سنديانة الذاكرة الفلسطينية وحارسها الفنان عبد الحي زرارة في ذمة الله

بقلم بكر السباتين

فجعت الثقافة الفلسطينية والعربية بوفاة قامة فنية عالمية، الفنان عبد الحي مسلم زرارة.. وكنت قد حظيت بزيارته بمعية شقيقي م عمر السباتين يوم أمس (أول أيام العيد) حيث كان راقداً على السرير وموصولاً بالأجهزة الطبية في غرفة العناية المركزة بمستشفى أحمد حمايدة في شرق عمان.. كان هزيلاً كهيكل عظمي.. لكن هالة العظمة كانت تطوق رأسه حتى وافته المنية هذا اليوم وقد ترجل الفارس عن صهوة جواده ويبقى صهيله خالداً وعلى ظهره إرث تشكيلي لا يبور، نتذكره كلما طوق قوس قزح بألوانه الأفق. إذ انتقل إلى رحمته تعالى اليوم، السبت، الأول من أوغسطس 2020 هذا المناضل الكبير عن عمر ناهز السابعة والثمانين عاماً قضاها في حماية التراث الفلسطيني من خلال فنه في إطار نضاله الطويل ضد الاحتلال الإسرائيلي في معركة البقاء.
ويعتبر زرارة من أركان الثقافة الإنسانية التي أنجبتهم فلسطين من أمثال الراحلين: محمود درويش، ناجي العلي، إسماعيل شموط.. غسان كنفاني. إنها الطيور الخضر وقد انضم إلى سربها حارس الذاكرة الفلسطينية التي يأنفها الغياب .. وقد أورثوا سلافة إبداعاتهم لتنحت في الصخر ملامح فلسطين حتى لا يداهمها الغياب.
وفد تزينت بلوحاته المدهشة جدران المتاحف في أهم العواصم الأوربية حيث ظل مخلصاً لفنه وقضيته، حتى جاء من يقدرها على الصعيدين المعنوي والمادي، فاشترت إحدى المتاحف الخليجية بعض لوحاته بثمن باهظ تقديراً لمكانته الثقافية ولأعماله الفنية وهي بادرة تعبر عن أهمية هذا الفنان الكبير الذي لقب بفنان الشعب والتراث وحارس الذاكرة الفلسطينية التي لا تبور.. وقد حظيت دارة الفنون في عمان التي يمتلكها ورثة المرحوم خالد شومان ببعض لوحاته من المنمنمات الشعبية وعرضتها في القاعات الرئيسية إلى جوار بعض أعمال الفنانة االكبيرة الراحلة الأميرة فخر النساء زيد.
رحل الفنان عبد الحي زرارة إلى الرفيق الأعلى وقد انحنى ظهره إثر حمله الثقيل للذاكرة الفلسطينية عبر مسيرة طويلة تجاوزت الثمانين عاماً قضى معظمها في تسجيل معالم الذاكرة الفلسطينية التي حاول العدو الصهيوني طمسها، من خلال مشروعه الفني التشكيلي، الراسخ بثبات في المشهد الثقافي الإنساني.
ويمثل الراحل زرارة أحد رموز النضال الفلسطيني، والذي بقي أربعين عاماً يتلقى دروسه في الحياة، وقد عانى خلالها أقسى ظروف الشتات، حتى تخمرت في قلبه الشفوق تجربته الفذة، وكأنه انتظر فرصة امتلاكه للأداة المناسبة في التعبير.. وكان له ذلك حينما تعلم النجارة، إبان التحاقه بسلاح الجو الليبي، مستخلصاً خامته من نثارة الخشب والغراء، فيما راح يمارس حريته في تشكيل انفعالاته وفق رؤيته الناضجة المخضرمة ببساطة اكتسبها من رغبته الجامحة في التعبير لإثبات الذات، وللدفاع عن حقوقه الوطنية المسلوبة، وكأنه يراهن على اكتمال أدواته الفنية من خلال التعبير المبتكر بها، متجاوزاً مرحلة اختباره للأسلوب ضمن التعليمية التي كانت ستفرض عليه جملة من الشروط التي لا بد من الأخذ بها.. فكان عليه التصدي لهذه الإشكالية وتجاوزها باعتماده على التعبير الفطري.. متحرراً من كل القيود، ومستمداً ألوانه من قلبه الملتهب، تتحكم مشاعره بكل انفعالاته، فيتجرد من البكائية في التعبير، والتطبيل الأجوف، والتوعد الحالم، مسخراً كبرياءه في إدخال المشاهد إلى قلب الحدث، فيما يكتفي الفنان بالإشارة إلى ما يجري، لأن بكاء الفنان استجداء سيغطي على الحدث، من هنا أخذت فطرية الفنان عبد الحي زرارة دورها في استقطاب المشاهدين إلى قلبها.. ليخرجوا وفيهم شيء مما يبتغيه الفنان.
تنقل الفنان في المنفى بين ليبيا والشام وبيروت ليستقر أخيراً في عمان، ومن بين تلك المدن التي أقام فيها.. أخذته نزعة الحرية إلى أرجاء العالم، موقداً في كل عاصمة أو مدينة شعلة، حتى صار الحديث عن عبد الحي زرارة مدخلاً لطرح تفاصيل القضية الفلسطينية.. سياسياً وثقافياً.. يبهرك وهو يتحدث عن هموم الإنسان الفلسطيني وفق رؤيته، والتي يتمازج فيها منطق العقل المجرب بمشاعر الفنان الملتزم، فتزدحم في رأسه الصور والتجارب المعبقة بطعم الحياة بما فيها من متناقضات، يقدم طرحه وعلى متنه الدليل، فهو لا يعرف المواربة، فيأخذك على متنه من تجربة عاشها، أو شخصية التقاها، أو قضايا وإشكالات تصدى لها بريشته، أو مأساة شخصية حذفت إليه.
وكانت محاوره في التعبير تتمركز حول تداعيات القضية الفلسطينية معتمداً في ذلك على الذاكرة الخصبة المشحونة، والعين التسجيلية الناقدة للمستجدات، فتأخذه الذاكرة أحياناً إلى خصاب طفولته، حيث ترعرع يتيماً في كنف والدته الصابرة المكافحة.
وظلت الأم توقد مشاعره بالحياة، حيث تمرنت عينه على التنقيب في صناديق الجدات، والمطرزات التي تغطي الثياب والنمارق وأدوات الزينة، إذ كان مصرح له وهو طفل بان يطلع على أدق أسرار المرأة التي أغدقت عليه المحبة والأمان.
فقد أخذته أيضاً إلى ما شهده صغيراً من حياة شعبية وتراث مبهر، وما قاساه بعد ذلك من تشرد وعذاب عاناه وأهل قريته الدوايمة، على أثر مذبحتها الشهيرة والتي اقترفها الصهاينة بدم بارد؛ لذلك كان للدوايمة حضورها القوي في ذاكرته المرجعية، لا بل جعل ينهل من معينها كل مفرداته الوطنية والإنسانية، وكأن قرية الدوايمة هي كل فلسطين شكلاً ومضموناً، وخلاصة تداعياتها العسكرية والسياسية وما نجم عن ذلك من تداعيات إنسانية..
وبعد النكبة جاء المخيم الذي اتخذ مكانه في ذاكرة عبد الحي وهو فتى يانعاً.. لتبدأ رحلة الفنان مع هذه المفردة التي تمثل الذاكرة الجمعية لشعب فلسطين.. فكل ملامح فلسطين وتداعيات النكبة تعطي المخيم شكلاً ومضموناً لذاكرة مفتوحة على المستقبل.
والمخيم الذي وألف بين الأذواق الاجتماعية والطبقية حتى بتراثها الشعبي وعاداتها وتقاليدها.. فأمست مداداً للمناضلين وهم يبدعون في المقاومة، وكانت مداداً للفنان عبد الحي زرارة.
ترك الفنان عبد الحي زرارة بصماته واضحةً على الفن التشكيلي الفطري، من حيث الشكل والمضمون.. فاتخذت تكويناته ضمن التشكيل الفني دلالات ذات معنى..
أما في ريادته لفن الترقين فتجدر الإشارة إلى عدم مخالفة عبد الحي زرارة لشروط مدرسة الترقين الفارسية التي التزم بها فنانو العالم في تركيا، وبلاد فارس، والعراق، وأوروبا.
فكانت عناصر لوحاته ذات بعدين (عمودي، وأفقي)، وقد تجاهل الظلال والمنظور، والنسب بين الكتل، بحيث كان الطفل وهو على سطح منزل ما غير طبيعي في حجمه بالنسبة إلى حجم الدار مثلاً.
أما ما يميز فن (الترقين) عند عبد الحي زرارة هو تطويره لهذا الفن من الناحية التقنية، وذلك باستخدامه خامة جديدة على هذا النوع من الفنون، والخامة هي (عجينة الغراء، ونشارة الخشب). أيضاً من حيث المضمون.. لقد وظف عبد الحي زرارة أسلوب (الترقين) في حمل الرسالة الوطنية، بتسجيل الموروث الشعبي الفلسطيني من عادات وتقاليد تحت شعار حماية الذاكرة الفلسطينية.. وذلك على غير ما هو دارج.
فتحولت العناصر التراثية إلى دلالات وطنية.. ولعل أحد أهم أسباب انتهاجه لهذه المدرسة كما قال لي، هو موقفه من تنكر السيدة اليوغسلافية لتراث الشعب الفلسطيني حيث نسبته للتراث الشعبي الإسرائيلي.
وكانت قناعته بقدرة فن (الترقين) في حمل الرسالة راسخة؛ لذلك جاءت لتعيد نسج الحقيقة من ذاكرة ممتلئة بالتفاصيل.
وأطلعت في مرسمه على أعمال تكاد تنطق من فرط دقتها وشاعرية التعبير فيها.. حيث ركز فيها زرارة على المرأة كمستحوذ لوجدانه، فأطلقها عارية تماماً كالحرية، أو شامخة على هرم التحدي، ويبدو أنه انفتح بتجربته الأخيرة على أكثر من تجربة تشكيلية شكلاً ومضموناً وتقنية..
ظل عبد الحي زرارة أسيراً لتداعيات قضية فلسطين.. وإن ابتعد قليلاً في تماثيله الجبسية عن هذا المضمون.. إلا أن ارتباطها بدلالات الحرية الايمائية في تشكيل الجسد وتعابير الوجوه يربطها بعض الشيء بمضامين الحرية التي تضج بها الرؤى في أعماله القديمة والجديدة..
بقي أن نقول.. بأن مرحلته الأخيرة.. احتوت نماذجاً من فن (الترقين)، والذي اعتمد في رسم عناصرها البشرية على الأسس الأكاديمية.
ويظل الفنان عبد الحي زرارة، معطاءً.. يتمتع برؤية شبابية لا تشيخ.. ونظرة ثاقبة إلى الخفايا.. وحالماً دائم العوم في خيالات الإبداع.
لقد سجل بعناية فائقة تفاصيل الحياة الشعبية، فيما عبر بمسئولية المناضل عن نبض القضية الفلسطينية بصدق وعفوية.
اكسبه احترام عشاق الفن التشكيلي في العالم يحلم عبد الحي زرارة بتخليد المواضيع الجادة التي عبر عنها.
قال لي ذات يوم:
“هدفي دائماً أن لا أعرض لكي أبيع ولو اضطررت إلى ذلك، ومعظم أعمالي التي تتعلق بالقضية الفلسطينية احتفظ بها، وحلمي أن يقام ويلتئم شمل أعمالي المتعلقة في القضية الفلسطينية في متحف صغير، أوثقه بطريقتي الخاصة لكي يبقى للأجيال المقبلة”.
رحم الله حارس الذاكرة الفلسطينية، الراحل الكبير زرارة وأسكنه فسيح جناته.. إنه ابن كل فلسطين التي فجعت برحيله.
1 أوغسطس 2020
***

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!