آ النعناع ! النعناع ! الشيبة / بقلم : يوسف بولجراف

لاشك أنكم  عرفتموه  ، هذا بائع  قبضات منسمة  الشاي  متجول ، يجر عربته كل صباح بين دروب الحي أحد أقدم الأحياء في المدينة ! كل سكانه تقريبا مدمنين على  شرب الشاي ، لذلك تجده كل صباح هناك يصرخ بصوته المبحوح المعتاد على مسمع  كل الحي ، حتى الأطفال تعرفه من ترانيم صوته و طريقته الخاصة في المناداة ، يطلق الكلمة مرخمة دون إكمال الحرف الأخير فيها مع تضغيم الوسط ثم سكون ! أ ال نع نا !  تطل إمرأة من الباب  يعطيها ربطة و تمد يدها له فقط  لتسمع منه الله يخلف أ لالة ، تنزل إليه فتاة أخرى  برداء خفيف من ملابس المنزل الصباحية !  يدور حديث بينهما و إبتسامة ،  تسمع فقط حتى المرة القادمة و أكملي الصرف .. ثم يكمل جره العربة   يجب أن ينتهي من الحي كله في غضون ساعة أو أقل ، ف مواعيد فطور السكان هو  واحد ! لا  تختلف طريقة شرب الشاي  من بيت لآخر الكل يفطر في وقت واحد ،و  الكل  في الحي يعرف الكل  بحيواناته الأليفة  ، هذاك قط فلان ، أتى من الزنقة الخلفية !  لا شيء يخفى و كأنهم عائلة واحدة ،الكل أحباب  طبيعي لأنه حي شعبي ، و للشاي فيه مكانة مهمة يلعب دورا إجتماعيا  بإمتياز ، قد تقضي كل  أمورك  في جلسة شاي واحدة ! و قد تكون أيضا وعدا حبي لقضاء  مصلحة :عندما تأتي و سنشرب الشاي !    في جلسة  الشاي العائلية  يدور حديث عن الحياة و متطلباتها  و عن المستجدات و الأحداث ! بين الفينة و الأخرى ينقطع الحديث عند الأخبار المتلفزة فتسمع أحدهم يلزمهم الصمت بجملته : اسمعوا  ماذا يقول هذا المخلوق عنا ! و الله ما يحشموا ، لا تكفيهم كل هذه الزيادة في الأسعار؛  الساعة الحادية عشر صباحا  تقريبا يكون بائع النعناع قد إنتهى إلى آخر درب و منه  يطل على الشارع الرئيسي ، و هنا تتغير إستراتيجية البيع فقد وصل إلى دائرة   الراحة و هي  بعيدة عن منطقة راحته النفسية  ، تكون محفوفة مخاطر ، خصوصا مع المنع ، ليصبح  متأهب بكل جوارحه ، يبيع و منتبه للحكومة ، لا  يدري  في كل لحظة  قد ينزل عليه أحدهم ، لا يعرف من أين !  أنا أيضا لا أعرف  كيف لعمي مسعود أن يختار هذه المهنة الشاقة و هو رجل قد جاوز السبعين  و هو الذي كان يشتغل شاويش في إدارة ذلك المدير المعلوم !هل تتذكرونه ! و هل هذا سؤال حين نعرف كم  تركت له الشركة عند التقاعد ! بعد تصفية معاشه لم يعد له ما يكفيه حتى لمساعدة أبنائه لإكمال دراستهم الجامعية ! صراحة إنه ظلم من نوع آخر بكل المقاييس !إحداهن ماستر و الإبن الأوسط قانون عام ! واحد فقط منهم من خرج عشور بالمعنى المتعارف عليه لدينا  و هو الإتجاه المعاكس  و  لكنه يساعد  في المصاريف  و كثير محنة  على الماستر و القانون !  مع إبتسامته المتجهمة  لهما !” قراو نتوما ،طفروه لي قراو فهاد  البلاد السعيدة ” كيف يعيش الإنسان الفقير في هذا البلد السعيد ! أو بالأحرى المعيشة ممكن يعيش و  يعيش لكن دون ريش ! كيف يحقق أبسط أحلامه ! إكمال تعليم أبنائه مثلا ، شراء فستان جميل لزوجته  أو حتى  له  من حقه يفرح  بقميص جديد ! لا ! الإنسان الفقير ليس له الحق في التفكير حتى لشراء شيء جديد و يلمع ! كيف لا يسأم الفقير تكاليف الحياة اذن ! و مع ذلك تجده دائم النكتة ، كل المعاناة تحول إلى ضحك و تقشاب و استهتار و حتى تهكم  من أولئك أصحاب القلوب المتحجرة ! أتركهم ينعمون  ماذا سيأخذون   معهم  منها !؟

تتوقف سيارة فاخرة بجانبه ، إنها سيارة أحد الأعيان من كبار المدينة ،  يطلب من سائقه النزول لشراء قبطات نعناع له ! رائحته الزكية أنعشت جيوبه الأنفية و جعلته يتذكر كل الإجتماعات المهمة مع أمثاله و  حين  كانوا يبرمجون للاستحقاقات الكبرى و المشاريع المهمة مع التنفيحة بطبيعة الحال ! آ  آ أ أ آ تشن  يطلع من النفوخ ! صينية الشاي و الحلويات من كل الأشكال .هذا  الشخص بسن عمي مسعود تاريخ مشترك فقط مفترق من الناحية تلك ،عارفنها ، كلها و رزقه يعني  و هو  يعرف حتى الأماكن الجيدة لنبتة النعناع في المنطقة ، طبيعي جدا فهو يملك كل القطع الأرضية هناك  التي كانت البارحة مروج فلاحية و أصبحت  الآن   مشروعه السياحي الخاص ،بعد مضاربات خفية مؤثتها  ليس إلا جلسات الشاي بالنعناع  لم تنجو منها غير بعضها و القريبة من الوادي الحار ، و منها كان يأتيه سائقه بالنعناع أيام الإنتخابات  فينبه سائقه أن يشتري كل الربطات المتبقية عند مسعود ، فهي بعيدة عن فيلا جوعان  منافسه اللذود فهو يسقيها من العنصر و أحيانا من ماء النهر على قلته ، ينزل السائق و هو يبحث في جيبه عن دريهمات !  و هل يعقل  أن يطلب من مشغله بضع دراهم  لأشياء تافهة كهذه ! ف المعلم مشغول بالحسابات المهمة التي تؤدى فقط  بالبطائق و الشيكات ! ينزل و يفكر سأضعها في الفواتير ، لكن أي فواتير ! و يعود عند سيده ليسأله : المعلم ! و الشيبة ؟  -”  الشيب نشعلله!! إوا قضينا شغلنا بكري ! أ سير فيساع أ  سير .. البوليسي  ينظر إلينا ، الوقوف ممنوع   ! صبح مخالفات هذا ! أنت  من سيدفع  هل فهمت ؟

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!