“ثنائية مركز الفعل وصدى الهامش في الظواهر الإنسانية والسياسية والثقافية” ما بين النظري والتجريبي..

دراسات

بقلم بكر السباتين

يعاني الباحثون من قلة المراجع التي تبحث في “نظرية” ثنائية المركز والهامش بوصفها منهجاً علمياً من شأنه أن يساعد في توصيف الظواهر وسبر أغوارها بالتحليل والاستقراء، وتصنيف المدخلات ورصد ما يحدث فيها من تفاعلات وصراعات؛ لتسهل على الباحث تحليل النتائج أو فهم خصائصها للاستدلال على الأسباب التي أدت إليها من جهة، ومعالجتها فكرياً أو التعامل معها معرفياً من جهة أخرى؛ وذلك في نطاق الغايات والأهداف.

وكانت إحدى طالبات الماجستير في النقد الأدبي بإحدى الجامعات الأردنية قد استعانت بي (بعد أن أبهم عليها المصطلح) في كتابة تقرير عن ثنائية المركز والهامش في شعر (أبو عمر عبد الله الأموي العرجي) شاعر الغزل الذي هيأت له مكانته الاجتماعية الرفيعة المؤثرة وذات الحصانة (المركز) من التغزل بالنساء، حتى المحصنات منهن، بكل تسيب ورعونة، لتأخذه زلات اللسان إلى حتفه بعدما تكالب عليه الخصوم، فيزج به في السجن (الهامش) ليتحول بعد ذلك خطابه الشعري من حالة الدعة والنفوذ وسطوة المركز بما فيها من رعونة وتغزل بالمحصنات دون مراعاة للمثل والأخلاق، إلى حالة التهميش والثورة على ظلم الحكام وتجبرهم، وهجائهم، حتى مات في سجنه الذي آل إليه في دم، على يد والي مكة (وكان خصماً له) فعذبه وحبسه فمات في سجنه. كما جاء في (الموجز في الشعر العربي) للباحث فالح الحجية الكيلاني. وهذا في تقديري يُعَدُّ انتقالاً حسياً ومعنوياً (عبر عنه العرجي شعراً) من حالة المركز والنفوذ إلى حالة الهامش والشعور بالاضطهاد فتتقد في روحه ثورة المحروم وتمرد من فقد عزّه، مستنكراً أن يتمرّغ أنفه بالتراب، الأمر الذي سيسهل علينا في سياق هذه الدراسة القصيرة، فهم ثنائية المركز والهامش بما يكتنفها من التباس في الدلالات والمحددات وغموض في المعنى، وذلك من باب المعرفة أوالاستعانة بها كمنهج علمي تجريبي في التطبيق النقدي على أرض الواقع، لرصد الظواهر والمتغيرات في كل النواحي، ومحاولة فهم ما يدور حولنا من واقع مركب بدا وكأنه عصيٌّ على الفهم والإدراك.

فما هي ( ثنائية المركز والهامش)؟ وما أوجه الخلاف بين الباحثين في اعتباره منهجاً منقوص المحددات، وبالتالي سيقف عاجزاً أمام تحليل الظواهر الإنسانية، وحصر قدرته فقط على التحليل الاقتصادي وإسقاطاته السياسية على المجتمع، ليُعَدُ في هذا الشأن منهجاً علمياً وافر الشروط، أو ما يذهب إليه آخرون في اعتباره منهجاً علمياً قادراً على البحث في كل الظواهر دون استثناء، وهو ما أميل إليه، وللإجابة على السؤال، سنورد في هذا السياق مثالاً قياسياً نقارب فيه بين الظواهر الفيزيائية والإنسانية، على اعتبار أن الظواهر تنشأ من دوامة مركزية تنداح حولها (وفي نطاق جاذبيتها) مدارات حلزونية هامشية مسيرة بفعل الجاذبية المركزية، وبالقياس إلى ذلك، فإن النواة على اعتبارها مركز الذرة ومعظم كتلتها، وقوتها الجاذبية، فإن مداراتها الإلكترونية بالمقابل ستمثل الهوامش، لذلك فإن تهيج الإلكترونات في مداراتها الأخيرة سيحررها من قيود المدار المحكوم بجاذبية المركز، وبالنتيجة فإن وميضاً سينجم عن تهيج الإلكترون، كأنها حالة تمرد تومض بالحرية مغردة خارج السرب، ومخالفة لوجهة القطيع لو أسقطنا هذا المثال على الظواهر الإنسانية.

ولكن ماذا لو يحدث انشطار في مركز الذرة؛ ما ينجم عنه فقدان للسيطرة على الطاقة الكامنة في النواة، هذا بالطبع كانفجار مراكز القوى الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، المحصلة انفجار نووي سوف يقع، ولو أسقطنا هذا المثال على كل الظواهر المختلفة، فلا شك سنتخيل نتيجة انشطار المركز كوارثاً وحروباً ومواجهات دامية لا تبقي ولا تذر، وانعدام لغة الحوار، وسوف يتعزز الهامش بطاقة إشعاعية سلبية وفقدان للبوصلة قد تمتد طويلاً في صراعات ودوّامات هامشية إلى حين تكون نواة مركزية قادرة على استيعاب جميع المصالح والقوى المتظافرة للتحكم في الظاهرة من جديد.

ولمزيد من التوضيح، فإنه لو رصدنا علاقة الشمس مع الأرض لوجدناها تتجلى في مفهوم المركز والهامش، آخذين بعين الاعتبار أن الحياة على الأرض غير ممكنة بدون وجود الشمس التي تمنحها الطاقة وتتحكم بظروفها البيئية، لذلك فالأرض تتبع في تقلباتها ما تحدثه الشمس من تأثيرات عليها، أي أن الشمس هي مركز التأثير الفيزيائي على الأرض التي تدور في فلكها على اعتبار أنها الهامش في إطار المنظومة الشمسية.

مقابل ذلك فإن ثنائية المركز والهامش ستتحكم في كل نواحي الحياة المتعلقة بالإنسان، ذلك الكائن الاجتماعي الموجود على أرض تدور حول الشمس، والتي بدورها تمثل مركز التأثير، بحيث يخضع الهامش المتمثل بالأرض لسلطة المركز؛ فتحدث المتغيرات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم يتحقق التوازن في ثنائية المركز والهامش، ويبقى الصراع كامناً بين طرفي الثنائية، وتنفتح بالتالي العلاقة بينهما على احتمالين، فإما الاستقرار الذي يفرضه المركز من حوله على الهوامش التي تدور في فلكه، أو تفكيك ذلك المركز من خلال انقلاب الهوامش عليه كردة فعل، لتنقلب المواقع بين طرفي الثنائية . وعلى ذلك يمكن قياس العلاقة الجدلية بين المركز والهامش في كافة الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والإبداعية؛ ومن هنا أيضاً يمكن اعتبار تحليل الظواهر عن طريق جدلية العلاقة بين المركز والهامش منهجاً علمياً تجريبياً يمكنه التعامل مع الظواهر كافة دون استثناء، رغم أنه لم يرق بعد إلى مستوى النظرية المتكاملة، هذا إذا علمنا بأن المنهج ( الموسوعة الحرة) هو”عبارة عن مجموعة من التنقنيات والطرق المصممة لفحص الظواهر والمعارف المكتشفة أو المراقبة حديثاً أو لتصحيح وتكميل معلومات أو نظريات قديمة، تستند هذه الطرق اساساً على تجميع تأكيدات رصدية وتجريبية ومقياسية تخضع لمباديء الأستنتاج” .

ولهذا فإن المنهج العلمي يتخطى مجرد وصف المشكلة أو الظاهرة موضوع البحث الى فهمها وتفسيرها وذلك بالتعرف على إحداثيات موقعها من الإطار الكلي للعلاقات، وهذا بدوره يشير إلى تفسير العلاقة بين مركز التأثير والهوامش، بحيث أن هذه العلاقة تكون نسبية إلى موقف الراصد التجريبي وما بحوزته من معطيات التأثير التي تحدد قدرة المركز على التأثير ومداه في الهامش.

ويعرفه ابكر آدم إسماعيل في كتابه (جدلية المركز والهامش)

“انه منهج متعدد محاور الجدل، نحلل بواستطه وضعيات تاريخية معينة، حيث نعاين هذه الوضعيات من خلال ميكانيزمات التمركز والتهميش التي على أساسها يدار الصراع على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في آن واحد” (صفحة 91).

وفي معرض تحليله لهذا الكتاب يرى الباحث أحمد محمود في دراسة له بعنوان:

‎نقد جدلية المركز والهامش عبر كتابة عقل الأزمة، بأن جدلية المركز والهامش “لم يتم أختبارها علمياً لكي تصل الي مستوي قراءة الظواهر وتفسيرها؛ لأنها هي في اطار البحث من أجل اثبات صحتها وفي نفس هذا الأتجاه فهي ليست نظرية لأنها ما زالت تقع في مساحة ما بين المعرفي والوجودي او الابستمولوجي والأنطلوجي، إذ أن الفكرة لا يمكن اختبار صحتها إلا في حال تحققها على أرض الواقع أو الوجود”.

وقد يكون هذا الرأي مصيباً بالقياس إلى ندرة الدراسات التي تنتهج ثنائية المركز والهامش في سياق تحليلها للظواهر الإنسانية والسياسية والاقتصادية؛ ولكن لو طبقت على قاعدة توفر معطيات الحل في المركز الذي يصنع القرار ويتحكم بمخرجات النتائج، فلا شك بأن التحليل سيقود إلى إجابات مقنعة.. فمثلاً وفي إطار السياسة فلو تتبعت ما يدور حولنا من تداعيات مبهمة ستجد بأن مركز الفعل كامن في العقل الصهيوني الذي يدير الصراعات في الهامش الإقليمي من قلب الكيان الإسرائيلي، وربط ذلك بمشاريع تفكيكية في المنطقة مثل خرائط برنارد لويس لتقسيم الشرق الأوسط في إطار العالم الجديد والتي وافق عليها الكونغرس الأمريكي عام ١٩٨١، حيث جاءت توطئة لاحتلال لبنان من قبل الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون، وفيما يتعلق بالإقتصاد العالمي فإن المركز يتمثل بمالكي مخزون الذهب من أباطرة المال كعائلات روتشيلد وريكفلر ومورجان، ناهيك عن سيطرتها على معظم البنوك المركزية في العالم، بل وتسيطر أيضاً على سياسات البنك الدولي الإقراضية، حتى في سياق الظواهر الاجتماعية، فإن دراسة ظاهرة الفقر (الهامش) لا بد وأن تبدأ بتحليل ظاهرة السلطة وحركة رأس المال، والتنقيب في ملفات الفساد، وكبت الحريات، وانعكاس كل ذلك على المجتمع..

وفي المحصلة، فإن القراءة المعمقة لحدث ما مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو محاولة تطبيق مشروع ترامب ما يسمة “صفقة القرن” فلا بد قبل كل شيء من تحديد منطقة المركز وكيف يصنع القرار والعوامل التي وضعت الآخر في منطقة الهامش وعلاقة الزمن بتحقيق الهدف المنشود قبل أن تتبدل الأماكن والأدوار ما بين المركز والهامش.. فدراسة أية ظاهرة دون البحث عن خصائصها في مركز الفعل، ستكون نتائجها مبهمة وعمياء، فالمركز في السياسة متغير ومتعدد الأقطاب فهناك روسيا وأمريكا والصين، كما هو في الاقتصاد حيث الجهات التي تمتلك أكبر أرصدة للذهب مثل روتشيلد، ناهيك عن الظواهر الإنسانية والثقافية والفكرية، والدينية التي أنتجت عبر التاريخ الأفكار العظيمة التي ما فتئت تحلق في هامشها مجاميع كبيرة من البشر .

الموضوع ما زال قيد التجريب وباب الاجتهاد فيه مفتوح على مصرعيه، وله عندي بقية.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!