من مذكّرات معتقل- بقلم المحامي محمد غانم

لصحيفةآفاق حرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

أُهديها مشفوعة بقراءة سورة الفاتحة إلى روح الأخ الصديق الشيخ البرلماني السوري الحرّ والشريف المهندس خليل الرفاعي -رحمه الله
_____

جنّ علينا الليل وزاد في وحشته الخوف والروائح الكريهة ؛ وحاجة كل منا الماسّة لإخراج ما حوته البطون على مدار أيام ثلاثة من سميط البرغل وحبّات البطاطا المسلوقة والخبز سيء الصنعة ؛ وأنظر يُمنة ويُسرة فالكل يتلوّى كحوامل لم يُسعفهن الطلق أو يعشن آلام المخاض …

وعلى وقع ضيق المكان وغياب التهوية وكثافة الغازات السامة الخارجة من البطون الخاوية الملبّكة ؛ دخل علينا إياد -عفواً- “الجلّاد إياد” وبيده كبل رباعي يسعى ويهتز معربدا عربدة وحشية ؛ ووقف على الباب ولم يستطع التقدم نحونا لانبعاث الروائح نحو فتحة الباب كغمام دخات يتدافع للخروج …

يبدو أن الجلاد إياد هذه المرة على غير عادته فقد كان مخموراً مهتزّاً مترنّحاً وتخرج من فمه روائح أشبه ماتكون من روائحنا التي تخرج من أسافلنا ؛ وإن كانت كلماته الزفرة المعتادة قائمة ولا تبتعد كثيراً عن قاموس حياته وتربيته المُعتاد

بدأنا بالخروج عراة إلى الحمام على شكل مجموعات ؛ ذاك الحمّام الذي يحوي على مقعدة وبلّوعة أرضية دون غطاء ؛ والسعيد فينا من حظي بالجلوس على المقعدة الإفرنجية وإن بدت مهمشة ويتسرب منها الماء والفضلات بينما الأرجل تغوص إلى مافوق الرسغ بالمياه النجسة الآسنة وفي غفلة من الجلّاد الذي بالغ بالشرب انتهزنا الفرصة بإيصال بعض الماء إلى الوجه والمرافق بنيّة الوضوء ؛ وما إن انتهت رحلتنا لهذه الليلة بدخول الحمام حتى عدنا مسرعين قبل أن تنقضي عقارب الدقيقة المسموح لنا بها داخل الحمام كي لا نقع بالمخالفة ونعرّض أنفسنا للعقاب ؛ وما إن انتهت مجموعاتنا بالدخول واكتمل النصاب وتم إغلاق الباب بإحكام وبدأنا ننظر إلى بعضنا مع خلال مايتسرب من تباشير نور اليوم الجديد المطل علينا خيوطه من المطلات العلوية المجاورة للسقف وعلى وقع مصائب البعض منّا المحفوف بالخطر ممن دخل معنا الحمّام وخرج دون قضاء حاجته لضيق الوقت المسموح به أو لأن لديه مشاكل صحية ويحتاج إلى مليّنات …. ورغم ذلك بادرت بالطرح كي ننهض ونصلي الفجر بعد غيابنا عنها بوضعيتها الصحيحة لأشهر عدة على أمل أن يُفرج الله عنّا والعودة لأهلنا ووقع عليَّ الاختيار للإمامة ؛ وصليت بهم على عجل قبل أن يُفتح الباب ومع نهاية الركعة الثانية وقبيل التسلم بثوان فُتِحَ الباب وطلّ السجّان وأومئ برأسه وأغلق الباب دون أن يتكلم بأي كلمة ؛ وبعد ظهيرة اليوم نفسه دخل علينا الجلّاد إياد من جديد بجسمه الممشوق وعضلاته المفتولة الموشحة بما يدّعون من سيف علي وزين العابدين وبلباسه المموّه وبكامل صحوته وبيده كبل أسوداً يتدلّى كأفعى صحراوية ؛ وما إن دخل حتى نهضنا مسرعين ووقفنا على قدم واحدة كما هي التعليمات ورفعنا أيدينا للأعلى واستقبلنا الجدران ؛ وبدأ إياد الجلّاد يستعرضنا ويتفحصنا فردا فردا وكأنه يريد أن يتعرف علينا من جديد ويبدو أن له عيون بيننا يسألهم بالإشارة عن سلوك وتصرف أيٍّ منّا داخل المهجع ؛ وصاح بنا أن ندير ظهورنا للحائط ووجوهنا نحوه وبدأ يستعرض الأسماء وينظر بعيونه التي تقدح نارا وغيظاً وحقداً نحونا وسأل سؤاله من منكم صلَّى الفجر …؟.

بدأ الشباب برفع الأيدي والتقدم نحوه لكن أتبعه بسؤال من هو الإمام ؟.

وهنا رفعت يدي وتقدمت نحوه فأمر من صلّوا خلفي بالعودة إلى أماكنهم دون أن يَلمس أحدا منهم وبدأ بوعائي وأفرغ به جميع سمومه ؛ وبت أحمي بيدي رأسي وأضغط بفخذيّ على فرجي كي أقلل الخسائر وأَعْمَل إياد الجلّاد كبله الرباعي بجسدي وبأرجله ركلاً وتعفيساً وهرساً وأذكر أني لم أفقد وعيّي واستمر النِزال من طرف واحد إلى أن كلّت يده و تعبت أقدامه وانبرى لسانه على وقع الشتائم واللعن وسبّ الذات الإلهية وما إن خرج وأغلق خلفه الباب حتى انبرى البعض من رفاق الدرب على تطبيبي وتضميد جراحي ولملمة ملابسي ويبدو أن عقوبتي لهذا اليوم كانت الترويقة ؛ وكان عليّ وعلى مدار شهر كامل الاستعداد اليومي لتناول وجبتي وجرعتي على يد إياد ولم يخجل هذا الإياد يوما من أني أتجاوزه بالعمر لسنوات سيما أن فعلتي التي فعلتها ليست بالكبيرة ولا ترقى إلى فعلة سيدنا موسى بالقتل بل كانت بإمامة ولمرة واحدة طيلة فترة الاعتقال …

مضى الشهر وتهشمت عظامي ومرابطي وبت أرتجف كلما يحين موعد حضور إياد ؛ وفجأة دخل علينا المسؤول الأول عن معتقل حميدة الطاهر وكانوا يُنادوا عليه المعلّم -أبو علي – وبرفقته إياد الجلّاد وتم فتح أبواب الغرف ووقفا معاً بالموزّع وتكلم المعلّم بكلام ليّن وبأسلوب ناعم وقال كلمات مهذبة : يا أبنائي كلنا نُخطئ ونُذنب وعلينا أن نتوب ونقلع عن تكرار الخطأ وعلينا أن نتعاون لنقضي على الإرهاب ؛ والوطن لنا جميعاً ويستحق التضحية ومن كان له حاجة فليطلبها وما إن رفعتُ يدي حتى تقدم إياد الجلّاد من المعلّم وقال له هذا هو الإمام هذا هو الشيخ وهنا طلبتُ الحديث وقلت لستُ بالشيخ ولا بالإمام إنما صليت بهم ودعوت الله عسى أن يُفرّج عنّا ونعود الى أهلنا، وكان جواب المعلّم : كلنا نصلي يا بني وأنا أصلّي والسيّد الرئيس يصلي ولامشكلة لدينا مع الصلاة وأردف قائلاً : ماذا تطلب …؟

قلت له : كل ما أطلبه هو سرعة التحقيق لأني منذ أشهر في هذا المكان ولم يحقق معي أحد .

ردّ قائلاً : انتظر قريباً سأقوم بالتحقيق معك.

لم تمض سوى أيام وفي ساعة يرقّ فيها السهاد نادى المنادي أن أحضروا لي المحامي وما إن أخرجوني مكبلاً بالأغلال مطمّش العيون معقود اللسان وساقوني إلى ظلمة المكان ووضعوني جاثيا على ركبي أمام شيطان وبدأ بالسؤال أنت فلان؟

وإذْ به صوت أبي علي ذاك الذي دخل علينا منذ أيام …

قلت : استبشرت خيراً وقلت نعم أنا فلان …

قال : أنت الخنزير الإمام …؟ وأردف قائلاً لماذا تصلي هنا يا حيوان وووووووو

أدركت هنا بأن التحقيق سوف لايكون على ما يرام وأستميحكم عذراً لأتوقف هنا عن الكلام بسبب الصيام ورغبتي بالنهوض كي أساعد أمي العجوز في إعداد الطعام وإلى أن ألقاكم أقول لكم الف تحية وسلام …

#خربشات أبو غانم
ــــــــــــــــــــــــــــ
درعا – سوريا

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!