سيرة تائه / بقلم : حمزة شيوب

في قرية منسية سُمِّيت قديمًا بِـ إغَشَّامَانْ ، في سنوات التسعينات رأيتُ نُور الحياة المظلمة لأول مرة في هذه القرية ، بجَبَل إشَطِّبانْ ، هناك ولدت وكبرت ثم رحلت حين وصلت الثاني عشر من عمري ، إلى بلدة بودينار التي كُنْتُ أسمع عنها فقط ، رحلت لأدرس هناك في المدرسة الإعدادية ، لم أكن حينها سوى طفل بريئ لم يرى مرارة الشارع بعد ، على باب المنزل الذي إستأجرته وقف أبي يودعني ، تنهّد بجملة نقشت نفسها في جدار الذاكرة : – يا إبني أنت الأن وحدك لا أمك ولا أبوك سيراقبونك ، كن أو لا تكون .. ثم رحل أبي وتركني وحدي داخل جدران البيت الأربع ، لا حنين ولا رحيم ، لا أملك سوى بعض الدراهيم القليلة في جيبي ، أقضي بها بعض الأيام ، ذُقت في ذلك البيت مرارة الحياة وقساوتها ، كبرت هناك وحدي في الغرفة المهجورة بين أحضان الجدران ، طيلة السنوات السبع التي قضيتها هناك لم أشبع فيها الخبز . سئمت من تلك الحياة فهربت تاركا ورائي الدراسة ، هربت إلى مدينة لم أسمع بها يوماً ، لأبحث عن الخلاصة من عبئ الحياة ، عملت حمالا وماسح أحذية ، ثم إنتقلت لبيع الجرائد في المقاهي وعلى الأرصفة .. مضى رهطا من الزمن الصبي صار رجلا وما زلت أقاتل ، لا أعرف ضد من ؟ لا شك اني أقاتل ضد الزمن نفسه ، أنتقم لشقاء طفولتي ، حيث كان الزمن يدقُّ دقَّاته ويمضي ، وكنت أنـا الـصّبـيّ المتشرد الخادم النّـائم على الدرج ، أستعجل الزمن واقول له إمضِ، وها قد مضى ، كبرت ،صرت رجلا وما زالت أنام على الدرج وأصحو صباحا لأبيع الجرائد في المقاهي والأرصفة . بعد خمس سنوات من الغياب إشتادني حنين إلى الريف إلى مدشري “إغشامان” فرميت الجرائد وغدوت إليه ، حين وطأت قدمي في أرضه ، أخذني إشتياق كبير لرحاب منزلنا الطني الكبير ، وسياج القصب الذي لم يكن بينه وبين باب منزلنا سوى خطوات قصار ، وإلى البئر الذي طالما تسارعنا إليه أنا وأطفال حارتنا لنغسل أيدينا وأرجلنا حين ننتهي من اللّعب في التراب .. وصلت قرب منزلنا ، فلم أجد سياج القصب الذي كان يُحيط بمنزلنا ، ولم يكن منزلنا الطيني هو نفسه ، لقد تغير وأصبح منزل مُعد بالإسمنت والياجور ، هذا التحول وقع منذ ستة عشر سنة ، لكن ما زالت ذاكرتي حين أكون عائدا إلى الريف تُصوِّر لي صورة المنزل الطيني وفناؤه الشاسع ، كأنه ما يزال هناك .. وتصور لي أيضا ذكرياتي معه كشريط سنيمائي . فإذا أوَت الشمس إلى كهفها ، والناس إلى مضاجعهم ، وأطفئت السُّرُج ، وهدأت الأصوات ، تأخذني أمي وتَعْدُو بي إلى زاوية في حجرة صغيرة ،فتُنيمني على حصيرة قد بُسِط عليها لِحاف ، وتلقِي عليَّ لِحافًا آخر ، فتعود أمي مسرعة لتأخذ أخوتي الأخرين الذين غلبهم النعاس في فناء المنزل ، وتضع كل واحد منهم في مكانه داخل الحجرة الصغيرة التي تجمعنا جميعا .. كنت أستيقظ مبكراً مع تجاوب الدِّيَكة وتصايح الدجاج ، فأبقى متكئا حتى أسمع أزِيز المِرجَل يغلي على النار ، فأقوم لأغسل وجهي لأستعدّ للفطور ، لكي أذهب مع أخي الكبير للرعي .. ننطلق مع شروق الشمس ونعود في غربها ، نمر عبر التلال والجبال نبحث عن هضبة ما يزالُ فيها العشب نابتا . فنترك الأغنام هناك تلتهم العشب، ونسوح نحن في إتباع الطيور والأرانب البرية لِإصطيادها بالجبّاد ومِجداف زَوْرقٍ صغير يشبه الهراوة … بينما كنت غارقا في ذكرياتي شعرت بتمسح قطة بساقاي ، فإنغمست عائدا إلى ذكرياتي حيث كنت أجرجر ذيل قطتي ، وأقطف من عريشتها ، وأحلق شواربها .. فجأة سمعت صوت جدتي : هل هذا أنت يا إبني ؟ مرحبا بعودتك .. لا تقف خارجا تفضل بالدخول .. قبلت جدتي وعانقتها ، ثم دخلت وتركت ذكرياتي تتصارع خارجا ..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!