وقفة مع قصيدة ( ضياء تشرين ) للشاعر موسى صالح كسواني بقلم أحمد وليد

مِنْ دونما دِرايةٍ

تشرينُ جاءَ بَغتةً مَخاضُهُ

قُبيلَ أنْ يَطالَ شاربَ النُّعاسِ نومُهُ

وقدْ تلاشى في عِراكِهِ

مَعَ اعتلالِ سادِناتِ مَعبدِ النُّجومِ حُلمُهُ

حتى أتى اليقينُ في بِشارةٍ زهراءَ

هلَّلتْ بها مُغرداتُ الصُّبحِ في مَسرَّةٍ

على جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئهِ

مَولودةُ السَّماءِ في تشرينْ

فزمَّلتها ناشِراتُ الوَمْضِ في فِراءٍ مِنْ حَنينْ

وَلاذَ في مِحرابِها.

فَتيلُ مَنْ يُصافحُ الصباحَ في

لُهاثهِ الخفوتِ مثلَ رَجرجاتِ قنديلٍ

تدلَّى في ارتعاشةٍ

نادى بها نداءُ الفجرِ قبلَ أنْ

يَبيضَّ شَعرُ اللَّيلِ في سُدولهِ الأخيرْ

هذا ابتداءُ خَلْقِها

ومَا تلاها منْ خليقةٍ هَوى

على انْدثارهِ سِوى بقايا نُطفةٍ

تناسلتْ على كِفائها

حتى أتتْ سُيورُها آلاءَ ما في الكونِ منْ حياةْ

في كلِّ عامٍ مرةً

يجيءُ وجهُها الضحوكُ كلَّما

أتَى الفتى تشرينُ حاملًا بهِ

فانوسَ مُعجزاتِه على حَفاوةٍ

ليعلنَ الولادةَ الأولى لِشمْسِنا الحنونْ

تشرينُ يا نبوءَةَ القلبِ التي

تحقَّقَ افتراشُها للكونِ

ساعةَ انبلاجِ الدِّفءِ في المَدى الفَسيحْ

تشرينُ يا صديقيَ السَّميحْ

تَفلتَتْ منَّا على عَمايةٍ عقيلةُ الزَّمانِ

بَعدَ أنْ تاهتْ على رَمْضَائِنا

جحافلُ الذين قد شَرَوْا أنوارَهم بظلماءِ البسوسِ

واشترَوْا عُوارَهم بما

زَهتْ بهِ نفائسُ النفوسْ

وفي انْبساطِ غُفلِنا نثرنا كُلَّنا

وما حوَتْ جِعابُنا عطورَ مَجدٍ خاطئٍ

على صِحافٍ منْ بَياضْ

فَسارَ فينا ألفُ عامٍ غافلٍ عنَّا

ومَا يَزالُ كاتبُ التاريخِ تستهوي دواتُهُ

عُفونةَ انتصارهِ لغيهبٍ من الكذبْ

وما يزالُ فاغرًا فمَ الغباءِ ليلُنا الكسيحْ

لُغاتُنا مريرةٌ في لَغْوِها

وجَمعُنا نِثَارْ

وكلُّ ما فينا مَكاثيرٌ عِثارْ

وذِي السَّوافُ قدْ تَجلبَبَتْ أمَانينا الكُثارْ

تشرينُ ذارعُ المدى القَصيِّ في مَسيرنا المديدْ

تشرينُ يا مُكاءَ روحيَ التي

اسْتولدْتَها الكمالَ كُلَّما تَنَفَّسَتْ

رِئاتُ العمرِ عامَها الجَديدْ

ضياءَ تشرينِ البهيِّ يا وليدةَ السماءْ

إليك مَملوكُ الهوى قلبي

كأي نسمة تشمُّها إناثُ النور

في صباحٍ مِنْ عُطور

مَملوكةٌ إليك أنفاسي

كأيِّ هَمسةٍ آوتْ إلى احتِضانِ لهفةٍ

على سريرٍ مِنْ سرورْ

إليكِ مَملوكُ الهوى شِعري أيا صغيرتي

كأيّ لثغةٍ تَراقَصتْ

على شفاهِ طفلةٍ خَجولْ

مَملوكةٌ جوارحي إليكِ يا حبيبتي

كأيِّ موسيقى تَذوَّبَتْ دلالًا مثلما الحفيفُ

فوقَ هفهفاتِ زيزفونةٍ جَسور

———————————-

من المعروف أن تشرين يكون بفصل الخريف يعني الجو يكون غائما وبهذا الشمس لا يكون لها سطوع لأن الغيوم تخفيها فيكون ضياؤها قليل. لكن الشاعر اختار لتشرين ضياء لا مثيل له لهذا جعل الضياء الكلمة المركز بالعنوان. لكن لماذا استعمل ضياء بدل نور؟
ربما لأن الضياء هو النور لكن يحصل فيه نوع حرارة وإحراق (كضياء الشمس) عكس مفهوم النور فَهُو إشراق بغير إحراق. وهو اختار ضياءً بإحراق واحتراق لأنه وحده يعي ما يقول. واختار من الشهور تشرين لأهميته عنده، فربما له فيه ذكريات كثيرة لها الأثر البليغ بنفسه. وربما هو اختار تشرين لأنه يأتي بفصل خريفي يشبه خريف العمر، والخريف هو اكتمال الحكمة ونضج العقل والمشاعر أيضا.
بعد هذا العنوان الذي يمكن أن نعتبره مدخلا للقصيدة وبابًا نفتحُه ليتسنى لنا قراءتها و محاولة الوصول لعمقها نجد الشاعر ركز فيها على استعمال مُفرط للحروف فيبدؤها بـ “من، دون، ما” ليست رغبة منه في الإتيان بما يُخالف بل “من دونما” رغبة منه وجد نفسه مضطرا لإستعمالها لأنها وحدها تفي بالغرض.
إذن لماذا يُقِرُّ الشاعر أنّ تشرين جاء بغتةً؟ ألا يؤمن بالتزامن، بتوالي الشهور واحدا بعد الآخر بالتتابع ودون انقطاع؟ تزامن لا يُخطئ، تتوالى الأزمنة شهرًا شهرًا، ليأتي تشرين دائما وبوقته وتكون ولادته بيومٍ مُحدّد كل سنة. فيقول:
“مِنْ دونما دِرايةٍ
تشرينُ جاءَ بَغتةً مَخاضُهُ
فإذا اعتبرنا أن تشرين هو خريف العمر، فهل يأتي بغتة ودون علم؟ أكيد لا، ربما قصد الشاعر من ذلك أن الزمن سرقه من نفسه لينتبه فجأة أنه كبر بالعمر هذا من الناحية العقلية “الإدراك” والنفسية معا، ومن الناحية الفيزيولوجية ألم ينتبه الشاعر للتغير الذي طرأ عليه؟ إذا تعمقنا قليلا نجد كل الناس وليس الشاعر وحده يتغير مظهره، فيبدأ شٓعره يبيضُّ شعرة شعرة دون أن ينتبه إلى أن يغزوه الشيب فيصبح أبيضا وهذا البياض يعطي بهاء و وَقَارا لهذا استعمل الشاعر “من دونما دراية” يعني بلا علم أو معرفة يجد الإنسان نفسه هكذا، وقبْلٓها “ضياء” الإنسان بخريف العمر يكون قد أنهى مشوار العمل والتعب وحمل المسؤولية، هكذا يكون مرتاحا وهادئا أكثر وهذا يرسم على وجهه هالة من الإشراق والضياء. و “من دونما” يمكن اعتبارها أيضا في مسألة التجاعيد، فهي تبدأ خفيفة تكاد تكون غير مرئيّة إلى أن تحفر خطوطًا بالوجه فيتغير صاحبه كليًّا.
وإذا خمّنا علاقة تشرين وارتباط الشاعر به لربما يكون هناك علاقة حب كبير عرفها بتشرين وبقي على عهد حبه يمجده كل عام بمجيء تشرين.
ويُردِفُ بعد هذه المقدمة “تشرينُ جاءَ بَغتةً مَخاضُهُ” يعني أن الشاعر يؤكد ويقِرُّ أن تشرين جاء بغتة وبلا سابق معرفة أو استعداد لهذا القدوم، أي فجأة أتت ولادتُه. واستمرّ في وصف ولادة “تشرين” فالمخاضُ كان ليلًا في عراكٍ متلاشي واعتلال خادمات معبدِ النُّجوم إلى أن جاء الخبٓر اليقين ببشارة الولادة مع الصبح وقد استعمل الشاعر التغريد بدل الزغاريد التي ترافق كل ولادة بالتهليل وزغرودة الفرح. “بشارة زهراء” وقد اعتبر الخبر أو البشارة شيئًا مُفرحًا فوصفها بـ “زهراء” أي بيضاء، نقية وصافية ومشرقة الضياء، “على جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئهِ” يقصد به على جناح الصُّبح الذي يأتي سابحًا في السماء بهدوء تام ودفء لا يُوصف.
ابتدأ كلامه بالإستفسار عن المخاض الذي جاء بغتة وكل الأشياء وصفها هادئة وبيضاء مُضٓاءة لكنها محرقة ومؤلمة لهذا تداخلت الألفاظ فيما بينها فجاءت مُنسجمة وإن كانت متناقضة (نومه، النعاس، تلاشى، حلمه، بشارة، زهراء، يقين، هللت، مفردات، جناح، سابح، مولودة، فراء، حنين، الصباح،….. يقابلُها : مخاض، عراك، اعتلال، تلفّعت، جحافل، ظلماء، البسوس، غيهب، الكذب، الكسيح،…)
“قُبيلَ أنْ يَطالَ شاربَ النُّعاسِ نومُهُ
وقدْ تلاشى في عِراكِهِ
مَعَ اعتلالِ سادِناتِ مَعبدِ النُّجومِ حُلمُهُ
حتى أتى اليقينُ في بِشارةٍ زهراءَ
هلَّلتْ بها مُغرداتُ الصُّبحِ في مَسرَّةٍ
على جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئهِ
مَولودةُ السَّماءِ في تشرينْ”
“مَولودةُ السَّماءِ في تشرينْ” يذكرنا هذا التعبير بما جاء في الدراسات الأثرية والتاريخية عند الفراعنة فقد اعتبر الفراعنة النجوم التي تظهر كل ليلة على أنها مولودة إلهة السماء. فهمًا يتشابهان في الضياء وفي الإسم أيضا “مولودة السماء” لكن الشاعر لا يتحدث هنا عن النجوم بل يقصد به “شمس تشرين” وما تحمله من دفء، ضياء… ومعجزات. إنها تشبيهات كثيرة ودقيقة في وصف ولادة الصباح. ويستمر في الوصف إذ يصف ولادة الشمس كولادة حقيقية لمولود جديد، ويصف تعاقب النهار والليل بداية من عراك الليل مع النّوم، فقبل أن يغُطّ في نعاسٍ عميق وقد مُلئت السماء بالنجوم ما يدل على صفائها يجد نفسه في حلمه مع سادنات معبد النجوم، بعدها يتلاشى وينسحب شيئا فشيئا عندما أتى الخبر اليقين بالولادة وبشارة الزهرء، فقد شبه الشمس في ضيائها وصفائها وشدة حرمتها بالزهراء. ومُغردات الصبح طبعا هي الطيور المغردة على اختلاف أنواعها وأشكالها اذ تبدأ تغريها مع الضياء وقبل سطوع الشمس.
“على جَناحِ سابحٍ تلفَّعتْ بدفئهِ .. مَولودةُ السَّماءِ في تشرينْ” فجناح سابح هو ذاك الدفء الذي ينتشر قبل أن تظهر الشمس، ومولودة السماء هي الشمس، وهو يقصد شمس اليوم الأول من تشرين. بعد ذلك لفتها ناشراتُ الومض في فراء من حنين وهي تلك الأشعة التي تكون حول الشمس وتظهر قبل أن يُرى قُرص الشمس في السماء، وبعدها عندما تُشرق لا يستطع أحد النظر إليها وكأن الأشعة تلفها وتحجب الرؤية. وقد وصف ذاك النور الخافت في السماء مثل رجراجات قنديل “في لُهاثهِ الخفوتِ” لهب القنديل الذي يضئ فمرة يستقرُّ ضوءه ومرة يرتعش ويتحرك وكأنه سينطفئ وقد وصف الشاعر ارتعاش القنديل واضطراب ناره باللُّهاث، كأنه يلهث.
“فزمَّلتها ناشِراتُ الوَمْضِ في فِراءٍ مِنْ حَنينْ
وَلاذَ في مِحرابِها
فَتيلُ مَنْ يُصافحُ الصباحَ في
لُهاثهِ الخفوتِ مثلَ رَجرجاتِ قنديلٍ
تدلَّى في ارتعاشةٍ”
نداء الفجر ويقصد به الأذان، فأذن الفجر يكون قبل الضياء بقليل، إذ تصبحُ الظُّلمة خفيفة وليست شديدة لهذا وصف انسحاب الليل أو انقشاع ظُلمتِه وكأنه مُسدِلٌ شعره إسدالة أخيرة في آخر ليلة لأيلول قبل أن يبيضّ شعره، وقد وصف ظلمة الليل بشعرٍ أسود مسدُول فهو في إسداله يُغطِّي السماء بسواده وظلامه، أما الصباح فوصف بشٓعرِ الليل وقد ابيضّ أي غزاهُ الشّٓيبْ، وببياضه تنجلي الظُّلمة ويأتي الضياء.
“نادى بها نداءُ الفجرِ قبلَ أنْ
يَبيضَّ شَعرُ اللَّيلِ في سُدولهِ الأخيرْ”
هذا ابتداء خلقها ويقصدُ به شمسٓ تشرين وما تلاها من خليقة، فباندثار الليل تظلّ هناك بقايا نطفة تناسلت على كفائها، وهي سائرة في خٓلقِهٓا وتحوُّلِها شيئا فشيئا إلى أن تكونت وتكٓوّنٓ على إثرها ما في الكونِ من حياة. فالحياة تبدأ كل يوم بعد سطوع الشمس وإشراقها (ولادتها كما جاء على لسان الشاعر) مع الشمس يتحرك الكون الذي يكون نائما وغاطًّا في سُباتٍ عميق. يهدأ الكون بالليل وينام الكُّل لتبدأ الحياة والحركة كلّ صباح مع طلُوعِ الشمس، وقد أبدع الشاعر موسى صالح الكسواني في وصف ولادتها.
“هذا ابتداءُ خَلْقِها
ومَا تلاها منْ خليقةٍ هَوى
على انْدثارهِ سِوى بقايا نُطفةٍ
تناسلتْ على كِفائها
حتى أتتْ سُيورُها آلاءَ ما في الكونِ منْ حياةْ”
مرّةً بكُلِّ عام تسطع شمسُ تشرين وقد وصف الشاعر ذلك السطوع بوجهٍ ضاحك، أما تشرين فقد وصفه بالفتى الذي يجيء حاملاً فانُوسٓهُ بحفاوة، مُعلنًا الولادةَ الأولى لشمسِ تشرين التي أضفى عليها الشاعر صفة الحنان، أما الفتى تشرين فيترٓقّبُهُ الشاعر كل عام إذ يأتي بكل معجزاته، فقال:
“في كلِّ عامٍ مرةً
يجيءُ وجهُها الضحوكُ كلَّما
أتَى الفتى تشرينُ حاملًا بهِ
فانوسَ مُعجزاتِه على حَفاوةٍ
ليعلنَ الولادةَ الأولى لِشمْسِنا الحنونْ”
هنا يخاطب تشرين بصيغة النداء مستعملاً أداة النداء “يا” التي تستعمل للقريب و البعيد فتشرين قريب جدا من قلب الشاعر إذ جعل منه نبوءة قلبه، التي تتحقّق ساعة انبلاج الدِّفْء في المدى الفسيح، فهو يتنبأ بقدوم تشرين كلّما ساد الدِّفْء، دفء تشرين الذي يعُمّ الكون في الدقائق الأولى بأول صباح لتشرين، فيقول:
“تشرينُ يا نبوءَةَ القلبِ التي
تحقَّقَ افتراشُها للكونِ
ساعةَ انبلاجِ الدِّفءِ في المَدى الفَسيحْ
تشرينُ يا صديقيَ السَّميحْ”
لكن ما حدث فيه والمقصود تشرين وما يحمله عنه الشاعر من ذكريات مؤلمة تجعله بعيدا بُعدٓ المدى الذي لم تتحقّق فيه تلك النبوءة. وهنا يرُدُّ الشاعر السبب لأفعالهم “هم” إذ يخاطب هنا بلغة الجمع الغائب التي تتناوب في الخطاب مع الـ “نحن” بعدما كان الخطاب يخصُّ المتلكم وحده، فتشرين صديقه وحده ونبوءة قلبه، وكل ما جمعه عنه الشاعر من ذكريات جميلة تخُصُّهُ وحده، لكن ما حدث بتشرين وأفقد الشاعر متعته بهذا الشهر هو ما فعلوه وتعود على جمع الغائب “هم” جعل تلك النبوءة تضيع، في أيام نعيشها شديدة الحر مظلمة لا تعرف نورا، اجتمعت جحافلهم في حرب شبهها بحرب البسوس، يتقاتلون فيما بينهم بلا سبب مقنع، تاهوا وتفرقوا وتشتتوا واشترى عدوهم سكوتهم وعماهُم وأذلهم وأسكتهم على ما يحدث لإخوانهم بما يرضيهم ويسترضيهم فهو يعرفهم جيدا ويعرف من أي مدخلٍ يأتيهم…
قام الشاعر باستحضار “حرب البسوس” التي قامت بين أبناء العمومة واستمرت أربعين سنة، في إسقاط بديع لأحداث تلك الحرب على أحداث عصرنا الراهن في رؤيا معاصرة انتهى فيها المجد العربي وساد عهد التفرقة، الذل والهوان، عهد الأرض العربية السلبية والكرامة العربية المسلُوبة.. وما زال العرب متفرقون، حاقدون، يكيدون المكائد لبعضهم البعض، ومازالت الشعوب العربية غافلة تتغنى بمجد ولّى وانقضى”فَسارَ فينا ألفُ عامٍ غافلٍ عنَّا”. فالقصيدة في مجملها تنطوي على فكر واقعي مبني على دمج الفكر السياسي ضمن تجربة الشاعر الشعرية وتفاعله الذاتي مع الأحداث والواقع.
تَفلتَتْ منَّا على عَمايةٍ عقيلةُ الزَّمانِ
بَعدَ أنْ تاهتْ على رَمْضَائنا
جحافلُ الذين قد شَرَوْا أنوارَهم بظلماءِ البسوسِ
واشترَوْا عُوارَهم بما
زَهتْ بهِ نفائسُ النفوسْ
قبل أن نستأنف شرح وتحليل القصيدة علينا أن نبحث عن معنى “عقيلة الزّمان” وأيضا عن الإشراقة التي تُصيبُ الشاعر كلما حلّ تشرين.
القصيدة في مجملها تتحدث عن شيئين رئيسيين، قلب الشاعر بكل مافيه من حب وألم و أسى.. والحدث المهم الذي وقع في تشرين وقلٓبٓ حياة الشاعر رأسًا على عقِب.
فكلّما توغلنا داخل القصيدة نُحٓاصٓر داخل جدلية الحب والحرب، فالشاعر يبدأ قصيدته بالحديث عن ولادة شمس تشرين، يصفها ويصف دفئها والنبوءة التي تحملها معها، وكل هذا يقودنا لإستنتاج حدث رئيسي وقع للشاعر أول يوم بأيام تشرين وهو “الحب” فتشرين يجمعُ أحداث رائعة وسعيدة وأخرى مؤلمة، ومع التسلسل في الوصف سرعان ما يتحول كلام الشاعر للحديث عن الحرب، فعن أي حرب يتحدث؟ ولماذا يتحدث بحرقة وحسرة؟ ثم بعدها يعود للحديث عن الحب.
الحب والحرب لفظتان متشابهتان كتابة، مختلفتان بالمعنى، لكنهما مشتبكتان لا تنفصلان.. مفردة الحب والحرب تتكون من نفس الحروف مع فارق بسيط في حرف الراء المحذوف في كلمة حب. مع زيادة حرف الراء بها تتحول الدنيا لجحيم، نار ودمار، كراهية، حقد وموت.. وبدونها يتحول العالم لكون جميل، هادئ ومُضاء، لا يعرف أحقادًا ولا كراهية..
وإذا بحثنا في التاريخ نجد حرب تشرين، ويُقصٓدُ بها حرب السادس من أكتوبر 1973م التي حقَّق فيها العرب نصرًا عسكريًّا على إسرائيل. فقد شكلت هذه الحَرْب التحريرية منعطفا مهما في حياة الأمة العربية إذ قضت على الأسطورة الشائعة أنداك كون الجيش الصهيوني لا يُقهر وذلك عبر وحدة عربية، كانت فيها كل من مصر وسوريا المحور الأساسي كما ساهمت بعض الدول العربية بالدعم العسكري أو الاقتصادي.
وقد وصفها الشاعر موسى كسواني بنبوءة القلب لأنها حققت للعرب انتصارين، انتصار على أنفسهم إذ تمكنوا من أن يجمعوا شملهم ويتّحِدوا فيما بينهم، وانتصار على عدوهم المشترك “إسرائيل” وهي نبوءة لأنها جاءت ببشارة النصر بعد أربعة حروب مع إسرائيل في سنوات متتالية، حرب 1948 (حرب فلسطين) وحرب 1956 (حرب السويس) وحرب 1967 (حرب الستة أيام)، وفي عام النكسة (1967) كما يطلق عليه المصريون حيث احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء من مصر وهضبة الجولان من سوريا، بالإضافة إلى الضفة الغربية التي كانت تحت الحكم الأردني وقطاع غزة الخاضع آنذاك لحكم عسكري مصري. وبعد الإنتصار تأكد للعالم بأسره أن العرب قادرون على تكرار الانتصار ضد أي عدو ما لم يتفرقوا. لكن هذه النبوءة لم تكتمل كما جاء في القصيدة والفرح انقلب لحزن وحسرة. وكله بسبب غفلة العرب، وتفرقهم.. فلم يبق من مجد العرب سوى حروف كُتِبَت بدماء الشهداء لكن ضاعت اليوم بسبب الغباء والتهاون والتقاعُس.. لهذا يقول موسى كسواني بمرارة:
“وفي انْبساطِ غُفلِنا نثرنا كُلَّنا
وما حوَتْ جِعابُنا عطورَ مَجدٍ خاطئٍ
على صِحافٍ منْ بَياضْ”
العرب كثيرا ما يتحدثون عن أمجادهم القديمة وانتصاراتهم وتاريخهم العظيم، عهد الفتوحات الإسلامية حيث حكموا الشرق والغرب. لكن ماذا الآن؟ لا شيء سوى صحاف من بياضٍ، خواء وفراغ.. وألف عام تُسطِّرُه الغفلة، والضياع، وشتاتُ العرب، مُتفرّقون لا تجمعهم كلمة ولا وحدة، ولا تهزهم نخوة، ولا يسارعون لنجدة إخوانهم، والغريب بالأمر أن كاتب التاريخ مازالت الكتابة تستهويه لتدوين انتصارات كاذبة. أصبح الكلامُ (لغتنا) لغوًا، وجمعنا نثار وما أكثرنا في عثراتنا، لم يَعُد هناك وجه للصحة في قولٍ أو عمل.. لا أماني يُمْكِنُ تحقيقُها متفنّنُون في المماطلة والوعيد..
“فَسارَ فينا ألفُ عامٍ غافلٍ عنَّا
ومَا يَزالُ كاتبُ التاريخِ تستهوي دواتُهُ
عُفونةَ انتصارهِ لغيهبٍ من الكذبْ
وما يزالُ فاغرًا فمَ الغباءِ ليلُنا الكسيحْ
لُغاتُنا مريرةٌ في لَغْوِها
وجَمعُنا نِثَارْ
وكلُّ ما فينا مَكاثيرٌ عِثارْ
وذِي السَّوافُ قدْ تَجلبَبَتْ أمَانينا الكُثارْ”
القصيدة تُعرِّي الواقع المليء بالهزائم، عكس ما يُدٓوّنُ في تاريخ العرب من انتصارات وأمجاد، إنها صورة حية عن حال العرب والأمة العربية، فهي تمثل الإحباط القومي، والخطاب ساعدنا في رسم صورة واضحة لما تعيشه الشعوب العربية عامة، والمواطن العربي خاصة من خلال متكلم واحد المُتمثّل في الشاعر”يتحدث بلسان الجمع” إذ نراه غاضبا، ساخطا على الوضع غير راضٍ بما آلٓ إليه حال العرب الآن، واعٍ ومُدرك تمامًا حجم الخراب.
بعدها يعود موسى كسواني لمخاطبة تشرين إذ يؤكد أنه يبارينا في المشي والمسير المديد جنبا لجنب وكأن كل الفصول تشرين، وقد اعتبره الشاعر مُكاء روحه التي تبلغ كمالها كلما تنفست رئاتُ العمر عامها الجديد إنه تشبيه بديع لميلاد الشاعر بتشرين ليس ميلاده الفعلي الذي ازداد فيه بل ميلاده الروحي والنفسي، ميلاد إحساس قوي و ولادة مشاعر جديدة بقلبه جعلته يُحِس كأنه وُلد من جديد إذ تكتمل هذه الولادة وتزداد عمرًا كل عام من تشرين.
تشرينُ ذارعُ المدى القَصيِّ في مَسيرنا المديدْ
تشرينُ يا مُكاءَ روحيَ التي
اسْتولدْتَها الكمالَ كُلَّما تَنَفَّسَتْ
رِئاتُ العمرِ عامَها الجَديدْ
تميزت القصيدة بالصعود والنزول، فعندما تتصاعد نبرة الحرب تخِفُّ النبرة العاطفية والعكس بالعكس. الآن وقد انتهى الشاعر من وصف الحالة الإجتماعية والسياسية للمجتمع العربي يعود ليخاطب حبيبته التي وصفها بشمس تشرين وضياءها البهي، مُقِرًّا لها أنّ قلبه مملوك الهوى “هواها” وقد شبهه بالنسمة تشمُّها إناثُ النور في صباحٍ مِنْ عُطور.
ضياءَ تشرينِ البهيِّ يا وليدةَ السماءْ
إليك مَملوكُ الهوى قلبي
كأي نسمة تشمُّها إناثُ النور
في صباحٍ مِنْ عُطور
وليس قلبه وحده مملوك لها بل أنفاسه أيضا، فأنفاسه مثل أيِّ همسة آوتْ إلى احتِضانِ لهفةٍ على سريرٍ مِنْ سرورْ، هو الشاعر متلهف لإحتضان حبيبته لأن يهمسٓ معلنا عن حبه لهفته واشتياقه وهو هنا يصف شدة سروره بهذه المشاعر وهذا الحب الذي يشعر به اتجاهها.
مَملوكةٌ إليك أنفاسي
كأيِّ هَمسةٍ آوتْ إلى احتِضانِ لهفةٍ
على سريرٍ مِنْ سرورْ
وبالأخير يناديها بصغيرته، يُهديها أشعاره في خجل وتلعثم طفلة صغيرة خجولة، فهو أمام حبها يلثغ في الإفصاح عن حبه وإن كان شعرا، فشبه كلامه بلثغة جميلة، بهية تَراقَصتْ على شفاهِ طفلةٍ خَجول . فمهما قال ومهما وصف لن يستطيع وصف مشاعره وحبه لها.
إليكِ مَملوكُ الهوى شِعري أيا صغيرتي
كأيّ لثغةٍ تَراقَصتْ
على شفاهِ طفلةٍ خَجولْ
هنا الشاعر يقر ويعلن أن جوارحه ملك حبيبته وقد وصفها مثل موسيقى تَذوَّبَتْ دلالًا وهي في صوتها مثل صوت الحفيف فوق هفهفات زيزفونة جسور.
مَملوكةٌ جوارحي إليكِ يا حبيبتي
كأيِّ موسيقى تَذوَّبَتْ دلالًا مثلما الحفيفُ
فوقَ هفهفاتِ زيزفونةٍ جَسور
هنا القصيدة تظهر شغف الشاعر بتشرين.. دفئه.. ضياءه.. وحبه. وأيضا تُشير لمتلازمة الحب والحرب التي تمتدّ جذورُها في عمق التّاريخ الإنساني، فمهما حاول الشاعر السيطرة على نفسه والتحدث عن الحب فقط من خلال وصف الطبيعة (مولد حبه = مولد تشرين) إلا أن الواقع ومجرياته تسيطرُ عليه وتضطره للحديث عن كل ما يشغله ويعتلج بقلبه أبى أم كره والواقع لا يخلو من الحروب والصراعات سواء السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية. وقد اُعتُبِر كلٌّ من الحب والحرب قوتان مُنفصلتان ومختلفتان إلا أن كل منهما تؤثّر بالأخرى، علماً أنّ لكلّ منهما سلاحُها ولُغتُها في التعبير. فالحب بالنسبة للإنسان هو أنبل العواطف وأرٓقُّها مشاعِرًا تَسْكُن القلب وتختلج في النفس أما الحرب فعكسه تماما، بعض المفكرين يرونها ضرورة بيولوجية وسيكولوجية تفرضها اقتصاديات الحياة البشرية، والحرب كما الحب مستمران ما استمرت الحياة.
ومهما أخفى الشاعر حبه في القصيدة إذ لم يحظٓ هذا الحب إلا بمساحة قليلة مقارنة بوصف تشرين ومنهُ إعطاء نبذة عن الواقع المرير، إلا أن حب الشاعر غلبه فاختار أن ينهي قصيدته بذكر حبه ومشاعره وإحساسه.
اتسمت القصيدة بطابع إنساني عاطفي تجلى في مشاعر الشاعر اتجاه حبيبته وفي حبه للوطن والغيرة على التاريخ والهوية كلها مُتجسِّدة في حب تشرين. بلغة غير متوقعة، فقد استطاع الشاعر خلق مُعجم شعري خاص ساهم في توليد الدلالة وكٓشٓف عن روعة اللغة وعن كثافة الآليات الأسلوبية والبلاغية فيها مع خلق جوٍّ جمالي وفني في نفس الوقت، ما يبعث على الدهشة والمتعة معًا. وهذا يدل على تمتُّع الشاعر بثقافة واسعة وتجربة عميقة.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!