الفصل السابع عشر من رواية الغداء الأخير للروائي الأردني توفيق أحمد جاد

   فرحت ياسمين فرحاً يعانق السماء، بعد أن تقبّل جدّ فالح الصّغير أمر المحكمة وعلى مضض.. لم يكُن له أيّ خيار إلاّ الرُّضوخ والقبول بالحكم. قبل خروجهم من قاعة المحكمة، اندفع فالح الصّغير نحو جدّه.. تعلّق برقبته، كتعلُّق الرّضيع بأمّه.. لم يجد الجدُّ بداً من احتضانه.. تحرّكت مشاعره اتّجاه حفيده.. احتضنه وبدأ يُقبّله ويشمّه.. وجد فيه رائحة ولده المرحوم.. بدأت دموع الفرح تنساب من عينيّ ياسمين.. اقتربت منهما واحتضنتهما، ثمّ أجهت بالبكاء من شدّة فرحها.

 

  دعا الجدّ الأقرباء والأصدقاء لحفل في بيته.. أعلن لهم فيه عنْ حفيده فالح.. ذكّرهم بتلك الحادثة المشؤومة، موضحاً لهم ما جرى.. أبدى الجميع سعادتهم من هذا الأمر، محاولين إظهار سرورهم وابتهاجهم، متبادلين الغمز والّلمز.

 

  بعد صدور حكم المحكمة والذي أثبت نسب فالح الصغير، واعتراف جدّه به وبنسبه.. اتصلت ياسمين بعبد الله وأعلمته بما جرى، فما كان منه إلا أنْ طلب منها عنوان عمها لزيارته والمباركة.. اتصلت بصديقتها سجى.. أخبرتها بقرار المحكمة.. أخبرتها بأنّ الدنيا لا تسعها مِنْ شدّة فرحها.. بدأت تبث شجونها.

– فقالت: اليوم.. أشعر بأنني وولدي بعثنا مِنْ جديد.. أصبحنا أحراراً.. أرى نفسي كطائر الحب الذي تلوّن بزاهي الألوان.. فُتحَ له باب القفص الذي سُجن فيه.. انطلق يسيح في فضاءات الله.. يرفرف بجناحيه فرحاً.. يعلو ويرتفع.. يعود ويحطّ على جنبات تلك المياه الضحلة.. يرفرف بجناحيه على أطراف الماء.. يتقافز ويغط رأسه فيها.. يحطّ برجليه على سطح الماء للحظات ثمّ يعود ويرتفع.. يغسل خطايا وهموم الماضي المؤلم.. فرحة لا يفوقها سوى حبي لولدي فالح.

 

  حضر عبد الله من الامارات.. زار جدّ فالح.. تعرّف إليه في جلسة جمعتهما معًا.. لاحظ الجدّ مدى تعلُّق حفيده بعبدالله، كما لاحظ بأنّه يخاطبه بـ (بابا عبدالله).

 

  فهم أنّ هناك علاقات حميميّة تربطهم ببعض.. التقى عبدالله بياسمين واتّفق معها على الزواج.. سُرَّ فالح الصّغير عندما أخبراه بأنّه سيعيش معهما في بيت واحد.. أخبرت ياسمين عمّها بقرارها الزّواج من عبدالله.. اشترط الجدّ بقاء حفيده عنده.. حاولت ياسمين أن توضّح له أنّها لا تستطيع فراقاً لولدها.. عبدالله أبدى استعداده بأن يُديم تواصُل فالح الصّغير مع أهله.. أمّا فالح الصّغير فقد انزوى بعيداً عنهم يرقُبُ النتيجة، والدّموع تنهمر من عينيه، حالما سَمِعَ موافقة جدّه، ركض إلى أمّه يحتضنُها.

 

  اتصلت ياسمين بسجى ثانية.. أخبرتها بأنّ عبدالله تقدّم لخطبتها وأنهما سيتزوجان قريباً.. تكلمتا مُطوّلاً.. لم تترُكا شاردة ولا واردة إلاّ وتحدّثتا بها.. فرحت حين أخبرتها سجى عن حملها الثاني بأنثى كما أخبرها الأطبّاء.. سكتت ياسمين خلال الحديث وكأنّها تُفكّرُ بأمرٍ بعيدٍ عن محور حديثهما.. سألتها صديقتها عن سبب سكوتها وسرحانها.. تنهدّت وقالت: ليت لي قلبين..

– سجى: ولِمَ؟

– ياسمين: أعيش اليوم بين حُبّين.. حبٌّ ميّتٌ.. وحبٌّ حَيّ.

– سجى: ولكنّ البقاء للحيّ.

– ياسمين: وهل أستطيع شطر قلبي نصفين؟ نصف لعبدالله ونصف للفالحيْن.

– سجى: سنّة الحياة الاستمرار.. لا تنتهي حياتنا بموت شخص. نعم الحب الأول لا يُنسى.. ولكنّ الاخلاص في الحبّ للقادم لا بُدَّ منه.. أنصحك بأنْ لا تذكُري الماضي أبداً.. فتكوني قد خسرت الاثنين.

 

  ضاقت بي الدنيا، إلاّ من عواطف جيّاشة اختزنتُها في صدري.. لمْ تَدُمْ طويلاً وهي ترقُدُ في ثناياي.. تحرّكتْ وأسرعتْ تُهرول بلهفة وشوق إلى عبدالله.. إنّه العشق يا صديقتي.. أليس كذلك؟

 

  بعد عدة أيام من زواجهما في أحد الفنادق.. طلب عبد الله المغادرة معها وولدها.. فاستأذنته ياسمين بزيارة قصيرة لصديقتها رشيدة قبل السفر.

قبل زيارة ياسمين بيوم واحد، كان موعد الإفراج عن عودة.. ذهب عايد في الصباح إلى السجن.. في طريقه إلى هناك.. جلس في الحافلة خلف السّائق تماماً.. ينظر إلى الخارج أحياناً.. يرى النّاس وكأنّهم قرود يتنقلون من مكان إلى آخر.. يبدأ بالضّحك مستهزئا بهم.. يعود للنظر إلى المرآة التي تتوسط أعلى الزجاج الأمامي.. يصل احمرار وبريق عينيه إلى عينيّ السّائق.. تنقلب ضحكاته إلى همهماتٍ وخوف.. يرى الرّعب والخوف في وجهه.. تنفّس الصُّعداء حين وصلت الحافلة.. نزل منها على عجل.. ينظر خلفه تارة، وأمامه تارة أخرى.. وكأنّ شيئاً ما يخيفه ويتبعه.. أحضر أخاه معه.. استدعى أخاه عوّاد.. أخبرهم بأنه سيقيم احتفالاً بعودة عودة سالماً لهم.. وبأنه سيقوم في اليوم التالي وبعد صلاة الظهر بعمل هذا الاحتفال الذي سيضمّ الجميع. بصيص نور كان يسكن يوماً في صدر عايد.. هذا النّور ربّما أنّه بدأ يخفت، أو أنّه تلاشى.. أصبح يتخبّط مثل رجل سِكّير.. يصحو قليلاً.. ويغيب كثيراً.

 

  جلس أمام أمه.. انكبّ يقبّل يديها وقدميها.. احتضنها بقوة.. ألقى برأسه في حجرها.. وبدأ يخاطبها: أمّي.. يا أجمل اسم عرفته.. وأصدق كلمة تعلمتها.. روحي وحياتي.. يا نبعاً للحنان لا أرتوي إلّا منه.. لو وضعتكِ في كفّة والعالم كلّه في كفة.. لرجحت كثيرا.. وإن صَغُرَ العالم في عينَيَّ.. لبقيت أنت الكبيرة التي لا تصْغُر.. كم تمنيت منذ نعومة أظفاري لو استطعت أن أقطف النجوم لتتجمل قلادة لجيدك.. والقمر أُلبسُهُ لإصبعك خاتما.. والشمس ألُفُّها إسورة لمعصمك.. وأستذكر قصيدة..

 

 

لأنها أمي“*

 

 

لأمي ألفُ معجزةٍ

كما الأنبياء

لنا الأرضُ تحتوينا

ولها الكونُ فسيحًا والسماء

لأمي

ألف زيتونةٍ

ومسبحةٍ تعدُّ الأسماء

بأصابعها

سبحانك اللهم!

كم يشرق وجهها

ويعلو الدعاء

لأمي..

الشمس ما أشرقت

لأمي الكواكب سيّارةٌ في

مدارها

لأمي النجوم طوقًا

على صدرها

لأمي ما أشتهي من النور

في صلواتها

فيعلو النداء”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*المقطع الشعري من قصيدة “لأنها أمي” للشاعر العربي عبدالرحيم جداية.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!