الإنسان خوفاً أو إلزاماً. ويستحيل علاقة حميمة وثيقة بين الله والإنسان من خلال الإنسان.

وليس بعيداً عن هذا المفهوم يقول القدّيس دوريثيؤس: “افترضوا دائرة مرسومة على الأرض، تصوّروا أنّ هذه الدّائرة هي العالم ومركزها هو الله. أنصاف قطر الدّائرة هى الطّرق المختلفة أو أنواع الحياة الّتى يحياها البشر. أمّا القدّيسون الرّاغبون فى الاقتراب إلى الله فإنّهم عندما يسيرون نحو وسط الدّائرة وبقدر ما يتعمقون إلى الدّاخل يقتربون بعضهم من بعض، كما يقتربون فى نفس الوقت من الله. فبقدر ما يقتربون من الله يقتربون من بعضهم البعض. وبقدر ما يقتربون من بعضهم البعض يقتربون من الله، والعكس صحيح“.

(الحبّ ديني وإيماني) تختصر سرّ الوجود وغايته. حقيقة يلامسها العاشقون فقط، أولئك الّذين تجرّدوا من كلّ شيء وافتقروا إلى الله ليغتنوا ويمتلئوا به فيمتلكوا كلّ شيء.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!