تيباكو / بقلم: الباحث محمد زعل السلوم

لصحيفة آفاق حرة:
_______________

تيباكو (صندوق مستحضرات تجميل) مرسومة عليه عجلات بلكّ ماكيئيه وعرق اللؤلؤ في جدول ماء
(Katawaguruma Maki-e Raden Tebako)
عجلات خشبية كبيرة نصف مغمورة في مياه متدفقة، هناك الكثير من العجلات ويتفرع تيار الماء حول كل طقم عجلات قبل أن يتدفق إلى طقم العجلات الذي يليه ويشكل تموجات حوله، إنه مشهد يرجع تاريخه إلى الفترة الزمنية التي تعرف بعصر هيان، منذ أكثر من 900 سنة عندما كان البلاط الامبراطوري وطبقته الارستقراطية يحتلان مركز الصدارة على مسرح الأحداث في المجتمع الياباني. والعجلات التي تعادل في ارتفاعها طول رجل تقريباً، هي عجلات خاصة بالعربات التي تجرها الثيران والتي كان يركبها الارستقراطيون عادةً، وكان من المعتاد أن تُنزع هذه العجلات عن العربات وتُنقع في الماء للحيلولة دون جفافها وتشققها. وكان هذا من المناظر المألوفة في تلك الفترة.

هذا المنظر في مجمله للعجلات في جدول الماء مرسوم على كل موضع من صندوق تيباكو، وتيباكو عبارة عن صندوق لمستحضرات التجميل، مُنتجٍ بطريقة لَكّ ماكييه ومُرصّعٍ بعرق اللؤلؤ. وكانت مثل هذه الصناديق تستخدم لحفظ الأشياء الشخصية ولا تقتصر على مستحضرات التجميل، بل تشمل أيضاً أدوات الكتابة والورق، الصندوق مستطيلٌ ومطليٌّ بالَّكّ وطوله ثلاثون وستة من عشرة سم وعرضه 22.4 سم، وارتفاعه 13 سم، ومن السهل الإمساك به بكلتا اليدين. وتتميز أركانه وغطاؤه باستدارة خفيفة، والغطاء أعرض من جسم الصندوق وهو ينزلقُ منطبقاً عليه من جميع الجهات، السطح اللامعُ له لون الشكلاطة وتظهر العجلات إلى خارج الماء المتدفق هنا وهناك، وفي التصميم يكثر استخاد مسحوق الذهب والأجزاء البيضاء اللبنية اللامعة لعرق اللؤلؤ لتكوين انعكاساتٍ معقدة على كلّ مكانٍ من سطح الصندوق، وعند رفع الغطاء نجد أنّ الجهة السفلية أيضاً مطلية باللكّ وموشّحةً بمسحوق الذهب، ونرى هنا تصميماً جميلاً لأزهارٍ بريّة رقيقة وطيورٍ صغيرةٍ وفراشات.
يقول اوسامو فوكوشيما المتخصص بمشغولات اللكّ في المتحف القومي : إنّ هذا العمل الفنيّ يمتاز عن سواه بأناقة شكله، والطابع الخاص جداّ لبريقه، إنّ له انحناءاتٍ جميلة عندما يكون الغطاءُ مثبّتاً عليه، وإنّ مجرد وضع هذا الصندوق على واجهةٍ في متحف على سبيل المثال يضفي رقة ونعومة على الطابع العام على الواجهة بأكملها ويملأها بهالةٍ من الأناقة. إنّ الضوء المتلألئ المنعكس على سطح المعدن وجمال طلاء اللكّ وعرق اللؤلؤ المتألق، كل هذه الأشياء تنسجم بشكل رائع مع الخطوط الرقيقة، وأعتقد أنّ هذا هو جوهر جاذبية هذه القطعة الفنية.
الصندوق بأكمله مزخرفٌ بتصاميم لكّ ماكييه ومرصعٌ بعرق اللؤلؤ من طراز رادين، وكلمة ماكييه هي اسمٌ يُطلق على اسمٍ للزخرفة مخصّصٌ لمصنوعات اللكّ تحديداً. ويتم انتاج التصاميم عن طريق مسحوق الذهب على أشكالٍ مرسومةٍ باستخدام اللكّ. أما رادين فهو استخدام أجزاء الأصداف البحرية التي تلمعُ كاللؤلؤ ويتم تقطيعها بالشكل المطلوب وتُثبّتُ أو يُكسى بها اللكّ.
دعونا ندقق النظر أكثر في الصندوق، السطح كله مغطى بخطوط ذهبية رفيعة تمثل الماء المتدفق، ونرى أيضا الكثير من النقط الذهبية بين الخطوط، أما العجلات الكثيرة وهي السمة الرئيسية لهذا التصميم، فهي مجسدة بدقة في استعمال مسحوق الذهب، وإن كان بعضها أيضاً يحتوي على قطع عرق اللؤلؤ، وكان استخدام الرادن ضمن تصميم الماكييه نمطاً جديداً للتعبير أمكن تحقيقه عن طريق الجمع بين الأساليب الحرفية الموجودة.
في اليابان استخدم الناس اللكّ للطلاء وكمادة لاصقة لأول مرة منذ نحو تسعة آلاف سنة، ويرجع تاريخ استخدامه على الأدوات والأوعية بأسلوبٍ أنيقٍ وزُخرفيٍّ إلى حوالي القرن الثالث الميلادي، ويُعتقد أن استخدام أدوات اللكّ لتثبيت قطعٍ مسطحةٍ من المعدن والأصداف تمّ تعلمها من خلال دراسة منتجاتٍ حرفيةٍ مختلفةٍ منقولةٍ من أراضي الصين الأم. وقد قام اليابانيون بعد ذلك بخطواتٍ عظيمة في مجال تطوير خيوط الماكييه، وبحلول القرن الثاني عشر الذي صُنع فيه هذا الصندوق، كان الماكييه يتقدم بسرعة كبيرة جداً. هاهو فوكوشيما يواصل شرحه : مسحوق الذهب وقطع الذهب المسطحة كلٌّ منهما يعكس الضوء بطريقةٍ مختلفة ولكلٍّ منهما سحرهُ الخاص، والأمر لا يتعلق بأيهما أفضل، ولكن منذ عصر هيان أصبح الارستقراطيون يفضلون الصور المجعدة قليلاً التي يجسدها مسحوق الذهب دون خطوطٍ راسخةٍ تبيّن الحدود، واعتقد أنهم كانوا يفضلون هذا العالم المليء بمسحوق الذهب المتناثر من مكانٍ عالٍ كنموذجٍ يمثل العالم المثالي.
صندوق مستحضرات التجميل هذا المغطى بعجلاتٍ ذهبية يتألق أيضاً بلونٍ أزرق باهت في مواضع منه، ويتحقق هذا التفاوت في الألوان عن طريق الاستخدام المنفصل فيه كل من الذهب الخالص والمزيج من الذهب والفضة. إن استخدام معادن مختلفة على هذا النحو يتطلب تكرار عملية ماكييه بأكملها بعدد الألوان المختلفة المستخدمة، ففي صنع الماكييه يطلى الشيء أولاٍ باللكّ وينثر عليه المسحوق ويطلى باللكّ ثم يطلى اللك مجدداً فوقه ويجفف ثم يتم طلاء وتلميع هذه الطبقة العلوية لإظهار الشكل المرسوم تحتها، ثم يتوجب البدء بالعملية من جديد للون تالٍ، وهذا يتطلب مستوى أعلى من الحرفية في الصقل والتلميع لإعطاء الشكل المرغوب. ولابدّ أنّ مالك مستحضرات التجميل هذا فُتن بمصنعية الماكييه ومهنية الرادين عدا التنوع اللونيّ المتقن.
من يا ترى الذي استخدم هذا الصندوق ولأي غرض؟ لسوء الحظ لا نعرف من كان يملكه، ومرة أخرى ها هو فوكوشيما من متحف طوكيو القومي يحدثنا عن ذلك : أغلب ظني أن مالكه كان يحظى بمكانة رفيعة للغاية، إذ من الصعب الاعتقاد أن مثل هذه القطعة المصنوعة بمهارة فائقة لم تُصنع إلا بناءاً على طلبٍ من شخصٍ رفيع المقام ورد ذكره في السجلات التاريخية، اننا نسميه تيباكو أي صندوق لمستحضرات التجميل لكن شكله يختلف عن المعتاد، فالغطاء المنزلق ينطبق على الجانبين، وهذا النمط أشبه بصندوق سوترا لحفظ مخطوطة دينية بوذية. ويمكننا العثور على شروحات في مخطوطات السوترا حيث يتم وصف الجنة البوذية على أنها مكان تطفو فيه أزهار لوتس تطفو على الماء عظيمة شبيهة بالعجلات التي تطفو في الماء وهناك من يقول أن استخدام هذا الشكل المسمى كاتاوا غوروما أو العجلات المغمورة في جدول الماء والتي تظهر في كل مكان من الصندوق من الممكن أن ينظهر إليه على أنه إشارة إلى هذا الشكل لأزهار اللوتس وأنه يدل على أنه عملٌ فنيٌّ بوذيٌّ في الأصل.
كان الكثير من اليابانيين في القرن الثاني عشر الذي صُنع فيه هذا الصندوق، يعتقدون أن تعاليم بوذا التاريخي آخذةٌ في فقدان تأثيرها، وأن العالم ينحدر نحو فترة من الفوضى هي فترة آخر الزمان التي لن ينجو فيها أحد. كان الدافع لتبني هذه الرؤية المتشائمة لنهاية العالم هو سلسلة من المجاعات الكبرى والأوبئة والصراعات بين الارستقراطيين. وكان الناس يبحثون عن السلوى بعيداً عن عالمهم المليء بالمتاعب. وصُنعت الكثير من الأعمال الفنية البوذية البديعة. وكان يُعتقد أن كسب الحسنات التي تؤدي إلى خلاصهم لا يقتصر على قراءة مخطوطات السوترا أو نسخها وتزيينها بشكل جميل، بل يشمل أيضاً حفظها في صناديق بديعة الصنع، وكان الكثير من الارستقراطيين يطلبون مخطوطات وصناديق جميلة للسوترا وهذه القطع ربما أيضاً كانت واحدة منها.
في العصور اللاحقة صنع الكثير من صناديق مستحضرات التجميل بالماكييه والرادن والتي كانت مزينة بأشكال عجلات كاتاوا غوروما، وقد فتن اليابانيون بالشكل والرسومات وأساليب الزخرفة كثيراً لدرجة أنها أصبحت تصميماً كلاسيكياً.
ومع مرور الزمن استمر تطور الماكييه ليحقق مستويات أعلى من اللمسات الإبداعية وفي الوقت الحاضر فإن هذا النموذج الأصلي لذلك المنظر الذي يصور عجلات في جدول ماء بلكّ ماكييه ومرصعة بعرق اللؤلؤ قد يبدو لنا في الجنة الآن لكن فوكوشيما من متحف طوكيو القومي يخبرنا أنه كان نموذجا يجسد الحس الجمالي لليابانيين في تلك الفترة. ليقول : شكل عجلات كاتاوا غوروما ليس مجرد نمط متكرر فكل عجلة تختلف قليلا عن كل عجلة أخرى والمنظر واسع وكبير ويبدو كأنه تجسيد لنوع من التطلع لفضاء أو زمانٍ أكثر اتساعاً، ان مسحوق الذهب المستخدم في هذا العصر المبكر كان كبير الحبيبات وغير منتظم الشكل، وهذا يجعل الطريقة التي ينعس بها الضوء معقدة على وجه الخصوص وأعتقد أنّ اللمعان العشوائي أيضاً جزء مهم من جاذبيته، إنّ ما نراه هنا هو الادراك الحسي المميز لعصر هيان واعتقد انه يجسد حساً جمالياً ذا طابع خاص.
الأناقة التي حظيت بعناية الارستقراطيين في عصر هيان ظلت تحظى بإعجاب عظيم في الأزمنة اللاحقة، ومازال هذا الصندوق لأن يكون لمستحضرات التجميل ليجذبنا في أيامنا هذه كعمل يمثل عصره.
……
دمشق

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!