أم على قلوب أقفالها (مقالات ملففة ٢٦/ج2) بقلم محمد فتحي المقداد

لصحيفة آفاق حرة :
______________

أم على قلوب أقفالها
مقالات ملفّقة (٢٦/ج٢)
بقلم – محمد فتحي المقداد

مع بداية انطلاق حياتي العمليّة في العام ١٩٨١، انقطعتُ عن الدراسة في الصفّ الحادي عشر الثّانويّ العلمي، بنيّة التحوّل إلى الفرع الأدبيّ، الذي لم يكن مُتاحًا آنذاك في ثانويةّ بصرى الشام للبنين، تابعت دراستي البيتيّة الخاصّة، وأتهيّأ للعام الذي يليه، خلال هذه الفترة كنت أشتغل في دائرة آثار بُصرى، وحصرًا في قلعتها العتيدة بأعمال تنظيف المُدرّج والممرّات والكواليس.
قبل ذلك كان يثيرني التفكير بكيفيّة إحكام إغلاق باب القلعة العظيم المَهُول، من قِبل الحُرّاس المُتناوبين على مدار السّاعة بغرفتهم الصغيرة على يمين الباب لمن يدخل. ورأيتُ بأمّ عينيّ خشبة سميكة طويلة يُدخلونها في فتحة عميقة داخل الجدار، ويبقى جزء منها خلف الباب لإيصاده بقوّة.
في صغري كانت تُثيرني أشكال المفاتيح الغريبة بتعرّجاتها، وأشدّها إثارة ذات التفاريز على الجانبيّة كما مفاتيح السيّارات، مُتعتني مُعاودة البحث كلّما لاحت لي الفرصة في جعبة القشّ المُخبّأة في غرفة جدّتي، المُحتوية على خُرداوات متنافرة من أزرار الملابس والدبابيس وإبر الخياطة ومسامير، وما لا حاجة لاستخدامه إلا على فترات مُتباعدة، جدّتي منيفة رحمها الله دلّلتني، ولم تبخل في استرضائي وما أريده، لم تكن لتبخل في إطلاق يديّ للعبث، واستطلاع حاجيّاتها الهامّة وخلافها.
الأقفال التي كانت شائعة عندنا في سوريّة، هي من الموديلات الصينيّة ذات اللّون الرماديّ والنُّحاسيّ الأصفر، بحيث أن مفاتيحها تتشابه، التشابه كثيرًا ما يخلق مشكلة التغالُط في الاستخدام، ويتماهى بروتين شكله المُملّ مع روتين حياتنا، كلّما تأمّلتُ حُزمة مفاتيحي في هذه الفترة، تزهو نفسي ارتياحًا باحتوائها على أشكال غريبة لمفاتيح لم أكن أحلم باستخدامها أبدًاُ فالتنوع يخلق خيارات تُفرِد الارتياح النفسيّ والرّوحيّ عامّة.
ومن وحي مهنتي في الحلاقة، وخلال جولة سفر قديمة إلى ليبيا، هناك قلّة من الزبائن من يُربّون (سكسوكة – فيصليّة)، المفاجأة المُدهشة أنهم هناك، يُطلقون عليها اسم (قفل)، وسمعتُ من يتندّر على من يعمل (السكسوكة) أو القفل بلهجتهم، أنّ مُخّ هذا الرّجل أو الشابّ بأنه مُقفّل، وبمقارنتي للتسمية؛ وجدتُ أنّها مُستوحاة من شكل القفل الكلاسيكيّ.
وما زال في بُصرى بعض الأبواب الحديديّة الضّخمة والمتينة لبعض المحلات التجارية في القسم القديم من المدينة، ولمن لا يتصوّر حجم مفتاح هذه الأبواب، الذي غالبًا ما يكون بطول بين (٢٥-٣٠) سم، أما قفل هذا النوع من الأبواب؛ فهو مصنوع يدويًا بشكل مستطيل وثقيل الوزن، من العجيب أن هذه المفاتيح (مسحورة)، وهذه الكلمة تعارَفَ النّاس عليها، بأنّ القفل المسحور لا يمكن أن يدخل به مفتاح آخر، وإن تشابه معه في الشكل والحجم، وأذكرُ أنّ بعض الجيران كانوا يتبادلون مفتاحًا مع جيرانهم إذا ما فقدوا مفتاحهم ضياعًا.
أمّا الأبواب الحجريّة المنتشرة كثيرًا في المباني الأثريّة التي تشتهر بها بُصرى مدينتي، فهي في أغلبها ذات ظرفة واحدة (قطعة واحدة)، بينما لا يوجد من الأبواب ذات الظرفتيْن إلّا اثنين من الأبواب، ومن الطريف قفلها من الخلف بقطعة حجريّة صغيرة، توضع تحت مجراه لتمنع انفتاحه، إلّا بصعوبة بالغة، وبشقّ الأنفُس.
والأقفال المعنويّة بمعانيها المتعددّة الواردة في القرآن الكريم، بوصف القلوب كأنها أبواب موصدة بالأقفال العظيمة. فقال الله عزوجلّ: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (24)، والقرآن بمعانيه ومقاصده البعيدة والقريبة، بحاجة إلى تدبّر معانيه، لتستقرّ في نفوس المؤمنين، وتُشكّل بانعاكاساتها الإيجابيّة على السلوكيّات الحياتيّة، نهجًا قويمًا للأفراد والمجتمعات بما خير الإنسانيّة جمعاء، وفي تفسير ذلك ورد: “أقفل الله على قلوبهم؛ فلا يعقلون ما أنـزل الله في كتابه من المواعظ والعِبَر”
وفي مصطلح الاقتصاد والمال والأعمال، كثيرًا ما يتردّد تعبير: “أقفلت سوق مالية على هبوط أو ارتفاع”، ومعلوم أنّ ذلك لك يكن له باب يُقفل، بل هنا بمعنى الإغلاق والتوقف عن البيع والشراء والمضاربة في الأسهم والشّركات.
من المعلوم أن لكلّ باب قفل، وكلّ قفل له مفتاحه الخاصّ، كما أن لكلّ وجه مفتاح أي نقطة ارتكاز ينطلق منها الفنان التشكيلي لرسم معالم الوجه بدقّة، على رأي الفنّان المصري (جورج البهجوري).
و(مفتاح البطن لقمة) كما يقول أهل حوران كما جرى على ألسنتهم، لمن يُدعى إلى طعام عند دخوله عليهم بلا موعد، أو يكون جالسًا من قبل، ويتمنّع تعذّرًا بالشّبع وعدم الرّغبة بالطعام، وأمام رغبة المعازيب بمشاركة الضيف لطعامهم. يقولون ذلك.
ومع التقدّم العلميّ والتقنيّ؛ فقد ازدادت الحاجة للأقفال، اعتبارًا من أقفال الأبواب الإلكترونيّة التي تفتح على بصمة اليد أو العين أو بالأرقام السريّة أو البطاقة الممغنطة، وعلى نطاق واسع مع استخدام أجهزة الهواتف الخلويّة الذكيّة التي تفتح بالبصمة، وصار القفل يطلق عليه (الباسوورد)، وهو ضروريّ لقفل وفتح الإيميلات والمواقع والأجهزة، حتّى خزائن الأموال الخاصّة أو العامّة كما في البنوك. ولم تعُد الحاجة لحُزم المفاتيح، كما جاء الوصف االقرآنعن قارون وخزائنه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (76)، وقفلُ الحساب هو منع دخول مدفوعات جديدة فيه، واستخلاص الرّصيد من مفرداته؛ لتحديد مركز طرفيه. وشاعت فكرة قفل الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعيّ إذا انتهكت المعايير المعمول بها، من خلال تبليغات يقوم بها مجموعة أشخاص، لأنّهم يختلفون فكريًا وعقائديًا معه.
ومنْ قفَل البابَ ونحوَه أي أغلقه بالقُفْل، ومن قفَل سُتْرَتَهُ وقميصه يكون قد أدخل الأَزرارَ في عُراها. وإذا أقفل الطريق وضع فيها حواجز ومنع الدخول والعبور من خلالها، وفي هذه الأيام وتماشيًا مع جائحة الكورونا أقفلت الدول معظم الدّول حدودها البريّة والبحريّة والجويّة، كاحتراز وقائيّ، وإغلاق بعض المناطق الموبوءة في المدن والقرى كذلك للتقليل من تفشّي العدوى على نطاق واسع والخروج عن السيطرة عليه.
وأخيرًا سأقفل ملفّقتي بخاتمة لائقة، كما صار مصطلح القفلة شائعًا في الكتابات النقديّة، وأرجو ألّا أكونُ قفلتُ راجعًا إلى نفسي بعيدًا عن الأقفال وهمومها، لأنّه لم يعُد لديّ ما أقلقُ عليه إطلاقًا. بل أقفلُ ذاكرتي على فكرة قبل أن تطير عصافيرها، وأنساها وتنساني.

عمّان – الأردنّ
٢/ ٩/ ٢٠٢٠

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!