الحــــلـــم / بقلم : الروائي والقاص الأردني توفيق أحمد جاد

 

تلك الرائحة تقتلني، تُميتني.. أنا أعرفها!، قام من نومه صارخاً فزِعًا يعلو بصوته: إنّها رائحة الموت! إنّها رائحة الموت!

أفاقت سعادُ من نومها.. وضعت يدها على رأسه لتقرأ عليه المعوّذات، لعلّه يهدأ قليلاً.

كان العرق يتصبّبُ من وجهه وكأنه جالسٌ أمام فرن بدائيٍّ.. لا يفصله عن ناره سوى مسافة قصيرة.

هدأت نفسه قليلًا وطابت.. نظر إلى وجهها الصبوح.. فانشرحت أساريره. فهي امرأةٌ إذا نظر إلى وجهها سُرّ بها.

حاول اصطناع البسمة.. لكنّها كانت تُخفي في ثناياها خوفًا دفينًا ورعبًا لم تعهده سعاد أبدًا.

سألته باستغراب، وقلبها يعتصر ألمًا: إلى متى هذا الحال؟ ألم أنصحك مرارًا أن تقرأ المعوذات ودعاء النوم قبل أن تخلد لفراشك! انت لستَ مريضاً، لا تعاني شيئا، فقد ذهبنا إلى الطبيب النفسي، بل حتى زرنا الشيخ أبو محمد مرات ومرات، وقد أجمعا أنك لا تعاني شيئًا.

نظر محمد إليها نظرة تائهة، وكأنه يقول لها: أنت تقفين إلى جانبي بحزمٍ وتهدّئين من روعي، لا شك في ذلك. لكن، هناك مشكلة.

نهض من فراشه، اغتسل، وعاد لغرفته، أمسك المصحف لتلاوة القرآن لتقرَّ عينه ويهدأ.

مضت سويعات قليلة، وهو يفكر، ويسأل نفسه: “ما الحل؟ لقد ذكرتُ أعراض ما أنا فيه للجميع، لكنّني لم أجد من يرشدني إلى الحل حتى الآن”.

فكّر.. فخطر بباله أن يسافر فترة قصيرة، فربما بتغيير الجو والأشخاص من حوله، يخرجه من عالمه هذا، ليدخل في عالم آخر.

تنبّه للفكرة. فذهبَ إلى سعاد وقال لها: عزيزتي، ما رأيكِ لو ذهبنا في رحلة داخلية نغير فيها أجواءنا، فربما تُريح نفوسنا وتُهدئني؟

قالت: فكرة جميلة، إلى أين الوجهة؟ ما رأيك بالعقبة؟ فنحن في شهر شباط، وفي هذا الشهر تكون الأجواء ممتعة.. والله إنها فكرة ممتازة.

قال: إذًا غدًا تُجهّزين الأولاد، لننطلق فجر بعد غد بإذن الله.

قالت: حسناً، ولكن، أخبِرْ أخي أحمد ليكون في استقبالنا.

في اليوم التالي، استيقظ محمد باكرًا، تفقّد سيارته وجهّز لوازم الرحلة، سار فجر اليوم التالي على مهل، فالطريق تستغرق خمس ساعات للوصول، وأحمد يرجع من عمله في الميناء بعد خمس ساعات، فكان لا بدّ له من أن يسير على مهلٍ وتأنّ.

كانت الطريق ممتعة جدًّا، حيث شغل الراديو على أغان شعبية، وبدأ الأولاد يتفاعلون، ويرقصون كأنهم في عرس شعبي حقيقي.

وبينما هو يقود السيارة، كان يختلس النظرات إلى أولاده ويبتسم مسرورًا.

وظلّوا كذلك، حتّى وصلوا “رأس النقب”، اقترح محمد أن يتوقفوا لتناول طعام الإفطار، فوافقوا فورًا.

كانت هناك لسعة برد في الجو، فاقترحت سعاد أن يتناولوا طعامهم في السيارة، وكان لاقتراحها صدىً إيجابياً في نفوسهم جميعًا.

كان أحمد قد أخذ مغادرة لمدة ساعتين من عمله؛ لإحضار لوازم الغداء، وما أن فرغ من ذلك، حتى وصلت عائلة محمد، استقبلهم بحرارة بالغة، وعرض عليهم الدّخول للراحة والاستحمام، حتى تنتهي زوجته سامية من تحضير الغداء.

وبينما محمد مستلقٍ للراحة، عاد ليراوده ذلك الحلم. لا بدّأنه لحقه بمركبةٍ أخرى أو تسلّل إلى حقيبةِ ملابسه، ليقوم بهجومه الشرس على محمد، وقت راحته.

نهض محمد، وخرج إلى حديقة المنزل، لم يكن هناك سوى قطتان.. فوقف ينظر إلى القطط ويفكر، حتّى راودته فكرة أنَّ الدواء أحيانا يكون من نفس الداء.

دخل للبيت مسرعًا، وطلب من سامية أن تعطيه “جلد الدجاج”، أخذه.. وقدمه للقطط، وجاء بالماء ووضعه أمامهما.. لعل في إحسانه لهما مخرجًا مما هو فيه.

على الأرجح هذا هو مخرجه، فقد قتل محمد يومًا ما قطة.. ربما كانت السبب في بلائه، و رعاية أخواتها القطط ربما يكون تكفيراً لذنبه.

سُرَّ محمد كثيرًا لذلك، ودخل، وتمدّد على فراشه، حتّى أيقظته سعاد للغداء.

نهض من نومه سعيدًا.. فالحلم أخيرًا غادره إلى غير رجعه.. العلاج كان في الماء و جلد الدجاج.. أما هو، فقد بدأ منذ ذلك اليوم، يعطف على كل الحيوانات ويحنّ عليها. نظر من حوله وتساءل في نفسه عن الكابوس الذي راوده، نهض، وقبل أن يخطو نظر باتجاه الروزنامة المعلقة على الحائط، طالع التاريخ بإمعان .. ابتسم ثم مضى.

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!