الافعى الملتهبة / بقلم : جوتيار تمر/ كوردستان

الكبرياء.. الألم.. الصمت، وغابات عينيكَ المغروستين في كياني.. وأنا مجرد أنا.. طفلة أشقاها الرب قبل الأقدار.. أحاول أن أجد لنفسي ملاذاً أرتمي ولو وهماً.. سراباً بين ذراعيك.. لأجد  ما افتقدُه منذ أن كان القِدم.. حيث الآلهة تسقي رعاعها الخمر، وتسكب على وجوههم قطرات الندى الهاربة من جحيم أيامها.
ذراعيك البعيدتان تغرياني كما الظباء الفتية تـُسيّل لُعاب الأسود الجائعة… كنت منذ الولادة القسرية أبحث عن مكان دافئ أُسكن فيه عذابات سنيني.. كنت أجوب الصحاري مُتحدية وحشة الطريق، ولسعات الشمس الحارقة، ولدغات الرمال الملتهبة.. كنت أرحل بين الأشجار، والغابات.. وحيدة متحدية لدغات الوحدة، وما تخبئه الغابات.. وراء ظلمتها.. السأم من البحث لم يجد لحظة طريقه إلى أعماقي، لكن اغفر لي برودتي الآن.. أكاد أشعر بلدغاته الهالكة تُفني أعماقي، فأنا قد سئمت لعبة الزمن.. سئمت تلك اللوحة الرمادية المعلقة فوق جدران رأسي.. سئمت تلك الألوان الصاخبة.. الهادئة.. الصارخة.. سئمت ضباب الأمنيات التي أكاد اشعر بأنها أثقلت..كاهلي، وتكاد تغرقني باليأس الكامن في واقعها…. سئمت النظرات التي تلاحقني كما الذئب يلاحق فريسته، سئمت الناس من حولي.. سئمت عزاءهم كلماتهم التي أبداً أشعر بأنها مجرد كلمات كذب.. لكنني أستمع إليها.. سئمت كل شيء، لكنني أحتاج إلى كل شيء.. أحتاج لمن يشعرني بأنني مازلت أعيش.. يشاركني ضياعي وتيهي.. أحتاج إلى من يضمني بين ذراعيه.. يمنحني نفسه.. آهاته.. أحتاج لمن يهزني ويجعلني أستفيق من غيبوبتي.. أحتاج كل شيء.. حتى اللاشيء هناك حيث أنا… أحتاجه.
كنت أوغل رأسي في الماء وأظل عطشه.. كنت أوغل جسدي بالرمال وأشعر بأني ما زلت عارية.. كنت أحاول قراءة كل قصة لم تكتب بعد، وأشعر بأن قصتي التي لن تتكرر هي الوحيدة التي أقرأها.
تلك الصور الآتية من حيث اللاشيء.. كانت.. هي مجرد صور لا تفارقني.. عيناه الذابلتان لحد اليأس شفتاه المكسورتان لشدة الألم.. وجهه المليء بالجرأة والغبطة واللاشيء.. صوته الشجي ما زال يرن في مسمعي.. رحيله المفاجئ..شعوري بأنه لن يعود.. ظنوني.. بأني سأظل أبكي لرحيله.. حزن والدتي، صمت والدي.. أكاد أشعر بصيحات الجميع.. آهاتي كل شيء.. كل شيء.. لاشيء.. كل.. لا… تتكرر في اللحظة ألف مرة.. أحاول أن أبتسم.. وأتظاهر أمام الجميع بأني أصدق ابتسامتي هذه.. لكنني أعرف في مكامن اللازمن الآتي بأنها مجرد كذبة أخدع نفسي بها لأني لم أنس.. فانا كنت ولم أزل مجرد طفلة..” امرأة “. متعبة.. تائهة.. في أعماقي تسكن آلام تصيح.. وأماني ضائعة.. أحرقتها الأيام بجحودها اللامنتهي.
هو… صديقي.. طفلي.. حبيبي.. كلهم.. مضوا….. نعم بالأمس القريب فقط سحقت الأقدار بجبروتها وظلمها الجميع.
طفلي.. عيناه.. موته الهادئ.. البطيء.. نبرات صوته الحزينة.. احمرار وجهه.. يأسه.. عناده.. نظراته.. كلها مضت.. تاهت عني..بل أكاد أشعر بأنه تعمد هجر منفاي.. لا أعلم لماذا أبحث عنه الآن دون أي وقت مضى..؟ هل لأني اشعر بأنه لن يعود..؟ أم لأني أفتقده..؟ أم.. لأنه مضى دون أن يودعني.. يتكلم معي.. يبتسم كعادته لي.. يرميني بنظراته الساخرة، القاسية..؟ لكن تراه مَن يكون..؟ لماذا أحبه..؟ لماذا هو دون غيره..؟
ألأنه إلهٌ وثني ضمته جدران معابدي القديمة..؟ أم لعله كان توقي إلى المبادئ العتيقة التي.. يؤمن بها.. أم هو بذاته الحزينة.. بصمته المرهف.. ببريق عينيه اللتين تصيحان ألماً وفزعاً.. بغرابته.. وعزلته، وهدوءه…!
لا أعلم لماذا هذا الحديث الصامت الآن..؟ لكن عندما جاءتني إحدى عابدات تمثاله المصلوب في عينيّ وعلى جدران معابدي.. أردت أن أهمس لها بحبي لهذا الطفل.. الإله المشاكس العنيد.. الصامت.. القابع في أعماقي دون استئذان.. فوجدتها تحمل في طياتها صورة مشابهة لصورتي التي أحملها… أمسكت بها، وقربتها لِمَ أحمله وجدتها نفس العيون الباكية.. ونفس الوجه الحزين.. الغامض..!
فصاحت المرأة الجاثمة في أعماقي إنه هو بذاته.. إنه هو.. حبيبي.. طفلي الذي أُناجيه في وحدتي، وظلمتي، لكن ما لبثت المرأة الجاثمة قسراً في أعماقي تجمع فُتات كبريائها المحروق المتناثر أمام الصورة، وتصيح بعنف أفعى لدغتها أخرى.. إنه لي أنا…؟! ولن أسمح لأية مغارة أخرى أن تأويه حتى لو فرغت بمرور الأيام من سمي أيمكن أن أدعه يمضي هكذا..؟ أيمكن أن أدع جدران معبد وثني آخر تصلبه..؟ أيمكن أن أفقده بعدما أضعت عمري كله للحصول على مفاتيح  الحزن في عينيه..؟ لا.. لن أدعكِ يا ناسكة عينيه.. ولا غيركِ أن تنتزع مني البسمة الخانقة منذ القِدم.. لن أدعه ينظر إلى جدران معابدكِ ولا حتى إلى الآلهة التي تركعين لها كل يوم.. إنه طفلي الذي قال لي ذات يوم بعد أن غرستُ خنجر أمومتي في صدره بأنه مات قبل أن يولد… وسيظل طفلي الذي وأدته بنفسي تحت الرمال حتى أفهمه أنا وحدي.
كم أحب الحقيقة التي كنت أتغاضى عنها قسراً في كونه ميتاً.. إنه يحرقني ويعذبني وهو ميت.. وكم أرتاح لبكائي المرير.. ولأدمعي الحمراء أمام جثمانه الطاهر.. إنه كان ككل ربان الآلهات لا يمكنه أن يتقاسى في عالم.. مليء بالحقد والكراهية.. والخُبث.. لذا كان الموت وحده جديراً بمن يحمل مثل صفاء ونبل مبادئه..!
آه.. نسيتُ زميلتي..! أنظر إليها بعينين لاذعتين.. تفزع مني تحيد بعينيها عني.. أُلاحقها بنظراتي القاسية تهمس لي.. ماذا هل تعرفينه..؟
ماذا.. أنا.. أعرفه.. مَن.. هو.. لكنه ميت.. مات.. ميت! تقو ل بفزع العبد الذي يُصعق بموت الآلهة.. هل مات؟ من قتله؟ كيف ومتى…؟
لاشيء.. لاشيء.. لست أعرفه من.. قد أكون رأيته معكِ أو مع غيرك..؟
تعود هي لتقول أنني منذ أعوام مضت معتكفة أمام محراب عينيه، وقد أمرت الكهنة.. في جميع معابدي.. ببناء صرح له.. وأمرتهم بإغلاق أبوابها..” معابدي ” وعدم فتحها إلا عند حضوري، لأني أريد أن أعبده.. وحدي دون أن يشاركني فيه أحد..!
لكن المعابد لا تغلق أبوابها أمام الراكعين وطالبي الغفران..! أعلم يا صديقتي لكن ماذا أفعل..؟ في حب مزق أوصالي دون أن يعرف هو سر موتي كل يوم أمام وطأة حزن عينيه..!
أ لهذا الحد تحبيه…؟ نعم وكيف لا وقد أمسى البسمة الحقيقية الوحيدة في عالمنا، إنه الوحيد الذي أشعر بأنه إنسان، أنه الوحيد الذي ينظر إلى الحب خارج أسوار الثمن السرير.. إنه الوحيد الذي كسر الآلة القديمة التي بها يمارس بنو جنسه الحب به…!
هل هو…؟ تقاطعني.. الوقت قد تأخر.. سأراك قريباً.. ماذا هل ستعودين..؟ نعم.. نعم سأكون بانتظاركِ.. تخرج وأهرع إلى الباب.. أغلقه.. ثم أرمي المفتاح تحت البلاط.. لا قد أضعف، وأعود إليه لأفتح الباب لها ثانية التقطه، التفتُ يميناً يسارا رباه ماذا أفعل به من مفتاح سيكون فيه حتفي لو عادت…؟النافذة.. نعم كيف لم تخطر لي.. النافذة أهرع إليها.. أفتحها.. أرمي المفتاح دون وعي، أحاول أن أتبعه بنظراتي.. لكنه تاه بالطبع وسط غابة من الأشجار…!
أعود لصورتي.. طفلي..أخاطبه.. بصمت.. أصرخ في وجهه.. ألم تقل لي إنك مُت قبل أن تولد..؟ ألم تقل لي إن عينيك لا تُحبان رؤية النور..؟ ألم تقل لي إن جراحك الدامية لا تندمل..؟ لماذا.. إذا تحبك هي..؟ لماذا تريد أن تشاركني في رُفاتك.. ظِلَ أفعى أخرى..؟ تكلم.. ولا تظل أخرس هكذا.. ألا تشعر بي.. كلماتي الملتهبة تكاد تنطفئ في ذاتي المفزوعة.. أستمع لصراخي المبهم الآتي من حيث اللاشيء، اللازمن.. اللا مكان كيف أصبح مبحوحاً.. مفزوعاً.. منهمكاً كحشرجة وحش ذبيح، وكأنين طفلة إله مشوهة محترقة؟ ألا تسمع لصراخ الأفعى التي استيقظت من نومها..؟ ألا ترى كيف تحركت الأفعى المجروحة..؟ وكيف نطق الألم الكامن المغروس في ذاتها..؟ حتى تكاد تتمردُ.. وتثور على جلدها…! الأفعى في أعماقي تتململ وتحاول جهدها لنفض غبار الأيام الخوالي عن كاهلها… أشعر بأني سأصّير إلى مجرد هباء منثور.. إذا لم تسمعني.. إذا لم أعبر لك وحدك عن عذابي، وإذا ظل الجرحُ ينزفُ مخنوقاً في أعماقي،لا تجعل أيامي كلها أيام موت، ولا تدع كلماتي حبيسة الوهم والضياع.. اسمعني فأنا لم أنطق إلا حينما أثقلت الأيام.. وصمتك، والآلام على كاهلي.. فأردت أن أنفضها..لأمتلكك.. لا لأثير من حولي عواء الذئاب الجائعة.. العطشة…!
أحمل نفسي، وأشعر بأني أسير إليك تحت وطأة المطر..طاقة غريبة تتحرك في مدن جسدي المثخن بالجراح.. صدى طبول وثنية في معابد دهرية ضاعت تحت وطأة أقدام خيول قوقازية.. غازية تدعوني للمثول بين جدرانها العتيقة.. صدى أنين طفل.. أكاد لا  ألمحُ قسمات وجهه الحزين يتسلل إلى عقلي من بعيد، ويلف كياني المشتت.. المرتعش كعصفورة صغيرة تلامس عيناها النور للتو.. الفراغ حولي يضج بالأنين ويهذي.. أجمع شتات ذاتي ، وأنطوي على تمردي، وكرهي .. أحاول أن أسترخي.. أحاول أن أجد الهدوء.. لا أستطيع.. أحاول أن أفتح باب غرفتي.. لا أستطيع.. أحاول أن أرسم لنفسي محراب صلاة لأصلي.. لكن كيف وأنا مجرد، مجرد أفعى هائجة.
أنظر إلى الصورة.. أتأملها.. أضمها لصدري.. بريق عينيه الحزينتين أهدابه تتمرد وأشعر بأن آلامي العتيقة أصبحت سلاسل ملتهبة تشدني إلى ثراك البعيدة… أنت لا تدرك يا طفلي الذي أودعتُك التراب آية براكين ثائرة في الأعماق أكابدُ، وأعاني، لكن.. أقسم بالمطر إنني لم أكن أريد سوى الحقيقة التي غابت عن الجميع في لازمني.. كنت أجري وراء الحقيقة فقط.. لم أكن أريد سوى معرفة ما وراء البسمة التي أراها ترتسم على شفاه طفل ميت.. وأدرك معها ما وراء الهمسة الآتية من جوف عقل طفل يكابد الألم.. وكنت أريد فقط أن أعرفك.. أكثر.. كل الأطفال في مدينتنا كانوا يحبون الدمى.. ويحضنونها لكنهم كانوا هم أنفسهم يُمزقونها، ويلجأون لغيرها عندما كان السأم والملل يصيبهم منها.. لم يكونوا يسمعون… ويبالون لأنينها، وفزعها، ووحشتها.. فأردت أن أعرف أي طفل أنت…! هل أنت منهم..؟ أم أنك طفلُ رمته الآلهة في معبدي العتيق ذات الطراز القديم لتكون لي.. وحدي.. أم…؟
وعندما اقتربت منك.. أدركت حينها بأنك لست سوى إله متمرد على جدران المعابد.. وكلما كنتُ أطوف معبداً كنت أجد آثار أقدامك محفورة على شفاه العابدات الناسكات.. المؤمنات.. فيه.. أدركت.. وآمنت بأنك لست شقياً جاء يسلب العذارى عفتهن.. وكان قلبي حينها.. ينتفضُ عطشاً، فكنت أنتظر غيثك السخي ليهطُل على أراضيّ القاحلة.. حنانك القاسي.. صداقتك الغريبة.. وفاءك.. كنت أشعر بدفء يديك كالدفء الذي يعتري الناسك في المعابد الوثنية.. كنتَ مثيراً.. كل شيء فيك كان بالنسبة لي قيم ومبادئ طالما سمعت أجدادي يرددونها..وقد أضفت إليها لمسات روحك الجديدة المتمردة.. فرددتها وآمنت بها.. وأحلام تائهة أضاعها القطيع في أودية سُكر لا يسكنها سوى الوحوش، فحاولت أن أجمعها.. أجمع أشلاءها، ورفاتها، وضممتها إلى صدري كما تضم امرأة عاقر طفلا لقيطا..! وعندما بدأت أقترب منك أكثر.. وأصطدم بصمتك أكثر.. داهمني كبرياء الأفعى المجروحة، فقسوت، وعاندت، وكنت أدرك تماماً معنى ذلك.. كنت أدرك بأنك ستغدو بعدها مجرد طيفّ، وسترحل كما الطيور تهاجر أعشاشها في كل موسم لعناد الأقدار معها حاولت أن أعاند رغبات نفسي المُلحة.. وكنت أجابهها بعناد الأفعى المجروحة.. وأطوي نفسي بين جدران.. غرفتي، وكنت أردد لن أخرج إليك.. لن أخرج… وكلما كانت عيناي تقعان على صورتك الجاثمة في أعماقي كنت أفزع بأن تسرقك مني إحدى العابدات وكلماتها هي زميلتي التي زارتني فيك كانت تقضَّ عليّ وحدتي.. فكنت أهرعُ إلى الباب لأخرج.. فأصطدم بأنه مغلق وقد رميت المفتاح…! وكنت أواسي هلعي، وفزعي ببعض من سخريات الزمن وسخريات نظراتك فأقول لنفسي كان عليه هو أن يعطيني مفاتيح نفسه الغامضة.. لو كان فقط يقول لي إن مجرد وجودي قريبة منه يشعره بالأمان، وإن مجرد إحساسه بأني في أعماقي الذابلة أهتف باسمه برغم صمتي يرضيه ويفرحه.. ولو كان يقول فقط بأنه يحبني أنا أمه.. لغسلت بدموعي التي هطلت أمامه ذات يوم ممطر.. وجهه الحزين..!
لكنه الألم.. الفزع.. الصمت.. وأتون النشوة… ومغارة الغموض.. ونبع الحزن، وكنتُ أقول لماذا يا طفلي كنتَ تلوي كالحصان المجروح.. عنقك عني وترميني بنظرات تحمل كل معاني السخرية.. والقسوة..؟ نظرات جامدة.. جاحدة.. وتهمس بصوت خفي أصابه الفزع من الأيام، ومني أنا الأفعى المجروحة.. لا بأس! كنت حينها أعود لأنغمس في لا وعيي الأبله.. وسعيي اللاهث لإضاعة شعوري… وكنت أرددُ مع ذاتي فقط أريد الحقيقة..! التي تكمن فيك، ويمكنها أن تحرقني أو تضيء لي حياتي! قد سئمت الضياع وحدي.. كل شيء دار بيننا منذ أن جمعنا المطر في إحدى زوايا معابده الوثنية القديمة….يهددني بالتيه.. ذاكرتي تجبرني على العودة إلى تلك الأيام التي دخلت فيها بموتك إلى عالمنا.. الهادئ… عالم البشرية المخنوق الصامت.. الصاخب… كيف تهامست الألسنة حينها تتساءل من هذا..؟ لماذا هو صامت.. حزين..؟ وكأن نفسي التواقة كانت تعرفك فكنت أردد مع نفسي وذاتي طفل مات قبل أن يولد.. طفل رأيته ذات يوم جاثماً على إحدى مقاعد هذه السيارة بنظراته الخائفة المفزوعة.. وبغموضه العنيد.. وبحزنه الإلهي العجيب الذي يصيح في عينيه.. لا اعلم لماذا اخترتك عندما فكرت بأني بحاجة إلى من.. يأخذ لي شيئاً فقدته، وعاندت إلا أن استرجعه ولو سلباً..؟ لا أعلم لماذا اخترتك أنت صديقاً أبناً.. حبيباً دون غيرك..؟ مع أن المكان كان يعج.. بعويل الكثيرين ممن كانوا يتطلعون… إلى كلمة حب مني.. وكل واحد منهم كان يلبس قناعاً فريداً، كنت أجهل ما وراءه في البداية لكني كنت ما ألبث أن أعرف.. قل لي بحق المطر.. لماذا اخترتك أنت دون غيرك؟ أعلم أنك كنت مثيراً كأحلام العذارى.. ورائع الطفولة.. والرجولة كإله وثني.. لكن قل لي.. فقد سئمت انتظاري.. كنت أراك الألم.. الجرح..الموت..الحزن الأبدي واخترتك.
فقل لي أهي غريزة الأفعى التي تريد أن تعرف.. هل يمكن أن يشارك إنسان أفعى إحساساً واحداً في هذا الوجود الغريب..؟ أم ماذا..؟ قل لي، وكفاك هرباً مني.. لا تمض كما مضى ذات يوم هو.. لكن مهلاً ألا تريد أن تعرف من هو..؟ ألا يمكن أن تنتظر قليلاً، وتمنحني أنا اللاهثة بلا وعي إليك بضع دقائق بلا سخرية..؟ اسمعني إنه حبي الوحيد ما عرفت بوجوده إلا يوم مات ومضى.. ولم يشعر هو بوجودي في هذا العالم الواسع أبداً.. أيام كان حياً..!
هل عرفته..؟ أجل أحببتك أنت، ولكنك بعنادك وخوفك منه لم تكن تريد أن تسمع نداءاتي، وصرخاتي التي كانت وحدتي الدفينة تحت ستار جراحي.. وابتساماتي وضياعي المقنع بعبثي وصداقاتي مع الآخرين تخفيها عنك.
أعلم بأنها سذاجة من مجرد امرأة عابرة في حياة طفل ميت أن تهذي أمامه وتبيح لأدمعها بأن تتساقط عنوة.. أعلم من نظرات السخرية المغروسة منذ الأزل في عينيك بأنها تقول.. لماذا هذه الدمعة..؟ أتريدين يا مجرد امرأة أن أصدق بأنها جاءت لألمي.. لحزني.. لموتي..؟ أعلم بأن الظنون والأفكار والهواجس كلها الآن تقطر رأسك ألماً، وصداعاً… لكن ملتهبة هي الأفعى التي تسكن أعماقي.. وخائفة هي الرغبات التي تستنجدني.. وفي كل لحظة تمر…يُخيل إلي أني أرى من خلال الستائر المسدلة… صورة طفل يئن منذ أمد بعيد صورته تتسلل إلى عقلي، وأشعر بأن ذلك الصوت ليس إلا جزءا من عالمك المشحون بالموت، والغموض، والحزن… لا أعلم لماذا أندفع في حبك.. وحب امتلاكك هكذا مجنونة لا أعي ظمأى لا أتوارى..؟ لكن يا طفلي الميت ألا ترى فزعي…؟ ألا تسمع صراخي..؟ هذياني  فأنا السأم من الحديث يكاد يمتلكني.. إنك لا ترى في عيني سوى آبار من الكتمان، إنك لاتريد حتى أن تسمع هذيان صمتي.. حبي لك يمنعني من هجرك.. من الابتعاد عن ثراك.. لكني مع ذلك أريد أن أعرفك أكثر.. أريد أن أعرف معنى الألم الذي تكابده ويحرقك.. لدغاته.. أريد أن أضع يديّ الباردتين على مواطن الجراح الملتهبة في أعماقك.. أريد أن أرى ولو في أحلامي كيف تنبجس من الأحجار ينابيع تذرفُ ماءً.. أتراني يا طفلي أطلب ما لا يكون..؟ أم تراني أخدع نفسي؟ وكل ما جرى لم يكن إلا مجرد ترانيم دينية كاذبة في أودية تسكنها الضباع الجائعة..؟
طفلي كفاك ابتعاداً.. هرباً.. صمتاً.. فزعاً.. فقد سئمت كل آلهة تحبسها جدران المعابد.. وسئمت كل الوجوه التي يتكرر رسمها أمام مخيلتي في كل يوم يمضي، سئمت الكل.. عداك يا طفلي فأين تمضي..!
أهرع إلى الباب.. أحاول فتحه.. كسره.. تنهمك قواي.. أنهار.. فاهرع إلى النافذة، وأحاول أن أستنجد بالمارة.. أصرخ.. وأصرخ.. لا أحد يأبى.. الأفعى في أعماقي تلتهب، وتبث سمومها في كل زاوية من الغرفة.. تقع قطرات منه على صورتك، أهرعُ إليها.. ألتقطها.. أضمها إلى صدري وأمسحها، وأعود لصراخي.. والنافذة إنها زميلتي عادت تشاركني فيك.. ألوح لها.. لا تراني.. أناديها لا تسمعني أظل أصرخ..أصرخ.. لا احد.. لاأحد.. يسمع.. وكأن كل صراخي يدوي في عمق واد مهجور.. تقترب هي فأناديها باسمك يا طفلي تنتفض وكأن صاعقة أصابتها..تركض إلي.. تحاول فتح الباب.. ضاع المفتاح مني وبقسوة الأفعى المجروحة ” سقط من يدي وأنا أحاول إغلاق النافذة ” تركض هي بأيمان منقطع النظير.. تبحث وسط الأشجار.. تصيح بعنف وجدته.. تتبعها بصرخة أخرى.. تبتسم ثم تتهاوى على الأرض.. لدغتها أفعى.. أحزن.. أصرخ.. أبكي.. أنوح.. أموت.. والأفعى الملتهبة في أعماقي تردد مع ذاتها لقد ماتت إذاً سيكون لي وحدي.. لن يشاركني أحد في حبه في ضمه.. في قبره..!
لكن هل سأظل هنا حبيسة الضياع، والألم، والأشواق إليه تحرقني أعود للصراخ، لكن لماذا أصرخ..؟ لماذا لا أخرج إليه من النافذة..؟ كيف لم أفكر حتى بذلك..؟ فقد طال شوقي إليه..! انظري إليها زميلتي.. أرددها هكذا مع نفسي.. لقد… سبقتني إليه.. أليس طفلي ميتا..؟
تدفعني الأفعى الملتهبة بقسوة إلى النافذة.. أعتليها وصرخة عميقة كدويّ الطبول الآتية من معابد وثنية بعيدة.. كأنين طفل يتسلل إلى أعماقي.. أقع بجانبها زميلتي، التي تشاركني حب طفلي.. وعبادته!  أنظر إليها.. أبتسم.. لاشيء.. لاشيء يا زميلتي.. سوى لقد اشتقت إليه مثلك..!
يتساقط جفناي شيئاً فشيئاً.. أقترب من اللحاق به.. وبكِ…..! أموت.. أموت.. أموت…!
تخرج الأفعى الملتهبة من أعماقي ساخرة.. لماذا صدقت بأن طفلك قد مات..! لم يمت لكنكِ قتلته.. قتلته..!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!