القدس عند الأصيل/ محمد موسى العويسات

لصحيفة آفاق حرة:
______________

نعم… قد كنت هناك عند الأصيل… الشّمس تحطّ للمغيب… لتسلم المدينة لنسائم الخريف الباردة… هدوء في خشوع يتسلّل دون أن يلفت انتباه المارّين في تثاقل… كأنّهم مودّعين يومها الجميل… الأرصفة والشوارع وواجهات المحالّ تأخذ وجها آخر… تتزيّن لليلها كما تزينت لنهارها… من باب العامود إلى باب السّاهرة… ومن مبتدأ طريق باب حطّة المؤدّية إلى المسجد تنثني صعودا في نشز… تقف عند الباب المُشرَع لك وللنّسائم والغروب والجمال… يعلوه السّور في هيبة وجلال… لا تكتفِ بالتفكّر في جمال الحجر… هناك سرّ في البناء… ربّما نقع عليه… وربما مات مع أهله… الجمال يشي بذوقهم… والشكل والتشكيل والطول والعرض والزوايا والامتداد والإنثناء يشي بأنّ المدينة كانت تطلب النّوم بهدوء… و تطلب صباحا آمنا… كانت تخشى الفجأة… كانت محفودة محروسة… الباب باب السّاهرة يفضي إلى السّاحة الفسيحة التي يشقّها الشّارع الرئيس الذي يحمل اسم السلطان سليمان… لا سليمان النبيّ… بل سَمِيَّه القانونيّ… السّاحة تحمل معنى السّاهرة… يمتدّ الشّارع غربا يباري السور لتطلّ منه على باب الخليل… حيث تفرّعات عديدة تسلمك لعالم آخر في الجزء الهجين من المدينة … ويمتدّ شرقا يقطع وادي الجوز صعودا يشقّ الذراع الأيمن لجبل الطور… تلك الخّلة التي ربّما تكون حدّه مع جبل المشارف… هل وقفت بالطّور يوما؟ هل قلّبت وجهك هناك شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؟ إن قدّر لك المرور بتلك الديار فلا تتوان في زيارة الطور… فإنّ فيه شيئا من طور سيناء… هناك تعلم سرّه… وإن أدركته فلن تستطيع التعبير عنه… ولن تستطيع البوح به… لن يفهموا ما تقول… ومن هذا الشارع يتولّد شارع آخر يتّجه شمالا… شارع صلاح الدين… لا تكرّر الاسم كثيرا خشية أن يبتذل… إذن هو شارع صلاح الدين… في مبتدئه مبنى البريد… لا تقل إنّه يحوي مركز لشرطة المحتلّ… عفوا لا تشوّه الصورة في نفسي أو وصفي… المساء لا يحتمل ذلك… يحلّ الظلام شيئا فشيئا … وتتلألأ الأنوار شيئا فشيئا… هناك عَرف ما تحمله النسائم المتنافسة… لمن الغلبة… نسائم صلاح الدين شماليّة كأنّها دمشقيّة لا تضلّ بابها… ونسائم سليمان غربيّة لا تضلّ بابها… نسائم شرقيّة كأنّها هبّت من فرجة ما بين الطّور نفسه وشفا عمّان والسلط وعجلون ومأدبا والكرك… لا يعترضها الطّور… لا تحجبها الجدر اليائسة… كلّها تلتقي في السّاهرة… مزيجا عطريّا… نشرا تتسع له الصدور… وتربو به الرّئات المكبوتة… لحظة أنفاس عميقة… يطيب المشي… إلى أين؟ … سؤال لا تنبغي الإجابة عنه إلا للمارّين القافلين من المدينة… أمّا الآيبون إليها فلا أظنّهم يُسألون… تنتشر المحاريب في كلّ الأنحاء… قناديلها تنوس بتراتيل الشّيخ النّديّة… وتفكّر المريدين… القهوة شاذليّة… قدّس الله سرّ المدينة..
________
القدس. فلسطين
12/9/2020

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!