يا حبيبةُ / بقلم : د.عاطف الدرابسة

يا حبيبةُ :
هل تعرفينَ الفرقَ بينَ الحُبِّ وصدى الحُبِّ ؟ منذ وقتٍ طويلٍ ، وأنا أُفكِّرُ باضمحلالِ الحبُّ، وتلاشيهِ ، كأنَّه المستقبلُ الذي يتضاءلُ أمامَ الماضي الغائرِ في الزَّمنِ .
أُحسُّ أنَّ الحبَّ كالمواردِ الطَّبيعيَّةِ ، آخذٌ بالنَّفادِ ، أو كأنَّه الأمواتُ ، لم يعُد لهم وجودٌ في الحياةِ ، إلَّا في أرشيفِ دوائرِ النُّفوسِ ، أو الأحوالِ المدنيَّةِ .
الحُبُّ يا حبيبةُ ، كالخيولِ العربيَّةِ ، لم يعُد لها حاجةٌ في عصرِ الحداثةِ والعولمةِ ، كأنَّه خارجُ دائرةِ الزَّمنِ .
يبدو كأنَّني أرضعُ عواطفي ، أو أستنسخُ مشاعري ، فأرى الهرمَ مقلوباً ، فالقاعُ في هذا الزَّمنِ ، كأنَّهُ القمَّةُ .
أسألُ العارفينَ عن الحُبِّ ، وعن صدى الحُبِّ ، وأسألُ الذين يدَّعونَ العشقَ عن الحبِّ ، فيستعصي عليَّ فهمَ الجوابِ . أحياناً أُحسُّه مثلَ كائنٍ اسطوريٍّ ، لا وجود له إلَّا في خيالِ الشُّعراءِ ، والفنَّانينَ ، والنَّحاتينَ ؛ لذلك لا أستغربُ إن لمحتُهُ في مقطعٍ بأُغنيةٍ ، أو في معزوفةٍ موسيقيَّةٍ، أو في لوحةٍ تشكيليَّةٍ .
لا أعرفُ يا حبيبةُ كيف يغدو العالمُ خارجَ الحُبِّ ، ربما يبدو مُشوَّهاً ، كأنَّه وجهُ امرأةٍ جميلةٍ التهمتهُ النَّارُ ، أو كأنَّه جسدُ طفلٍ أنحلَه الجوعُ .
كلَّما حاولت أن أقرأَ هذا العالمَ ، أجدُهُ مُمتلئِاً بالأنانيَّةِ ، ويملكُ فائضاً من القسوةِ ، وتبدو لي الخطيئةُ جميلةً ، لذلكَ بتُّ أحتاجُ إلى الطَّمأنينةِ أكثرَ ،  فقد غيَّرَ طعمَ النَّومِ في عيني ، ولونَ الثَّلجِ ، كأنَّني أراهُ رماديَّاً ، وأرى الفجرَ يصحو مُبتلَّاً بالدِّماءِ ، والشَّوارعِ معطَّرةً برائحةِ البارودِ ، بات من الصَّعبِ أن أُفكِّرَ بامرأةٍ أشربُ الشَّايَ معها في المساءِ ، أو أدعوها لتحضرَ معي فيلماً سينمائيَّاً ، أو تُناقشُني في كتابٍ ، يتحدَّثُ عن الضَّميرِ ، والأخلاقِ ، أو الخيرِ ، أو الشَّرِّ .
لم أعد مُشتاقاً لحضورِ حفلٍ موسيقيٍّ ، فقد تغيَّرَ عليَّ صوتُ العودِ ، والكمانِ ، والبيانو ، ولم أعد أتقبَّلُ فكرةَ أن نخرجَ للسَّهرِ في ليلةٍ ماطرةٍ ، أو أن نتناولَ العشاءَ في مطعمٍ مُتطرِّفٍ يقعُ في أقصى المدينةِ ، حتى المدينة تغيَّرَ وجهُها وإيقاعُها ، تبدو مُزدحِمةً باليأسِ ، أو بالغضبِ ، بالفقرِ ، أو بالشَّرِّ .
كأنَّني في مدنٍ لا تتقاطعُ فيها الشَّوارعُ ، ولا تتقاطعُ فيها المشاعرُ ، كلُّ المساحاتِ تضيق كأنها الأملُ .
كم قلتُ لكِ : هذا العالمُ بلا حبٍّ ، كالجسدِ بلا ظلٍّ ، أو كالظِّلِ بلا جسدٍ ، كلَّما حاولتُ أن أزرعَ النَّارَ في الشَّمعِ ، حاصرتني الرِّياحُ والعواصفُ من كلِّ الجهاتِ ، وكلَّما حاولتُ أن أُحدِّدَ الاتجاهاتِ أجدُ مؤشرَ البوصلةِ عاطلاً عن العملِ .
 ربَّما يأتي يومٌ نكونُ كلُّنا عاطلينَ عن العملِ ، كما تعطَّلَ الحُبُّ فينا ، ربَّما يأتي يومٌ ، نُصلِّي فيه لإلهٍ صنعَته عقولُنا ، فأخذنَا إلى فضائِه الإلكترونيِّ الرَّحبِ ، وكواكبِه التِّقنيَّةِ ، فنُصبحُ بشراً افتراضيِّينَ ، على الهامشِ ، كأنَّنا قطارٌ يعملُ على الحطبِ ، لا فائدةَ منه تُرتَجى ، إلَّا أنَّه يُذكَرُ ، حين نتحدَّثُ عن تاريخِ تطوِّرِ القطاراتِ .
هامش : أرى العالمَ اليومَ كأنَّه متحفٌ للآثارِ الفرعونيَّةِ ، أو الآثارِ الإغريقيَّةِ .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!