قراءة شعرية ورؤيا في تَبَارِيح الصَّمتْ للشاعرة نزيهة شلخي موسى – الجزائر

:
بقلم الشاعر محمد خالد النبالي

بداية للإبداع في الشعر النثري علامة فارقة عند شاعرة من الجزائر وهبت نفسها وقلمها للكلمة في وجع الإنسان و الأوطان والمرأة ،فكانت الكلمة الرصينة في قالب نثري مميز , نثرية تحمل الهوية العربية وفيها من الحداثة وما بعد الحداثة وهذا ما نبحث عنه نحن كتاب النثر في عالمنا العربي وهو خلق هوية للنثرية ,بعد أن فقدنا البوصلة لطريق الشعر العربي بأجناسه الأدبية ومما سبب اختلافات كثيرة حول القصيدة النثرية وخاصة أن الكثير من الكُتّاب أغرق النثرية بالغموض والطلاسم وكانت عبارة عن قطعة جافة وكأنها من الشعر الغربي المترجم , مما أرهق المتلقي ،فأصبح لزاماً علينا أن نعدّل المسير ونخلق هوية للنثرية بلغة سلسة واضحة المعالم والفكرة مع توفر خصائص النثر في النثيرة وبما أن الشعراء العرب يملكون الإحساس وعرفوا الموسيقى في الشعر الموزون والموسيقى متجذرة في الروح العربية نرى بأن هناك البعض من الكتّاب العرب ابدعوا بإدخال الايقاع أو التناغمية في قصيدة النثر , وهذا ما كان من الشاعرة نزيهة في مجموعتها الشعرية “تباريح الصمت”
“وللصمت أبجديات خاصة في الشعر النثري عند الشاعرة نزيهة ” .
ويعتبر الابداع في الشعر نتاج كبير من المعرفة وجماليات التجربة البشرية عبر العصور المتلاحقة , وقد ولد ونشأ مع الانسان وهو مرتبط حدّ التلاصق ورباط وثيق بمدى الاحساس والشعور و الإدراك وكان البحث دائماً عن المعرفة عن اماكن وعوالم الدهشة في الشعر و يتنامى الشعر مع الانسان فهو اصلاً شاعر بالفطرة من خلال معايشته و احساسه ومحاكاته الطبيعة التي نشأ فيها ويتعايش معها ودائما نجده يعبر عن نفسه وما يجول بخاطره ووجدانه , وقد عبر من خلال التصاقه بالطبيعة وارتباطه بالدين فكانت عبارة عن ملاحم وطقوس أثرت بحياة الانسان وجاء التعبير سواء شعرا او نثرا ,محاكاته للطبيعة التي يعيش فيها وتعبيره عن نفسه وما يجول في خاطره ووجدانه وقد عبر عن ذلك من خلال ملاحمه وطقوسه الدينية سواء عبر عن ذلك شعراً وبعد ذلك انتقل من حالة التعبير لحالة الاكتشاف وبدا يكتب ويدوّن ما يجري حوله من احداث وسلوكيات من حروب او تديّن او الغزل وهو الذي قرأ في ملحمة كلكامش فأصبح الشاعر يملك رأي وفي حالة بحث مستمر عن كل جديد من خلال الفكر واللغة ومن ثم تحوير اللغة كما يحب وتتناسب مع افكاره وشعوره و إحساسه المرهف ,وما الإنسان إلا شاعر قبل عصور التدوين ,وقد كتب بعدة اشكال و ألوان مختلفة خاطرة او شعراً او نثراً وبعد هذه العصور من الشعر الموزون عاد لقصيدة النثر والتي اصلا بدأ فيها ومنها بعد ان تطورت المهارات عنده والمعرفة من خلال التجارب السابقة .
لعل وجه الفرق بين الشعر والنثر بأن الابداع بقصيدة النثر في امكانية تجاوز القيود وكسر الحدود فهي تحتمل و واسعة الأفق ويمكن للشاعر ان ينطلق في عالم الخيال الابداعي ويرافق النثرية لغة كبيرة مميزة واسعة المعاني وتعتمد على مدى ثقافة الشاعر وكما اشرت بالإضافة لإحساسه العالي بالموسيقى و الايقاع من حيث معاني المفردات , والشاعر الموهوب الذي يملك ملكة الشعر هو الذي يغير ويصنع واقع جديد ونقطة انطلاقه لخياله الابداعي , فهذا الابداع مرتبط ارتباط وثيق في البيئة والزمان ونشير بأن هذا أمر مهم .
ونعلم بأن قصيدة النثر بخصائصها لا تنتمي لمدرسة أدبية معينة ،ولا تحدها وتقيدها أي نظريات فهي تمثل نفسها وشخصية كاتبها وهي الهوية التي تدل عليه , وقال الشاعر أدونيس في كتابه زمن الشعر ، ص15 “لن تسكن القصيدة الحديثة في أي شكل لأنها تكشف عن إحساس بتموج العالم والإنسان”
وعلى الشاعر أن يضيف للواقع الذي يعيشه كما يضيف لنفسه وكتاباته الشعرية وإلا تتحول القصيدة لزخارف لغوية لا نأخذ منها ولا نرجو منه شيء فتكون الكتابة او القصيدة مجرد كلمات بلا معنى , وعلى القطعة الشعرية أن تضيف طاقات وهالات للواقع الذي ولدت منه , ولا تقيد نفسها برمزية عميقة وعقيمة وطلاسم تحتاج لفك الشيفرة ..! وعلى الشاعر أن لا يبتعد عن الواقع الذي يعيشه وحياته اليومية بل يجب ان تعبر النثرية عن هذه الحياة بذاتها .
وما هذه المقدمة الطويلة إلا لنوضح بأن الشعر النثري هو حياة بكاملها وتصور الشاعرة نزيهة كما هي فلم تبتعد عن الواقع .
ومن خلال قراءتي لديوان تباريح الصمت فأن الصور التعبيرية للكلمات في قصائدها وما تحمله من معاني والرموز الموجودة مع اضافة تراكيب صورية للشاعرة هي التي منحت شعرها النثري ايقاعات مختلفة وتفرد خاص بها كل هذه الامور تدل على جماليات كثيرة في المعنى وكلمات محلقة لدى الشاعرة ومفردات متميزة جميل وهذه المفردات تدل على مدى معرفة الشاعرة الواسعة من خلال لغتها الثرية وقراءتها للأدب العربي بأصنافه ,ولم تتقيد بأي قيود من المعاني ولعمري ان هذه موهبة تستحق الوقوف عند الشاعرة نزيهة والتي تنطلق من موهبتها الشعرية ,فهي تمتلك الادراك الفني والمعرفي وأدوات الشعر النثري ,
والشاعرة في مجموعتها الشعرية تباريح الصمت متسربلة بصورها الشعرية وكلماتها والمواعيد مع الفرح المؤجل .
وقد صنعت لكل قصيدة تناغمية و ايقاع داخلي مختلف حسب القصيدة وعندما نقرأ فاتحة الديوان قصيدة “إلى متى ” تشعر بالظلام والظلم والغربة داخل النفس والوطن ويصل الحد حد الصراخ والصياح حينا أخر في زمن يمشي كالسلحفاة ببطء شديد وتخترق جدار الصوت حتى تصل للوشوشة وتعود للصمت وكأن الصراخ في بئر ولا يترك غير الصدى وهذا الصدى يؤذي الجبال فكيف لنفسية شاعرة تبتغي الخلاص حتى لو بقي الوجع فهي لا تريد حتى السماع لعلها تختصر العذاب ومدى الصمت حتى تتخلص من حيرتها ومن التوهان والضياع فلا أحد مجيب للصراخ والنداء , فأي صورة شعرية هذه وقد خلقت الدهشة ومحلقة عاليا في عوالم الشعر,
إلَى مَتَى ٠٠٠؟
————
سَيَبْقى وَجْهُكَ العَارِي مِـنْك
يُعَاكِسُ أَرْصِفَةَ الزَّمَن
يَا أيُّهَا الوَجَعُ المُمْتَد
عَلَى الجَسَدِ المُمَزّقِ
بَيْنَ الذِكْرَيات المُسْتَلقِيةِ
عِندَ تُخُومِ النِسْيان المُنْتَشِي
بِرحِيقِ الإغْتِرَاب
////
ألَمْ تَسْأم مِنْ انتِظاَر الوَهَم
القَابِع عِنْدَ مَرافِئ الحُلْم العَنِيد
ألم تَكْتَفِ بِمَا حَصَدتَهُ
مِنْ حُطَام الأمْنيات الّتي
تَركَتْكَ كَسِيرًا عنْدَ مُفْتَرَقِ الخَيبَة
أُرِيدُ مِنْك أن تَرحَلَ بعِيدًا
إلَى أقَاصِي العُمر .
حَتّى لا أسْمَع وَشْوشَة
تَوسُلاتِكِ الّتِي تُدَوِي المكان

ومن خلال القراءة المتعمقة لديوان تباريح الصمت حاولت الغوص في مجموعتها الشعرية وهذا الصمت ورغم ان الشاعرة لم تطرق او تتعامل معه مباشرة بل تناولت ظلال الصمت وذلك من خلال عنوان الديوان في قصيدتها تباريح الصمت وعلى طاولة اللقاء الأخير تبعثر الكلام والحلم ووجهت الخطاب بقوة وتوجه اللوم تلو اللوم والعتاب تلو العتاب بلغة رصينة دون تجريح لذلك الذي لم يقدرها كإنسانة وهنا نشعر بإنسانية الشاعر وخلقها الرفيع فرغم الظلم والنكران والهجر إلا انها لم تسيء بل قالت …
و رُحْتُ أَكْتُبكَ مِنْ نَقَاءٍ
بِحبْرٍ لَمْ يُدَنِسْهُ كَدَرْ
و أرَدْتُكَ أَنْ تَكُونَ
مَلاَكًا مِنَ البَشَر
وما ضيعت بل أنتَ ما ضاع وتاه وتكمل بقولها وهنا تصل لذروة الوجع والتفرد والتوحد مع القصيد .
ضَيَعْتُ يَدَكَ بَعْدمَا
كُنْتَ أقْرَب َإليّ مِنَ الوَتِيْنِ
و تَشَتَت دُرُوبُنَا
و لَمْ أَعُد أُفَرِّقُ
بَيْن كلِّ تلك َ الوُجُوه
المُصْطَفَةِ عند
تَبَاريحِ الصّمت .
وتستمر الشاعرة بعدة اتجاهات وتشابكات الحياة في مجموعتها
وهذا التشتت أحيانا للوضع الذي تعيشه المجتمعات وهي التي تحيط بالشاعرة وهذا اثر في الشاعر بشكل عام فالشاعر يحمل هموم الوطن و الانسان والشاعرة نزيهة تأثرت كثيرا بكل ما يحدث من تناقضات الحياة وتسبب لدى الشاعر بشيء يسمى فوضى الحواس , مما يسبب القلق الدائم لذات الشاعرة .
ونرى في النص الشعري الحداثي حوار دائم و دينامي مع الأشياء ، وهذا الحوار محمل ومشحون بقوة وقيم أصيلة تتسم بالتشابك والعمق المحبب ،حوار يقوم بتشكيل غزل النسيج الداخلي للنص وربط الاجزاء مع بعضها في النص الشعري، بقدرات العقل على نحو كبير ومدهش وجاذب لمتعة المتلقي في قصائد الشاعرة نزيهة , ومن هنا يخرج النشاط الشعري من إطار إشباع الحاجة وحسب ، فهو حديث للنفس فيه خلق خصب جدا للذاكرة ، وتملك الشاعرة قدرة لا متناهية في الابداع وخلق صور شعرية كبيرة ومتناهية في الابداع .
يقول فلوبير : ” ان نثرا لا يستجيب لإيقاع الرئة البشرية لا يستحق ذرة من الاهتمام ” بمعنى ان النص الشعري النثري المحلق والمغامر والذي يتجاوز القوالب الجاهزة والذي يحقق تجليات عند لحظة الوعي للتعبير عن الارهاص الفكري وانفعال الذات المشعة بالوهج الشاعرة ومع اعتماد التكثيف المتقن والرمز العقلاني و الايجاز والاقتصاد في اللغة كي تنجلي تجليات الفضاء الشعري مما يؤدي لخلق جماليات فنية تُسهم في اثراء النص الشعري وتُحرك المخزون الفكري للمتلقي الذي يبحث عن المتعة وعن رؤيا شعرية تشبع ذائقته وحاجته النفسية وتجسد اللحظة الشعورية عنده والدلالة المشهدية التي تكشف مدى حاجتنا لأجواء نفسية طيبة تستجيب لنبض الحياة وللتنفس من اجل ازاحة أعباء الحياة .
وأشير بأن الشاعرة في مجموعتها الشعرية والشاملة المتكاملة
كتبت ما يجول بنفسها وما تتمناه من خلال ابراز الوجع والحزن في كل اصناف الحياة ولذلك كان ديوان متكامل من حيث الابداع النثري ومن حيث تشابكات الحياة على هموم الانسان والمرأة والوطن وختمت الديوان بمجموعة من الومضات الخاطفة المدهشة والمبهرة والتي تصور وتختزل فيها الواقع ولا ننسى بان للومضة وقع كبير على المتلقي فهي ارهاص وعصر فكري لتصل للمتلقي بسرعة والخاتمة كانت بقايا حلم وكان هذا الكابوس وهي تصور الواقع والذي ما زال مستمرا مع النزف والقتل والدمار والجرح بليغ حتى وصلت حتى الاحتضار و الامة صامتة صامتة هذا اذا لم تكن فعلا ماتت أو في غرف العناية المركزة تنتظر الموت , والشاعرة الانسانة من خلال مجموعتها تسعى بأن ترى حياة بدل الصمت الرهيب من مسببات الحياة , وتريد رغم القهر والموت والظلم والنكران والهجر و التشعر بما تريد أن تبصر كل سلوكيات الحياة وما يجري فيها وقد تحول للأجمل من اجل حياة ترجوها في أحلامها ويقظتها رغم أن ابتسامتها مسلوبة من الداخل وتحتاج بان توصل صوتها المقيد بداخلها تريد بقايا الحلم بعيدا عن القهر الذاتي وأن تعيش وترى كل ما تؤمن به فهو ما يرمز الى الروح هو السمو في النفس رغم الوجع حتى مع الصمت المسافر في كيانها مع أنها تعي بأن الحياة هي صخرة صماء .
أخيرا قلبت المعادلة وهنا عظمة النثر وعظمة الشاعرة قلب الموازين وأن تجر القارئ إلى حيث تريد هي دون ان تبتعد عن الواقع المرير ولان المراد بعيد فهي لا تستطيع أن ترى إلا الحلم المفزع لهذا فضلت الصمت وختمت الديوان بموت العصافير , في ومضة ,
“بقايا حلم “٠٠٠
استيقظَت المدينة على وقع جلبة كبيرة عند أوّل الشّارع ،كانت قضية الشّظية الّتي اخترقت جسده الطّري و أوراقه المخضّبة بالدّماء , حديث المارّة إلا أمه فقــد بقيت صامتة ، و هي لا تزال تحتسي دموعها مع قهوة الصّباح ، تعالت الأصوات في البيت حلّقت العصافير ….خرست روحها للأبد ٠
ولإنها وصلت الى حالة أن حكايتها التي تنبع من داخل روحها لا تجدها في الحياة مع أيمانها الكبير بهذه الحكاية , لهذا فضلت الصمت الأبدي , لأنها تريد كما تؤمن بها وليس ما هي موجودة حولها وما هو إلا التأكد على إصرارها ولكن فضلت الصمت والموت المؤبد في دمها أي أنها تعيش كل ما تريده في داخلها دون أن تفقد حلم الحكاية التي تنشدها ,والشاعرة استطاعت أن تخلق نص يقارب الذات من الداخل وفق أيمانها في الحياة و الاصرار على هذا الأيمان ولكن لأتساع الظروف حولها جعلها تؤمن أن الحياة التي تعيشها في الداخل أفضل من أن تنهزم داخلها لهذا بقيت على أيمانها ولكن من الداخل ,والشاعرة حققت نص منسجم من الداخل وفق الرؤيا التي كشفت فيها ما هو جوهري في لعبة الحياة وما تريد أن تصل إليه وبأسلوب لغوي متماسك أعطى الى الاستعارة والرمز المكنون من خلالها أبعاد ذاتيه في جوهرية الانتماء الوجودي لقدر الإنسان وعجزه عن تحقيق ما يريد مع أنه مؤمن بكل ما هو يقيني و حقيقي لكنه يفضل الصمت والموت المؤبد في الداخل لكي لا ينهزم من داخل ذاته ..
وهنا برزت قدرة الشاعرة نزيهة شلخي في قصائدها النثرية في ايصال الفكرة والهدف المرجو من الشعر وكتاباتها و ابراز قدراتها العالية والتي تحاول ان تصنع لنفسها مكاناً يليق بحجم ما تكتب على الساحة الثقافية وأظنها استطاعت أن تصل لذائقة المتلقي وما هو بحاجة له من فنٍ و ابداع ونجحت نجاح باهر بِخَلقْ هوية خاصة بها بنص نثري متميز من حيث ادواته الشعرية ومن حيث تكثيف النصوص دون أن تسبب ارهاق للمتلقي أو اي ملل .
وقد صنعت الشاعرة الدهشة وحققت الوهج ووصلت لتخوم الشعر والشعراء الكبار
في انتاجها الأدبي ( وَالشِعْر الْخَّلاَقْ ) في مجموعتها الشعرية تباريح الصمت

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!